رمضان..شهر العمل والعبادة دقت الساعة السادسة صباحا وبدأت ظلمة الليل تتبدد بضوء نهار سعيد، أبواب على قارعة الطريق المؤدي الى المحجرة المهجورة بأعالي حي سيدي الكبير العتيق فتحت وخرج منها فتيان ورجال يحملون بين أيديهم وعلى أكتافهم النحيلة أدوات حفر ويدفعون بعجلات نقل قديمة، يسيرون فرادى بعد غفوة نوم خفيفة تناولوا قبلها سحورا من ما تبقى من طعام الافطار وكثيرا من الماء، سكون وسكوت يخيم وهم يتوجهون نحو عمل تفتيت حجارة صلبة يئست آلات الحفر مواصلة عملها منذ زمن فترامت مشكلة أطلالا قريبة من محيط ضفاف الوادي "البركة "، وتحول الجبل المطل والباسط ظله على مجرى وادي جاف في لحظات قليلة الى ورشات تنقيب وحفر عن تلك الحجارة الصلبة لتفتتها انامل اولئك الفتية وبيعها بأثمان زهيدة لاستعمالها في بناء المساكن والفيلات وغيرها متحملين مشقة الصعود الى علو عشرات الامتار دون حبال إنقاذ او شبكة نجدة، وهو حالهم منذ مطلع سنوات التسعين من القرن الماضي. * * "الشروق اليومي" زارتهم في أماكن عملهم ووقفت على معاناة اولئك الفتية الذين باتوا يلقبون "بأطفال الحجارة" غالبيتهم شباب يجتهدون في اخلاص ودقة في كسب قوت يومهم بعرق حلال. * صورهم وهم ينقبون عن الحجارة تشبه عمل المساجين المعاقبين بالأعمال الشاقة * كانوا قرابة ال 10 أشخاص حينما زرناهم، توزعوا في زوايا وكأنها مناجم جبلية، بالكاد تراهم وهم منتشرون يحطمون صخرا قاسيا يدويا معتمدين على قوة عضلاتهم الصغيرة ثم يرمون به عبر أنابيب بلاستيكية ذات اقطار متوسطة يساوى البعض منها 100 متر طولا مركبة بإحكام تصل منجم كل واحد منهم بأسفل الجبل، تستعمل في توصيل حمولة الحجارة التي تتدحرج بسرعة عبرها ليلتقطها آخرون ينتظرون وصولها في كل حين لأجل حملها على متن شاحنات قدمت لعقد صفقات بيع معهم، صعدنا بمشقة الى مرتفع زاد عن ال 100 متر ووقفنا امام تلك المناجم الصغيرة مشكلة مشهدا اعادنا الى صور سينمائية كثيرا ما شاهدناها عبر شاشات التلفاز لسجناء يدانون بالحبس والأعمال الشاقة مثل لقطات في الفيلم الشهير "رومبو 02" وسابقه "سبارتاكوس". * كان محمد امين اصغر الفتية، عمره لم يتجاوز ال 13 ربيعا اتخذ شبه مغارة منجما له وبيده فأسا يخدش به حائطا من الحجر بصعوبة، قال وهو يبتسم ومطأطئ رأسه (تردد في حيرة وحشمة في الأول ثم زالت حيرته بالحكي معه) بأنه مضطر للعمل لأجل عون أسرته الفقيرة في مصاريفها، وأنه يستغل أوقات عطل الدراسة ونهاية الأسبوع في العمل مرغما، فالوالد يعمل يوما ويتقاعد شهرا، وليس لديه أشقاء يكبرونه لمساعدته في أعباء الحياة، فما كان عليه إلا الاتفاق مع احد جيرانه لأخذه إلى الجبل والعمل معه منذ ما يقارب ال 11 شهرا في صيد دنانير يضيفها إلى ميزانية الأسرة الفقيرة. * وغير بعيد عنه دفع جمال عجلة نقل معبأة بأوزان محسوبة من الحجارة ليلقي بها إلى الأسفل، استراح قليلا ونحن نتلهف لسماع يومياته والتي عبر عنها بأنها أشبه بالعقاب الذي كان يتلقاه العبيد من قبل أسيادهم من اجل "أوراق دنانير نجمعها أحيانا في يومين وثلاثة، نصرف منها القليل وندخر الباقي إلى الشتاء حيث العمل يتوقف زمن تساقط المطر لخطورة السيول وصعوبة الصعود إلى الجبل". جمال صاحب الخبرة الطويلة التي بلغت عقدا من الزمن اخذ نفسا عميقا بعد أن اسند ظهره إلى صخرة تكبره قائلا في تأوه بأن مستقبله على غرار بقية المجموعة التي تتكون من حوالي 70 نفرا منهم حوالي 15 مسؤولون عن إعالة اسر، مجهول وانه يئس لأن يومه وأمسه وغده سيان لا جديد يذكر، عمل روتيني، الكل يخرج صباحا والناس نيام، يتسلق هو واقرانه جبلا سئم من روائحهم واعتدائهم عليه بدّقهم إيّاه كل يوم ثم البحث عن من يشتري تلك الحجارة البائسة مع اخذ الحذر في أن يكون الطريق مراقبا من طرف أعين باتت تلاحقهم من حين لآخر وكأنهم في لعبة القط والفأر، وانه لو لم يكن رب أسرة ووالد صغير ووالدته التي ما تزال تردعه في مجرد التفكير في اللحاق بأفواج "الحراڤة" لأنه يعتقد أن مصيره سيظل مجهولا في كلا الحالين، لكان ضمن القوافل الاولى، ثم نهض وحمل مجرفة وبدأ يعبئ عجلة نقله ودفعها في رفق على حافة بالكاد تتسع إلى عرض سنتيمترات بسيطة واختفى بعيدا وسط منجمه ليكمل عمل اعتاد على فعله منذ 10 سنوات.