في عالم إسلامي يشكل ربع تعداد البشر، على ربع جغرافية المعمورة، ويعيش على دخل أقل من دخل ورثة الأندلس من أحفاد القشتاليين، يحذرنا أمين سر منظمة المؤتمر الإسلامي من حاجة 41 دولة مسلمة إلى 25 مليار دولار لتأمين الرغيف، بينما تدور في بورصات العالم أموال عربية تفوق 2000 مليار دولار لا نحتاج منها سوى ل 125 دولار ينفق سنويا عن كل مواطن عربي لتوفير الطاقة والماء والرغيف، وأكثر إذا يلمنا أمرنا للعقل المدبر. عندما يعلن السيد أوغلو، الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي: أن 41 دولة إسلامية من بين 56 تعاني من عجز غدائي، وأنها بحاجة إلى 25 مليار دولار سنويا لتغطية العجز، فإنه لم يأت بجديد لا تعرفه العامة قبل الخاصة، بل أراه يشارك عن غير قصد في عملية تضليل للرأي العام الإسلامي، ذلك أن العجز الغذائي الذي يتحدث عنه قد قدر بمقياس مستويات التغذية في دول العالم الإسلامي الذي يشكل 80 بالمائة مما يسمى بالجنوب الفقير، وليس وفق مقاييس التغذية المتعارف عليها دوليا، وإلا كانت التقديرات تفوق أربع مرات ما جاء على لسان السيد أوغلو. ومع هذا التحفظ الجوهري حول طريقة قياس الاحتياجات الغذائية في العالم الإسلامي، فإن الحديث عن التغذية في العالم الإسلامي، ككتلة واحدة، يتستر في الواقع عن الكثير من الفروق والتباين بين أهم الكتل التي يتكون منها العالم الإسلامي، وعلى فروق أكبر بين الدول داخل الفضاء الواحد.. "كنطونات" ثراء في قارة من البؤس هذا التفاوت يوضحه أكثر مستوى الدخل الفردي في الدول الإسلامية بين دولة مثل النيجر التي لا يزيد الدخل الفردي فيها عن 266 دولار وإمارة قطر بأكثر من 52200 دولار. فبينما نحصي ثماني دول يقل الدخل الفردي فيها عن 500 دولار مثل أفغانستان وبنغلادش والسودان، والصومال والمالي، تليهم مجموعة أخرى يقدر الدخل الفردي فيها بين 500 و1000 دولار، مثل باكستان والعراق، واليمن، ونيجيريا والسنغال، ثم مجموعة ثالثة يقع فيها الدخل الفردي بين 1500 مثل مصر، و3500 مثل إيرانوالجزائر، وفيها اندونيسيا والأردن وأذربيجان وسوريا. بعد هذه المجموعات الثلاث نجد فجوة عظيمة بفارق حوالي 5000 دولار، ليس فيها سوى تركيا وكازاخستان، بدخل فردي يقدر ب 5500 دولار، تليها مجموعة الدول العربية التي يتراوح الدخل فيها بين 8300 دولار كما هو في ليبيا و52200 دولار في قطر وما بينهما تصنف معظم دول الخليج النفطية. وحتى تتضح الصورة، يفترض بنا أن نلقي نظرة على مستويات الدخل الفردي عند أفقر الدول في أوربا وأمريكا اللاتينية، وآسيا غير الإسلامية، حيث أن الدخل الفردي في أفقر الدول الأوربية: البرتغال، وقبرص، واليونان يتراوح بين 18300 في البرتغال، و27670 في اليونان الذي يذرف الغرب عليها اليوم دموع التماسيح، ويتداعى صندوق النقد الدولي والإتحاد الأوربي لإنقاذها من الإفلاس، ومن الفوضى الاجتماعية. أفقر من فقراء هايتي ربما يحسن بنا أن نقارن واقع العالم الإسلامي مع أفقر دول أمريكا الجنوبية، حيث، وباستثناء هايتي "المسكينة" التي تصنف مع ذلك في نفس الخانة مع دول إسلامية مثل باكستان والعراق ونيجيريا، فإن بقية الدول الفقيرة، مثل كولومبيا، والإكوادور، إنما تصنف مع الدول الإسلامية التي يزيد دخلها عن ثلاثة آلاف دولار مثل الجزائروإيران، ولن تجد في آسيا غير المسلمة، سوى فيتنام أو كوريا الشمالية، بدخل يقع بين 500 وألف دولار، ودولتان كبيرتان مثل الهند821 دولار والصين 2016 دولار حسب إحصائيات 2008، والحال، ومع استثناء الدول العربية الخليجية ذات الكثافة السكانية الضعيفة (أكثر بقليل من 40 مليون نسمة) واستثناء كازاخستان وتركيا، كدول ذات دخل فردي متوسط: حوالي 5500 دولار، بتعداد سكان لا يزيد، عن 87 مليون نسمة، فإن حوالي مليار 440 مليون مسلم يعيش تحت سقف 3500 دولار، وأن الأغلبية من هذا العدد هي تحت سقف 1000 دولار، لا يشاركها من شعوب العالم سوى الهند، التي دخلت منذ عقدين مرحلة نماء شبيهة بما حدث في الصين، بينما نرى دولا نفطية، مثل العراق ونيجيريا، لا يزيد فيها الدخل الفردي عن 900 دولار، ودول نفطية أخرى، مثل الجزائروإيران تراوح مكانها دون مستوى 3500 دولار. 40مليون إسباني أغنى من ربع سكان العالم بالمقاييس الجغرافية الصرفة، فإن العالم الإسلامي يحتل 23 بالمائة من جغرافية اليابسة، ويشكل 23 بالمائة من تعداد سكان المعمورة، وله من الموارد الطبيعية، ما يكفل له الخروج من التخلف والفقر بأيسر ما أتيح لدول مثل الصين والهند، وهي تعدله في التعداد السكاني، وليس لها ما للعالم الإسلامي من فضاء حيوي يقدر ب 30 مليون كيلومتر مربع، أي عدل مساحة قارة مثل القارة الإفريقية، وبمتوسط كثافة سكانية لا يزيد عن 48 فرد في الكيلومتر المربع الواحد، مقارنة مع الصين 140 في الكيلومتر المربع الواحد، أو أوروبا، أكثر من 75 فرد في كلم 2، أو الهند ب 3620 في ملم 2 . داخل هذا الجسم الإسلامي المترامي الأطراف، يمتلك العالم العربي الفرصة الأكبر للخروج بسرعة من دائرة الفقر، وأخذ نصيبه أولا من ثرواته، وثانيا من الثروة العالمية. فحتى مع اعتبار مستويات الدخل العالية في الدول النفطية، فإن إجمالي الدخل الخام للدول العربية لا يزيد عن 1100 مليار دولار، أي أنه قريب من الدخل الخام في بلد مثل البرازيل 1061 مليار دولار، لكن دون الدخل الخام في بلد مثل إسبانيا 1224 مليار، وفوق دخل بلد مثل الهند 911 مليار. وفي الجملة، فإن نصيب الفرد، حتى لو قسمنا إجمالي دخل الدول العربية بما فيها الدول الخليجية، فسوف لن يزيد عن 3437 دولار، أي معدل الدخل الفردي الحالي في بلد مثل الجزائر، مع العلم أن هذه الإحصائيات تعود لسنة 2008، حين كانت أسعار المحروقات في أوجها، وكانت معظم الدول النفطية، باستثناء العراق، قد بلغت أعلى مستويات الإنتاج والتصدير، وهذا يعني أنه لا يمكن التعويل كثيرا على عائدات المحروقات على المديين: القريب والمتوسط، لتحقيق أي تقدم في نمو مداخل العالم العربي، بل يفترض أن نتوقع مزيدا من الانخفاض والتدني، بسبب استدامة الأزمة الاقتصادية العالمية وتراجع الطلب على النفط من جهة، وبسبب توجه معظم الدول المستهلكة نحو تنمية بدائل جديدة للطاقة. ابتزاز العاجز بالرغيف العزيز ماذا ينبغي لنا أن نستشرف من هذا العرض الإحصائي السريع؟ وكيف ينبغي لنا أن نواجه الضغوط المتوقعة في مجال ضمان الرغيف، وحماية سيادة دولنا من الابتزاز بالسلاح الأخضر؟ والسؤال مطروح على الدول العربية الفقيرة والغنية على حد سواء. لأننا نشهد توجها عالميا خطيرا للغاية، بإقدام الدول الغربية: أوربا والولايات المتحدة، ومعها البرازيل، على تحويل مزيد من المساحات الزراعية لإنتاج محاصيل توجه لصناعات الوقود العضوي، ونتابع على صعيد آخر سباقا دوليا محموما، نحو الاستحواذ على مزيد من الأراضي الزراعية في إفريقيا ووسط آسيا، لإنتاج حاجاتها من المواد الغذائية. وفي أقل من عقد من الزمن، سوف نواجه أزمة عالمية جديدة، تتسم بشح في المواد الغذائية الرئيسة مثل الحبوب بأنواعها، نتيجة هاذين التوجهين، ولن يكون وقتها بوسعنا تغطية حاجاتنا من الغذاء عبر الاستيراد حتى مع توفر الأموال. الصحائف البيض في اللوح الأسود هذا اللوح السوداوي عن العالمين العربي والإسلامي، قادر على أن ينقلب إلى صحيفة ناصعة مشرقة، لا نحتاج معها، لا للموارد المالية الخارجية، ولا للكفاءات التقنية الغربية، وكل ما يظهر اليوم في اللوح كعقبات ومعوقات، قد يصبح فرصا حقيقية لقيام نمو مستدام ومتوازن يضمن في الحد الأدنى السادة على قوت مواطنينا وحاجاتهم الأساسية من الطاقة والمياه: العناصر الثلاث التي تستمر معها الحياة. في مقال نشرته منذ شهور، كنت قد بينت بما يكفي، كيف أن تقسيم العمل الذي أملته العولمة، وتأخر عالمنا العربي عن ركوب قطارها السريع، لم يترك لنا أدنى فرصة للمشاركة، بكفاءة وتنافس، في قطاع التكنولوجيات العالية والخدمات، الذي سوف يبقي بيد الغرب لعقود قادمة، كما لم يترك له أية فرصة للمنافسة في قطاع الصناعات التقليدية، الذي سقط بأيدي الأسيويين: الصينيون والهنود تحديدا، وسوف يبقي هذا التقسيم لعقود قادمة. وكنت وقتها قد وجهت اهتمام صناع القرار في بلدنا وفي العالم العربي، إلى ثلاث قطاعات نستطيع التنافس فيها، بل ونستطيع تحقيق التفوق فيها. وبينت كيف أن القطاعات الثلاث: الطاقة البديلة، والمياه، والإنتاج الزراعي، وهي قطاعات مترابطة ومتضامنة، لا تسمح فقط بتحقيق اكتفاء واسع في ثلاث موارد إستراتيجية، يتوقف عليها الأمن القومي، بل تستطيع أن تتحول في زمن قياسي إلى قاطرة عملاقة، تجر تشكيلة متنوعة من الصناعات الثقيلة والمتوسطة، التي تحتاج إليها أنظمة إنتاج الطاقة البديلة، وقاعدة واسعة للصناعات الغذائية، وما يرافق هذه الأنشطة من قطاع خدمي لا حدود له. فلاحة في الرمال تروى من البحار وقتها بلغتني بعض الرسائل من القراء تعترض على هذه المقاربة، وكانت أقوى حجج أصحابها، أن العالم العربي يفتقر لعنصرين أساسيين: المياه، والتربة الصالحة للزراعة، وهو اعتراض وجيه عند اللذين لم يستشرفوا حتى الساعة، إلى أين تتجه الفلاحة الحديثة، مع قرب الإعلان الرسمي عن موت أجزاء واسعة من التربة الزراعية في أوربا والولايات المتحدة، بفعل الاستغلال المكثف، والإفراط في استعمال المواد الكيميائية، وأن مستقبل الزراعة يتحدد اليوم في الزراعة البديلة خارج التربة. وقد يفاجأ القارئ حين يعلم أن من بين تقنيات الزراعة خارج التربة، تقنية الزراعة بأرضية رملية خالصة، تغذى فيها النبتة بسائل يأتيها بما تحتاج إليه من فسفور، وبتاسيوم، ونيرات، وحوالي 12 عنصرا من المواد تشارك في نماء النبتة، وتعطي هذه التقنيات محاصيل ضخمة، وتستهلك نسبة أقل من المياه. وقد بدأ فعلا بعض الأشقاء في الخليج: الإمارات والسعودية، أنشأ بعض الحقول التجريبية، كما أن جانبا من المحاصيل الزراعية، في دول مثل هولندا، وإسبانيا، وفرنسا، باتت تنتج بهذه التقنيات. جميع التقنيات التي تدخل في صناعة الطاقة الخضراء، الشمسية تحديدا، وتقنيات تحلية المياه، وأنظمة الزراعة خارج التربة، هي تقنيات معلومة متداولة وفي متناولنا وليس عليها حظر كما هي الطاقة النووية، وحتى إذا احتجنا لاستيرادها في المرحلة الأولى، فإنه بإمكاننا توطينها بسرعة، خاصة إذا ما أعدنا النظر في أنظمة التعليم والبحث العلمي، ووجهنا جامعاتنا إلى مزيد من التخصص في العلوم والمعارف والبحث العلمي لخدمة هذه القطاعات الثلاث، ووجهنا القسط الأكبر من مواردنا المالية والبشرية لها، بدل إنفاقها على الاستيراد الاستهلاكي الذي نساعد به غيرنا على توفير مناصب لشغل لأبنائه، ونضيع به الفرص القليلة المتاحة لنا تحقيق نمو داخلي، يوفر الشغل والرغيف لأبنائنا. من يشتري للعربي كرامة ب 125 دولار؟ الاعتراض الثالث يحتج بالكلفة، فيذهب إلى مقارنة فاسدة بين كلفت إنتاج الكيلووات الشمسي، قياسا مع الكيلوات من المواد الأحفورية، أو يقارن بين كلفة المتر المكعب من مياه التحلية الصناعية، ونظيره من مياه السدود والمياه الجوفية، وهي مقارنة فاسدة، لأننا بصدد الحديث عن تحقيق الاكتفاء في مواد إستراتيجية لا تقدر بتمن، ولأننا نستطيع بالتأكيد، الاستغناء عن السيارة والطائرة، والتلفاز، ونستطيع إقناع جيل كامل بالعيش تحت الخيام إن اقتضى الأمر، لكننا لا نستطيع العيش يوما واحدا بلا ماء وبلا غذاء. وكلما أسرعنا في تحقيق الاكتفاء، في المياه والغذاء والطاقة، أمكن لنا، وللأجيال التي تأتي بعدنا، التطلع بلا ريب إلى مشاركة الآخرين في إنتاج التكنولوجية العالية، ومنافسة الغرب فيها، والتطلع إلى أخذ نصيبنا من الصناعات والخدمات. يكفيني عند هذا الحد التذكير، بأن استثمار 20 مليار دولار لإنشاء 40 محطة تحلية مياه البحر بحجم محطة "المقطع"، سوف يغطي حاجة 320 مليون عربي من مياه الشرب على الأقل بمعدل الاستهلاك الحالي، أي 60 ل يومي للفرد بدل 250 ل في الدول الغنية، وأن استثمار 570 دولار عن كل فرد، أي حوالي 180 مليار دولار سوف يغطي استهلاك الطاقة ل320 مليون عربي,وأن استثمار مبلغ مماثل على ترقية الزراعة البديلة خارج التربة سوف يحقق الاكتفاء الغذائي ويحول العالم العربي إلى طرف مصدر. أي أن حوالي 400 مليار دولار تستثمر على امتداد عشر سنوات بمعدل 40 مليار في السنة كافية ليس فقط لتحقيق الاكتفاء، بل لقيام قطاع صناعي وخدمي واسع يوفر مئات الألوف من مناصب الشغل، أي استثمار 125 دولار سنويا عن كل مواطن عربي؟. 2000 مليار تنتظر العقل المدبر يكفيني عند هذا الحد، أن أذكر أن العالم العربي ينفق على استيراد وتشغيل السيارات وأجهزة التلفاز والهواتف النقالة ما بين 30 و40 مليار دولار سنويا. وعلى التسلح وتسمين الجيوش ما بين 60 و80 مليار أو يزيد. وكيفني أن أشير إلى أن الاحتياطات المالية المتوفرة في الصناديق السيادية العربية وأثرياء دول الخليج تزيد في الحد الأدنى عن 2000 مليار دولار، كافية لتغطية حاجات العالم العربي من الاستثمارات أكثر من خمس مرات، وأنه لم يعد لها ملاذ أمن وسط هذه الأزمة العالمية المالية والاقتصادية، وتحتاج فقط إلى صياغة مشروع استثماري عربي قومي تأتمن فيه على أموالها وعوائدها من فساد الحكام، ومن انعدام الأمن والاستقرار، ومع ذلك تحتاج إلى نظام عربي مالي، نقدي، ومصرفي حديث يحرك بكفاءة هذه الأموال نحو الاستثمار والإنتاج. لأنني ما زلت أؤمن أن فرصة عودة العالم الإسلامي للمشاركة في المدنية، العالمية هي بيد العالم العربي الذي يمتلك مقومات العودة، حتى مع هذه النخب الحاكمة الفاسدة، التي لا نطالبها سوى بتحرير سبل المبادرة أمام شعوبها. قيادة راشدة بزعامة رجل مثل "دانغ غزياوبينغ" مهندس الإصلاحات في الصين، استطاع في بحر ثلاثة عقود نقل الصين من بلد فقير متخلف إلى ثاني اقتصاد في العالم. وفي الهند استطاعت قيادة "جواهر نهرو" بناء قاعدة صناعية محمية، وتكفلت بالزراعة لتحقق لمليار هندي الاكتفاء الغذائي، وتحول الهند إلى واحد من أكبر مصدري الحبوب في العالم، قبل أم ينقلها زعيم آخر هو "ناراسيمها راو" ابتداء من 1991 إلى اقتصاد ليبرالي ينافس اليوم الكبار. زعماء ثلاث أنقذوا 2.3 مليار من الجوع. فهل تحت الخيمة زعيم عربي يعمل العقل لإنقاذ كرامة 320 مليون من العرب؟