سبعة ملايين مؤتزر بالألوان التي اصطفاها وزير التربية للدخول المدرسي الجديد، لا تكفي لستر عورات منظومة تربوية فاقدة للون والمذاق، قد تقدمت فيها الردة على الهوية واللسان خطوة بعد خطوة، وتحولت فيها "غنيمة الحرب" إلى رأس حربة، في "حرب الاسترداد" القائمة على قدم سوداء، وساق ملتفة بأكثر من ساق، ونجحت سياسة الإصلاح بالفاسد، في تحويلها إلى كتاتيب لتخريج ما نحتاج وما لا نحتاج من أعوان للدولة الفاشلة. * سوف يتوجه قرابة سبعة ملايين من أبنائنا وبناتنا إلى المدارس في موسم دراسي جديد، الجديد فيه إلزام أبنائنا وبناتنا بارتداء مآزر موحدة اللون بالأزرق والأبيض والأحمر الفاتح، وكأن أحدهم أراد أن يلبس أبناءنا عنوة ألوان علم بغيض، أسقطه الشهداء منذ نصف قرن، ربما بدعوى فرض حالة من الانضباط في منظومة تبحث عن عافية مفقودة، وهوية مسلوبة منذ بداية تنفيذ الإصلاح. * مآزر "تريكولور" لستر عورات تعليم بلا لون * القرار جاء متزامنا مع قرار تغيير عطلة نهاية الأسبوع بحجج واهية، وفي تجاهل تام للمؤسسة التشريعية، سوف ينتهي لا محالة بعد حين إلى فرض نهاية الأسبوع المسيحية، بحجة أن البلد لا تحتمل عطلة نهاية أسبوع من يومين، كما هو الحال مع القرار الجديد، على الأقل بالنسبة للمنظومة التربوية. * ما ينبغي أن يستوقفنا في القرارين هو الجانب الارتجالي في تصور وصياغة وتنفيذ قرارات لها تأثير بالغ على حياتنا اليومية دون أن تشرك المؤسسة التشريعية على الأقل، في تداولها بالدراسة والنقاش، واجتهاد الجهاز التنفيذي في إقناع الشركاء في السلطة على اعتبار أن البرلمان هو جزء من الحكومة، يحمل معها أوزارها، ويتحمل معها تبعات سياساتها سلبا أو إيجابا. * ولأن القرارين مُررا والناس في غفلة من أمرها، فإن الحكومة لا تملك أن تمنع العامة والخاصة من التشكيك في الخلفيات السياسية والعقائدية، والدوافع الخفية التي قادت إلى تعديل نهاية الأسبوع المختلف حولها منذ عقود، وفي عجالة أربكت معظم إدارات ومؤسسات البلاد، في محاولة لفرض الأمر الواقع، وقتل أية محاولة لتشكيل معارضة للقرار، حتى من داخل مكونات السلطة، تماما كما مرر بالقوة مشروع إصلاح المنظومة التربوية بالنتيجة الكارثية التي لم تعد الحكومة قادرة على التستر عنها. * الردة في الهوية التي تسبق الاسترداد * بعد أسبوع من الآن، سوف نشاهد بشوارع مدننا وقرانا تدفق سيل من تلاميذ الأطوار الثلاث نحو أبواب المدارس والمتوسطات والثانويات، مشكلين بألوان مآزرهم، ثلاثية راية المستعمر القديم الذي لا يبدو أنه قد رحل، أو أنه يحقق على الأقل، على مستوى المنظومة التربوية عملية استرداد مدروسة، تعمل بسياسة الخطوة خطوة. وكانت الخطوة الأولى الحاسمة قد تحققت، مع تمرير الإصلاح، الذي وإن كان قد نجح في تفكيك المدرسة الأساسية، وتخريب مكتسباها في مجال استرجاع مقومات الهوية الوطنية، فإنه لم ينجح حتى الآن في إعادة بناء منظومة تربوية حديثة، قادرة على تخريج ما تحتاج إليه البلاد من كوادر وإطارات وفنيين ومهندسين، إلا أن الإصلاح قد حقق عودة لغة المستعمر لتدخل في منافسة اللغة الوطنية ابتداء من السنة الثانية، واقتحام المقرر من المواد العلمية بعد أن كانت المدرسة الأساسية قد نجحت في تعريبها، وأخيرا تعميم التعليم باللغة الفرنسية في معظم الكليات والمعاهد. كل ذلك تم، دون أن يكون للمواطن ولأولياء التلاميذ والطلبة رأي، أو تستشار الهيئات الأكاديمية وإطارات سلك التعليم، أو تشرك المؤسسات التشريعية وممثلي الشعب. * تغييرات كبيرة شهدتها البلاد، وقد تعاقب على رأس السلطة أربعة رؤساء، وعدد لا أحصيه من رؤساء الحكومة، وتشكيلات وزارية، تحقق فيها التداول على جميع الوزارات باستثناء وزارة التربية، التي يتوارثها صاحبها، وكأنه الحجر الأسود من البيت المقدس الذي يبسط له الرداء، ليرفعه شيوخ قبائل السلطة كلما أذن فيهم لرفع القواعد من بيت حكومة جديدة. * توزير مدى الحياة على تعليم فاقد للحياة * حالة فريدة، لم أجد لها نظيرا، لا عند جيراننا من "المتعودة" على توريث الحكم، ولا عند الجار الجنب والصاحب بالجنب في الاتجاهات الأربع، حتى أنه صار الثابت الوحيد المتوقع، والمرتقب بلا ريب عشية أي تغيير حكومي. لا شك أن للرجل مواهب لا يعلمها إلا الله وأصحاب القرار تكون قد شفعت له الانتقال من وزير مسؤول عن منظومة تربوية قدح فيها قادة البلاد، وسبتها أحزاب السلطة والمعارضة، وشتمها الإعلام كما لم يقدح في أي قطاع آخر، إلى وزير مؤتمن على صياغة الإصلاح وقيادته بالنتائج التي نراها. * لا مراء أن المنظومة التربوية كانت بحاجة إلى إصلاح، مثلها مثل أية منظومة مرتبطة بتطور الحاجات، وتغير الأهداف. ولا شك أن المنظومة التي أسست لخدمة نظام الحزب الواحد، والاقتصاد الموجه، لم تعد صالحة للوفاء بحاجة بلد انتقل إلى التعددية السياسية والاقتصاد اللبرالي. وكان يفترض أن يسبق إصلاح المنظومة التربوية، إعادة صياغة الأهداف وتحديدها، وهو من مهام الساسة والقادة، حتى وإن كان الحكم الراشد يملي على القيادات الانفتاح على أكثر من شريك في تحديد الأهداف ورسم المعالم الكبرى لمنظومة في أهمية وخطورة المنظومة التربوية، وليس تفرد فريق من المختصين والبيداغوجيين، أيا كانت كفاءتهم، لأن تحديد أهداف منظومة تربوية تقرر مصير أجيال من طلبة العلم، وتؤثر في سياسات إدارة البلاد، لا يمكن أن توكل لمجموعة من التقنقراطيين، بل تعني المجتمع السياسي، والمجتمع المدني، وعموم المواطنين ومنهم أولياء الطلبة والتلاميذ. * من يصلح ماذا لخدمة "من" أم "ماذا"؟ * حتى الساعة، وبعد مرور نصف عقد من الزمن عن تنفيذ الإصلاح، لا أرى أن الجهة السياسية المشرفة على التعليم قد أحصت العيوب والنقائص ومواطن القصور في المنظومة قبل إصلاحها، وإلا كانت بدأت بإحداث تغيير على مستوى قيادة وزارة التعليم، وإن لم تحملها مسؤولية ما أحصته من عيوب وتقصير، فعلى الأقل، تحملها سوء الإدارة، وتنشد عند غيرها كفاءات جديدة، ودم حديد لصياغة الإصلاح وتنفيذه، وذلك أقل ما كان يمكن أن يدفع به في اتجاه تحسيس جميع المعنيين بإصلاح المنظومة بضرورة التغيير والإصلاح. * في الدولة الحديثة، وكيفما كان نظام الحكم، فإن المنظومة التربوية توجه لتحقيق ثلاثة أنواع من الأهداف: الأول يتصل بقدرة المنظومة على تكوين ما تحتاجه الدولة من كوادر وإطارات، تفي بالوظائف الملكية للدولة، مثل أسلاك الإدارات الكبرى، والأمن والقضاء، والمالية والمصالح الخدمية، مثل الصحة والتعليم وما إلى ذلك. * والنوع الثاني يفي بتوفير الكوادر والإطارات والتقنيين والفنيين وذوي الخبرة لقيادة المشاريع التنموية، وتحديدا المجالات التي ترغب السلطة القائمة، أن تحقق فيها للبلد قدرا من التفوق. وإذا كان النوع الأول مشتركا بين الدول، مع مراعاة الخصوصيات السياسية والحضارية والثقافية، فإن النوع الثاني هو الذي يعول عليه لتحقيق التمايز، وقياس مقدار نجاح المنظومة التربوية من عدمه. * إلى جانب هذين الهدفين، فإن جميع الدول تعول على المنظومة التربوية لتكون الوعاء الذي تصهر فيه وتدمج وتصاغ مقومات الشخصية الوطنية، وتزرع فيه بذور المواطنة الصالحة، بصرف النظر عن المرجعية المعتمدة دينية كانت أم علمانية صرفة، وترتقي فيها بمقومات الهوية المشتركة، الكفيلة بتحقيق العيش المشترك، والاندماج والوحدة، ومعها السلم الاجتماعي. * "كتاتيب" ناجحة لتخريج أعوان الدولة الفاشلة * على ضوء هذه الأنواع الثلاث من الأهداف، ومع الاعتراف بمشروعية وجود خلافات كبيرة أو صغيرة داخل المجتمع الواحد، يمكن أن نحكم على المنظومة التربوية بالصلاح والكفاءة أو إدانتها بالقصور. * فمع كثير من التجاوز والتسامح، يمكن أن نسلم أن المنظومة التربوية قد استطاعت، قبل وربما حتى بعد الإصلاح، أن توفر الإطار والكفاءات التي تحتاجها الدولة للوفاء بمهامها الملكية في الإدارات والمصالح الخدمية، وقد تحقق لها قدر معقول من الاكتفاء الذاتي، ولم تعد بحاجة إلى الاستعانة بخبرات أجنبية إلا في حالات نادرة. فجميع أسلاك الدولة ومصالحها الخدمية لا تعاني من شح في الإطارات أو في المسيرين والمختصين والفنيين حتى في القطاعات الخدمية الفنية، وإذا كان من تقصير يذكر تعاب عليه المنظومة التربوية، فإنه قابل للاستدراك والتصحيح عبر مراجعات دورية للمقرر بالمعاهد والكليات والمدارس العليا، باستثناء الخطيئة الكبرى التي سقطنا فيها بعد التراجع والردة الحاصلة في سياسة توحيد لغة الدولة ومؤسساتها، بتخريج دفعات من الإداريين والمسيرين والخبراء والفنيين يعانون من عقدة في اللسان، هي التعبير الظاهر عن عقدة أعمق في الهوية، لها تداعيات لا تحصى على مستوى واجب تناغم النخبة مع المجتمع الذي تسيره. * غير أن القصور الواضح والبين في أداء المنظومة التربوية، والذي لم يتداركه الإصلاح، ولا يستطيع أن يتداركه، يظل في عجز مكونات المنظومة التربوية في جميع مراحل التعليم عن توفير الإطار المتعلم الكفء، وجيش الفنيين والتقنيين والمسيرين الذي تحتاج إليه البلاد لتغطية حاجاتها القائمة أو المتوقعة، في إدارة وتشغيل مفردات الاقتصاد بقدر من المرونة، والقدرة على التكيف مع وتيرة التسارع التي تتحكم في الاقتصاد العصري. يكفي أن نذكر أن بلدا مثل الجزائر، له ذلك الإنفاق الهائل في التعليم، قد وجد نفسه عاجزا عن توفير يد عاملة محترفة، وأطقم من الفنيين والمهندسين لانجاز مشروع الطريق السريع، أو توفير الفنيين والتقنيين والمهندسين لمشاريع البناء، مع المكانة التي يحتلها القطاع على الدوام في سلم أولويات الدولة، فاحتجنا إلى الاستعانة بالعمالة الصينية والأسيوية. * وأيا كانت سياسات الانفتاح، وإجراءات تشجيع الاستثمار الأجنبي، وتحسين محيط أدائه، فإن البلاد غير مهيأة لتوفير ما تحتاجه شركات التصنيع والخدمات العالمية، حتى تحفز على نقل صناعاتها، مع غياب عمالة محترفة، وسوق محلية من الكفاءات، رغم وجود جيش من الجامعيين العاطلين، يشكلون اليوم نسبة متعاظمة من الطامعين في "الحرقة" والعبور في زوارق الموت إلى المجهول. * أموال النفط تبحث عن جيل ما بعد النفط * الطفرة النفطية الأخيرة وفرت للبلد قرابة 150 مليار دولار، وهو احتياطي كاف لتمويل انطلاقة اقتصادية حقيقية، وإعداد الأرضية لانبعاث تنمية تخرجنا من التبعية للريع النفطي، وقد أعابت جهات من الداخل، ومعها مؤسسات دولية، مثل صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، أعابت على الرئيس الحجر المفروض على صرف هذا الاحتياطي. والواقع أن البلد كان ومازال غير قادر على إنفاق هذا الاحتياطي في تمويل مشاريع تنموية. فلا مؤسسات القطاع العام، ولا مؤسسات القطاع الخاص قادرة على استيعاب هذه الاستثمارات، إلا ما كان من النشاط الكومبرادوري في الاستيراد والاستيراد. * وبين أيدينا قطاع البناء والمنشآت القاعدية الذي فشل القطاعان في التكفل به رغم توفر التمويل والتحفيز المالي والجبائي، وفشلا في بناء مؤسسات مقاولات ذات كفاءة تحتاج إلى خبرات وكفاءات لا توفرها المنظومة التعليمية، مع أنها لا تحتاج إلى معارف تكنولوجية عالية، فكيف لو أن رئيس الجمهورية استدعى الوزراء المكلفين بالتربية والتعليم والتكوين المهني وقال لهم: إني مقدم على مشروع تنموي واسع، يوفر للبلاد اكتفاء ذاتيا في مجال الطاقة البديلة والمياه والموارد الغذائية الإستراتجية، بإقامة صناعة واسعة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وصناعة موازية لتحلية المياه للشرب والسقي، يدعمان سياسة زراعية تضمن في الحد الأدنى الاكتفاء الذاتي في مجال الحبوب، وأن هذه الخطة تحتاج إلى توطين صناعات كثيرة لإنتاج معدات إنتاج وتسويق الطاقة، وإنتاج وتسويق المياه، وإني وإن كنت لجأت إلى الصينيين والفرنسيين والألمان لبناء المصانع الأولى، فإني أريد أن أطمئن إلى أن منظومة التربية والتعليم والتكوين قادرة على إمداد هذه السياسة بما تحتاج إليه من مهندسين، وتقنيين وفنيين، وعمال مختصين مدربين، ومسيرين أكفاء لإدارة هذه الصناعات. * ألحان بالرأس تبحث عن أرجل للرقص * أعلم مسبقا أن الرئيس لن يطرح هذا السؤال لأنه يعلم مسبقا الإجابة، وقد استمعت إليه وهو يردد بحسرة، خلال حملة رئاسيات 1999 هذا المثل العامي بما معناه: "كم من لحن في الرأس لكن أين الأرجل التي أرقص بها" وأحسبه يؤشر إلى افتقار البلاد ليس للأفكار والمشاريع ولكن لأدوات التنفيذ ومنها المورد البشري المؤهل. * في تعقيب لأحد القراء على المقال "من يشتري مصادر القوة بثمن فنجان قهوة" قال: "والله أنت مهبول أين المسؤلون في دولتنا لكي يجسدوا هذه الأفكار" وقال آخر: "هذا في الجزائر ومسؤولوها نائمون؟ صح النوم... والفساد .. والإفساد"، وانتبه قارئ آخر إلى المعوق الرئيس المانع لتبني مثل هذه المشاريع أو غيرها بالقول: "ولكن ماذا عن التعليم ببلدنا على جميع المستويات، بدءا من الجامعات التي باتت أوكارا للرذيلة، ومراكز لتفريخ الشهادات، وانتهاء بالتعليم الابتدائي والقوافل الآدمية التي تتقاذفها التيارات". * الخط المفتوح بين صناعة الرأي وصناعة القرار * وقد جاء الإعلان، بعد أسبوع من صدور المقال، عن إبرام صفقة مع الألمان لبناء أكبر مصنع لتوليد الطاقة الشمسية، بتقنية الأبراج الشمسية، ليؤكد أن المسؤولين في البلاد ليسوا كلهم نياما، ولست "المهبول" الوحيد في البلد كما قال القارئ الكريم، وأنه يحسن بنا أن نحسن الظن بالآخرين، وأن نثمن مثل هذه الخطوات الصحيحة والمنتجة ونبني عليها، وآمل أن تؤخذ جملة الانتقادات في هذا المقال للمنظومة التربوية، كجزء من المساهمة في نقاش وطني لم يفتح بعد، من أجل إشراك مختلف الكفاءات في البلاد، وهي والحمد لله كثيرة، في التفكير والتدبر في التحديات المطروحة على البلاد، والإسهام بالرأي والمشورة والنقد البناء، وعرض أكثر من بديل، حتى يكون بيد صانع القرار أكثر من رؤية، وأكثر من خيار. وقد لا نحتاج إلى إذن من صاحب القرار لفتح أكثر من ورشة تفكير واستشراف، هي من صميم الوظائف والمهام الرئيسة للمتعلمين، وأصحاب الخبرة والرأي، أينما كانوا وكيفما كانوا. فلا يكفي أن نردد على الدوام خطاب التيئيس، الذي يقود اليوم أبناءنا إلى هذه الخيارات الانتحارية في الأحراش، أو في زوارق الموت، وبيد المتعلمين وذوي الخبرة والكفاءات الجامعية أن يستشرفوا للبلد أكثر من مخرج، ويكونوا في الحد الأدنى قد أقاموا الحجة على صانع القرار، وحرموه من التعلل وتسوغ الأعذار، والقول زورا "الله غالب".