ثلاثة خبراء عرب لفتوا انتباه صانع القرار العربي إلى قرب زمن القحط ، ونضوب النفط، وشح الماء، وتصحر الشريط الأخضر من أرض العرب، وتحول الشتاء إلى صيف جاف، والصيف إلى فصل لا يوصف، وما بينهما ربيع لا خضرة فيه، وخريف ليس للزارع فيه ما يجنيه، ومع ذلك يزعم أحدهم، من القلة المكرمة بجائزة نوبل، أن في صحاري العرب ثروة لا تنضب، وفرصة لتحويل العرب من تجار نفط وزفت، إلى أمة تسطع شمسها من جديد على الشرق والغرب. * ما نشرته يومية "الشروق" الأسبوع الماضي، حول توقعات خبير مناخ جزائري، لما سيكون عليه مناخ البلاد في العقد الثاني من هذه الألفية، هو أول تحذير علمي جاد لتداعيات حالة الاحتباس الحراري على المناخ، في بلد صحراوي في ثلاثة أرباع جغرافيته مثل الجزائر، وإن كنت قد اطلعت منذ أكثر من عقدين على دراسات أوروبية حول التطورات المناخية بحوض البحر الأبيض المتوسط، قبل خروج الحديث حول الاحتباس الحراري من الدوائر العلمية إلى الإعلام والرأي العام. وكانت إحدى هذه الدراسات قد توقعت حدوث تحولات عميقة في مناخ دول الحوض الغربي للمتوسط في بحر خمسين سنة، تنتقل فيها أجزاء واسعة من جنوب أوروبا إلى مناخ يشبه المناخ السائد اليوم بالهضاب العليا في دول المغرب العربي، بما يعني انتقال الشريط الساحلي الأخضر لدول شمال إفريقيا إلى المناخ الذي ساد دول الساحل الإفريقي في الثمانينيات. التحذير احتل وقتها حيزا إعلاميا ضيقا، كما لم تسجل أية ردة فعل للتحذير المناخي الجديد، رغم صدوره في زمن بات الوفاق فيه تاما في الأوساط العلمية كما عند صناع القرار على المستوى الدولي، على أن المعمورة بأكملها دخلت حقبة غير مسبوقة من التغيرات المناخية الدراماتيكية، خارج السياق الطبيعي لما سجل من تغيرات مناخية هي من طبيعة الحياة على الأرض. حين تقلع السماء... تقرير الخبير الجزائري لم يتجاوز الإحاطة بالظواهر الفيزيائية للتغيرات المرتقبة، من جفاف مستدام، وتوسع المساحات القاحلة، وشح في مياه الري والشرب، وتناقص في الرطوبة بعموم الشريط الساحلي، مع تدهور خطير للغلاف الأخضر، وإتلاف متواصل للتربة الفلاحية، ولا ريب أن تلك حدود ما ينتظر من خبير في المناخ، ليأتي دور الخبير الفلاحي، وخبراء آخرين في إدارة الموارد المائية، وإدارة المدن، والاقتصاد، للإحاطة بتداعيات التغير المناخي المرتقب على مناحي كثيرة من حياة الناس، قبل أن تتضح الصورة عند صناع القرار من السياسيين المعنيين بتدبير قضايا الأمن القومي، والاستجابة لحاجات معيشية حيوية، مثل توفير مياه الشرب، ومياه الري في بلد، يقول عنه خبراء المناخ إنه آيل إلى حالة من القحط الكامل، وإلى ما انتظام مواسم شتوية جافة. واقع الحال أننا لم نكن بحاجة إلى مثل هذه التحذيرات من خبراء المناخ، لكي نستوعب التهديدات القادمة من جهة شح المياه، وذلك لأننا في الجملة أبناء الريف، حتى وإن سكنا المدن منذ حين، فما زال يسكننا حس الفلاح، ونعلم أن السماء لم تعد ترسل علينا مدرارا منذ عقدين أو ثلاثة عقود، وأننا قد حلبنا البقرات السمان في العقد الأول من الاستقلال، قبل أن تغازلنا السنوات العجاف ابتداء من منتصف السبعينيات، كما في القطاع الغربي من البلاد الذي كان أول من أحاط بتداعياتها على القطاع الفلاحي أولا، ثم على حصتنا من مياه الشرب، وكان من آثارها الأولى افتقار متسارع للريف بالغرب الجزائري، الذي طالما كان يشكل سلة الجزائر الأولى، قبل وأثناء وبعد حقبة الاستعمار. ...ويصبح نفطنا غورا من الواضح أن السنوات الأخيرة قد ألحقت شرق البلاد ووسطها، بما كان من قبل حالة قاصرة على غرب البلاد، وأن الريف الجزائري آيل إلى مزيد من الافتقار، وهي نتيجة معلومة للجميع، نرى بوادرها في الزحف الريفي المتواصل، وفي إعادة بناء المدن القصديرية حول الحواضر، وقد يكون هذا أخف أضرار الحالة المتوقعة، بالنظر إلى التداعيات الأخرى الأخطر على الأمن والاستقرار، كنتيجة متوقعة لشح المياه، وتقلص الموارد الزراعية، في بلد لم ينجح خلال خمسة عقود من الاستقلال في صياغة بدائل يعول عليها في الصناعة والخدمات، والتنافس في الأسواق الخارجية ببضائع غير بضاعة المحروقات. خبير جزائري آخر بشرنا بما هو أسوأ على المدى القصير بقرب نضوب المحروقات، مع تباطؤ حركة الاستكشاف، فتوقع أن الاحتياطي من النفط والغاز سوف ينضب في بحر 16 سنة إلى ربع قرن بحجم التصدير الحالي، وفي كل الأحوال فإن اقتران قرب نضوب النفط مع هذا التفاقم المتوقع في مناخ البلاد في حدود العشرينيات من هذا القرن، سوف يضع صانع القرار أمام واقع معقد، بل وميئوس منه، إن لم يبادر صانع القرار فورا إلى صياغة مقاربة استباقية، تحول الأزمات المتوقعة إلى فرص خلاص غير مسبوقة لوضع مجمل الاقتصاد الوطني، وإدارة مواردنا المادية والبشرية، وتحريكها على سكة سليمة، وفي مسار تنموي قادر على تحقيق التنمية المستدامة. شمس العرب قد تسطع على الغرب عالم مصري كبير، حائز على جائزة نوبل في الكيمياء، حاول منذ أسبوع لفت انتباه صناع القرار في العالم العربي إلى الثروة الهائلة التي ينام عليها ويعطيها بظهره، ممثلة في الطاقة الشمسية، مع توفر العالم العربي على مساحة مضاءة لقرابة 11 شهرا في السنة، وعلى امتداد 14 مليون كلم مربع؛ أي: 1,4 مليار هكتار، وقد خص بالذكر الجزائر، التي تمتلك أعظم احتياطي في العالم بربوع الصحراء الكبرى. المتابعون للملف الطاقوي على المستوى العالمي بينهم إجماع على أن الطاقة الشمسية هي التي ستعوض الطاقة الاحفورية (فحم- نفط- غاز) وأن الطاقة النووية وطاقة الرياح، وكهرباء المجاري المائية، وحركة المد والجزر، والحرارة الجوفية، سوف تكون على الأكثر طاقات إسناد، في منظومة طاقوية، يكون الدور الرئيسي فيها للطاقة الشمسية التي تراكمت بشأنها عدة مقاربات تكنولوجية، بدءا بتقنية الاستقطاب عن طريق الخلايا الشمسية، وانتهاء بتكنولوجية "الفورتيكس" والقلاع الشمسية العملاقة، التي تعتمد على تسخين الهواء كمحرك للتربينات، ومعظم هذه التقنيات بسيطة هي في متناولنا، لا تحتاج معها سوى إلى سياسات استثمارية جريئة، هي في متناول الدول العربية، وفي متناول بلد مثل الجزائر. زراعة على الرمال بماء البحر في مقال سابق تعرضت لذات الموضوع، وحاولت الاحتجاج لسياسة تنموية مستدامة، تقوم على الربط العضوي بين ثلاثة قطاعات: الطاقة والمياه، والزراعة، وبينت كيف أن الفجوة التكنولوجية القائمة بيننا وبين الشمال المصنع واسعة، وستظل كذلك لعقود كثيرة، لا نملك فيها وسائل الدخول في منافسة مع الغرب في أسواق التقنيات العالية والخدمات الحديثة، أو نقوى على منافسة الدول الآسيوية الصاعدة (الهند والصين) في سوق المنتجات الاستهلاكية، والتجهيزات المنزلية، وعتاد النقل والمواصلات. وتبقي حظوظ مشاركتنا في التقسيم العالمي للعمل، ولكعكة التجارة العالمية، تبقي قائمة في مجال الطاقة والزراعة، بعد التحكم في منظومة تحلية مياه البحر، وإدماج القطاعات الثلاث: الطاقة البديلة، والمياه، والزراعة في سياسة تنموية مستدامة، يرصد لها الجزء الأكبر من عوائد الطفرة النفطية، حتى ولو على حساب حاجات حقيقية أخرى في السكن، والمنشآت القاعدية، لأن ذلك سوف يمنحنا خارطة طريق واضحة المعالم، ليس فقط لمواجهة القحط القادم، والسنوات العجاف المعلنة، بل يفتح آفاقا واعدة لقيام صناعات كثيرة ومتنوعة، نستطيع أن نحقق فيها السبق والتفوق، وفي الحد الأدنى القدرة على المنافسة. قطاع الطاقات البديلة (الرياح والشمس) يحتاج إلى بناء قاعدة صناعية لا أستطيع هنا إحصاءها بالتفصيل في هذا المقال، بدءا بصناعة وتوطين الأنظمة التكنولوجية لصناعة وتحويل الطاقة، وانتهاء بصناعة مكونات شبكات نقل وتوزيع الطاقة. وفي قطاع إنتاج بدائل للماء الطبيعي عبر نظم التحلية المدمجة في نظام إنتاج الطاقة الشمسية، سوف تفتح أمامنا آفاقا واعدة لصناعة حقيقية، ودورة مفتوحة لتنمية التقنيات وتطويرها، كما أن استحداث مقاربة جديدة لزراعة مرتبطة بالطاقة البديلة والمياه المصنعة، سوف يدفع نحو بناء قاعدة واسعة للفلاحة المتطورة، منفتحة على الابتكار والتطوير التكنولوجي. 1 كلغ من الذهب الأخضر ب 15.0 يورو في السنوات الأخيرة، احتلت الجزائر دور الريادة في مجال بناء قاعدة صناعية لتحلية مياه البحر بدأت تأتي أكلها، وهو خيار ينبغي أن نحسبه للرئيس بوتفليقة، مع ما نرصده من مآخذ على المقاربة التي اقتصرت على استيراد التكنولوجية بطريقة المفتاح باليد، دون محاولة إغراء الشركاء على توطين صناعة تكنولوجية تحلية المياه، وهي تكنولوجية بسيطة قابلة للتوطين. كما يعاب على البرنامج ذلك القصور الكامن في صرف النظر عن تكنولوجيات التزاوج بين إنتاج الطاقة الشمسية وتحلية المياه، وأخيرا فإن برنامج تحلية المياه يبقى قاصرا على توفير مياه الشرب، والاستجابة لحاجات سكان الساحل، وتجاهل حاجات البلاد لمياه الري الشحيحة أصلا، والتي سوف تتفاقم مع القحط القادم. خبراء كثر يجمعون على أن التوصل إلى إنتاج المتر المكعب الواحد من الماء، بكلفة دون 0,15 يورو (قيمة الكيلوغرام الواحد من القمح في الأسواق العالمية) يفتح بالضرورة الأبواب أمام قيام زراعة صحراوية للحبوب، قادرة على تحقيق مردودية تفوق 100 قنطار في الهكتار الواحد. دول خليجية كثيرة، وجارتنا ليبيا، جازفت ببرامج لإنتاج الحبوب بكلفة فاقت اليورو الواحد للمتر المكعب من الماء. الدراسات التي يمكن لأي مواطن أن يطلع عليها بمواقع متخصصة على الشبكة، تبين إمكانية والتوصل لإنتاج مياه التحلية بكلفة دون 0,15 يورو. القحط القادم ليس قدرا، وبالإمكان تحويله إلى فرصة لبعث سياسة تنموية مستديمة، تبدأ بإعادة النظر في سياسة إنفاق الدولة، وترشيد الاستثمار والتجارة الخارجية. وفي هذا السياق، لم أفهم زوبعة الانتقادات التي أحاطت بالقرارات الحكومية الأخيرة بتجميد قروض الاستهلاك، مع أنها استجابت في نظري لمطلب شرعي، بحماية المواطن من هذا السياق الربوي الذي بدأ يرتهن قوت أطفالنا، كما استجاب للعبر المستخلصة من الأزمة المالية العالمية، وكنت آمل أن تذهب الحكومة إلى أبعد من ذلك، بإلغاء القروض الربوية في مجال السكن، واستبدالها بقروض حكومية من دون فائدة، ما دامت القروض موجهة للبناء الاجتماعي الفردي. هذه الخطوة الأولى نحو ترشيد الإنفاق تحتاج إلى خطوات أخرى تلاحق الإنفاق الحكومي العبثي، وإنفاق المؤسسات والأفراد، باستحداث نظام توفير وطني لمدخرات الدولة والمؤسسات والأفراد، وتجنيد هذا التوفير لتمويل سياسة وطنية طويلة النفس في الميادين الثلاث، وتجتهد لخلق قاعدة صناعية في المجالات الثلاث، تكون قادرة على إغراء الاستثمار الأجنبي والعربي على وجه التحديد. 1400 مليون هكتار تنتظر الأحياء من العرب غير أن ذلك لا يكفي وحده إلا إذا توجهنا إلى أشقائنا العرب بمشروع تنموي مشترك، يستثمر عوامل التنمية الثلاث الكامنة في العالم العربي: وهي توفر العالم العربي على قرابة 2000 مليار دولار من الأموال المهددة على الدوام في السواق الربوية العالمية، وامتلاكه لمساحة جغرافية هي الأكثر إضاءة في المعمورة تفوق 14 مليون كلم مربع، وأخيرا توسط العالم العربي بين ثلاث قارات، يسكنها ثلاثة أرباع سكان العالم، بما يمنحه سوقا غير محدودة لتسويق الطاقة الشمسية. إحدى التقنيات التي بدأ في تصنيعها لإنتاج الطاقة الشمسية تجمع بين إنتاج الطاقة عبر حقول واسعة من البيوت البلاستيكية المستعملة أيضا للإنتاج الفلاحي، ومع القليل من الجهد الإبداعي، والاستثمار في البحث العلمي، يمكن المزاوجة بين إنتاج الطاقة ومياه التحلية، والزراعة. بناء مثل هذه السياسة يحتاج إلى ترسيخ القناعة عند صانعي القرار أولا، كما عند المواطن، على أنه لا خيار لنا حيال ما يتوقعه الخبراء من اختلال وتقلبات خطيرة في المناخ، وأن أقواتنا ومشاربنا مهددة، وأننا، بلا مراء، أمام أخطر تهديد على السلم والأمن والاستقرار، وأننا، مع كل ذلك نمتلك الوسائل والموارد المادية والبشرية لمواجهة هذا التحدي، وأننا نستطيع تحمل الجهد والتضحية بالكثير من وسائل الرفاهية، طالما نرى صاحب القرار مقبلا على سياسة تضمن على الأقل لأبنائنا قدرا من الاكتفاء الذاتي من حاجات الطاقة والمياه والغذاء، فنحن أبناء أمة عاشت لقرون تحت الخيام، واقتاتت على الأسودين، ولن تتردد أبدا في التضحية برفاهية جيل إذا كانت على يقين أن أبناءها من الجيل القادم سوف ينعمون ببلد أمن لا يخشون فيه تقلب مناخ الطبيعة الأم، أو تكالب أمزجة الأمم من حولهم.