صيدليتان فقط توفرانه وطنيا وبجرعة تُجدد كل 7 أيام عمي عمر.. كهل في الأربعين، أتعبته السنون، وأثقلت كاهله تلك الآلام التي تسبب فيها مرض يوصف بالخبيث، لتزيد من معاناته رحلة التنقل بين العاصمة وإحدى قرى تيزي وزو كل أسبوع لجلب دواء عجيب اسمه "المورفين".. * * دواء له مفعول "السحر" -ولو بصفة مؤقتة ونسبية- في التخفيف من الآلام الحادة، لكنه في الوقت ذاته محاط بهالة من "الحصار" تجعل الكثير من المرضى يفضلون تحمل آلامهم على عناء الحصول عليه، وهو الذي لا توفره سوى صيدليتين فقط بالعاصمة، وهما الوحيدتان على المستوى الوطني، وبجرعة تكفي فقط ل 7 أيام، مع أن جلّ دول العالم تتعامل مع المرضى بجرعات تغطي 28 يوما من التعاطي. * * حالة هذا السيد ليست بأحسن من حال عجوز في الستين من العمر، تقطن بالمسيلة على بعد 400 كلم من العاصمة، قضت هي أو أحد أفراد عائلتها عددا من السنين وهم يجوبون الطريق الوطني رقم 5 باتجاه العاصمة بحثا عن المهدئ العجيب، في مدة متوسطها 12 ساعة ذهابا وإيابا كل 7 أيام.. فكانت الحصيلة السنوية ثقيلة جدا.. 42 ألف كلم قطعوها بين المدينتين و80 ألف دينار دفعوها للصيدلية مقابل جرعات المورفين، وما يزيد الطين بلة أن هذا المبلغ غير قابل للتعويض. * كان من الصعب على نبيل من المدية، أب لطفلين، أن يعيد شريط ذكرياته إلى 3 سنين خلت حين كان والده مريضا بسرطان الرئتين وكان واجبا عليه أن يوفر له المورفين كل أسبوع.." في البداية لم أحس بعناء الطريق والتنقل من حافلة إلى أخرى كل بداية أسبوع لأنني لم أكن أفكر سوى في إيجاد دواء من شأنه أن يخفف من صيحات آلام والدي -رحمه الله- التي لا يزال طنينها في أذني إلى حد الساعة.. لكن عندما أتذكر معاناة تلك السنين من الذهاب والإياب والخوف من عدم إيجاد الدواء بسبب الانقطاعات المتكررة في الصيدليتين الوحيدتين اللتين توفرانه بالعاصمة يجن جنوني.. لا يحس بالجمرة إلا اللي يعفس عليها.. فكيف يُعقل أن يجبرونا على تجديد الوصفة كل 7 أيام والانتقال وجوبا إلى العاصمة لجلب الدواء الذي يمكن ان توفره كل الصيدليات.. للأسف لا يحدث هذا إلا في الجزائر!" * * المورفين.." بعبع يخيف المسؤولين ويرهق المرضى * "المورفين" اسم لا نسمعه ولا نتداوله كثيرا، وإن سمعنا به سارعنا بالقول "ربي يعافينا" لارتباطه في ذهننا بضحايا ذلك المرض الخبيث "السرطان" أو بالمدمنين على المخدرات. ناهيك عن أنه لا يزال ضحية أحكام مسبقة خاطئة كاعتباره مخدرا قويا على غرار الهيروين، وبالتالي الخوف من الارتباط به والإدمان عليه، بالإضافة إلى صعوبة وصفه من طرف الطبيب بسبب التشريع الجزائري. أما بالنسبة لأصحاب المهنة، فهناك عائق الخوف من حيازة دفتر قسائم يتضمن كافة المعلومات ومن الإجراءات الصارمة لبيع المورفين التي لم تتغير منذ الستينات، خاصة دفتر المسكنات الذي يجب الاحتفاظ به مدة 10 سنوات وتقديمه دوريا للجهات الأمنية. * وعلى غرار الجزائر، فإن العديد من الدول لا يزال المورفين فيها صعب المنال، خاصة بلدان العالم الثالث، ويشير التقرير السنوي الذي أعدته المنظمة الدولية لمراقبة المهدئات والمسكنات في مارس 2008، إلى أن ملايين الأشخاص عبر العالم ما زالوا يعانون تحت وطأة الآلام الحادة أو المزمنة، لأن الحصول على المهدئات غير كاف في العديد من الدول، مشيرة إلى أن البلدان المتقدمة استوعبت هذا المفهوم وانتبهت إلى أهمية معالجة الألم، حيث أن الاستهلاك العالمي لهذه المسكنات تضاعف في السنوات العشر الأخيرة، لكن 89 بالمائة من هذا الارتفاع سجلت في أوروبا وأمريكا الشمالية، مقابل 6 بالمائة في البلدان النامية التي تشكل 80 بالمائة من سكان العالم.. نسبة ضئيلة جدا. * * دواء متوفر في صيدليتين فقط.. وتجديد الوصفة كل 7 أيام * أكد مصدر من الصيدلية المركزية بالعاصمة أن دواء المورفين توفره صيدليتان فقط بالعاصمة، واحدة بحي الرويسو منذ 32 سنة والثانية بأول ماي منذ أكثر من عشرين سنة، وهما الصيدليتان الوحيدتان على المستوى الوطني اللتان تبيعانه، وهو ما تأكدنا منه عند الاتصال بالصيدليتين الجهويتين بوهران وعنابة اللتين أكدتا أن توزيع هذا الدواء يكون فقط على المستشفيات والعيادات الخاصة المعتمدة لدى الدولة. * هذا العدد المحدود عزاه فريد حمدين، رئيس جمعية الصيادلة، أساسا إلى تخوف الصيادلة من حيازة هذا الدواء بسبب الإجراءات المعقدة التي يسير وفقها توفير الدواء وبيعه، أو بسبب احتمال تعرضهم للاعتداء من طرف مدمنين على المخدرات للحصول على جرعات منه.. "أظن أن هذا التخوف لا أساس له من الصحة، لأنه لم يسجل أي اعتداء على مستوى الصيدليات التي تبيعه، ثم إن التخوف من السلطات ومن توزيع غير شرعي لهذا الدواء مبالغ فيه، لأننا ملزمون بإعطاء الدواء بناء على وصفة على شكل قسيمة يجب ان تملأ فيها المعلومات بدقة شديدة لتراقبها الجهات الأمنية بصفة دورية.. على الوزارة أن تفرض على بعض الصيدليات -مجموعها 7 آلاف على المستوى الوطني- في كل منطقة بيع مثل هذه الأدوية المخففة للآلام حتى يستطيع المريض الحصول عليها بسهولة، خاصة وأن القانون يلزم كل صيدلي بأن يوفر في صيدليته مجموعة من الأدوية المسكنة للآلام والمدرجة في الجدول "ب"، ومن بينها المورفين، لكن للأسف لا أحد يطبق هذه التعليمة". * مشكل آخر أرق ولا يزال يؤرق المرضى وذويهم، إنها قاعدة السبعة أيام، حيث يحدد التشريع الجزائري منح وصفة بهذا الدواء تتضمن جرعة تكفي ل 7 أيام فقط، على أن يتم تجديدها كلما احتاج المريض جرعات أخرى، وهو ما وجده المرضى أمرا شاقا عليهم، خاصة الذين يقطنون بمناطق بعيدة في شرق البلاد او غربها أو جنوبها. * وفي هذا السياق، اقترح رئيس جمعية الصيادلة أن تمدد هذه الفترة إلى 4 أسابيع، مثلما هو معمول به في معظم دول العالم.. "نحتاج إلى تحديث هذا القانون ليتماشى مع المعطيات الجديدة". * * الآلاف من ملصقات المورفين مهددة بالإتلاف بسبب قاعدة ال 7 أيام * كشف مصدر طبي أن الآلاف من ملصقات المورفين (patch) التي تم استيرادها خلال السنة الجارية مهددة بالإتلاف لعدم استعمالها واستحالة توزيعها على الصيدليات بسبب قاعدة السبعة أيام التي يفرضها القانون الجزائري، حيث أنها متوفرة على شكل علب، في كل علبة 5 ملصقات، أي ما يعادل علاجا ل 15 يوما، وهو ما يتنافى مع التعليمة. * كما أن مفعول الملصقة الواحدة يدوم 72 ساعة، أي 3 أيام، وإذا أعطى الطبيب المريض ملصقتين، أي جرعة 6 أيام، تبقى تنقص جرعة يوم واحد من المستحيل توفيرها بملصقة ثالثة. * وبهذا الخصوص، برر المصدر لجوء الجزائر إلى استيراد هذا النوع من المورفين قائلا "أراد أطباؤنا أن يجاروا التطور الطبي الذي تحرزه البلدان المتقدمة ويقدموا للمرضى الجزائريين آخر الأشكال المبتكرة في التخفيف من الآلام، لكنهم اصطدموا بجمود تعليمة السبعة أيام، مما يعني احتمال إتلاف تلك الكميات حتى قبل أن تُستغل". * * السياسة الصحية في الجزائر.. معالجة المرض ونسيان الألم! * نظم مركز معالجة الآلام ببيار ماري كوري خلال هذه السنة ملتقى لدراسة سبل التكفل بالآلام لدى المرضى والتخفيف منها، وبعدها بأشهر قليلة اختارت جمعية الصيادلة أن يكون موضوع أيامها الدراسية الوطنية ال 19 التكفل بالآلام، وهما نشاطان يندرجان في إطار المساعي للفت انتباه السلطات والهيئات الصحية بالجزائر للعناية بالألم بنفس درجة العناية بالمرض.. "التوجه الطبي الحالي في بلادنا لا يزال يهتم بالمرض ومعالجته ويغض النظر عن الاهتمام بالألم، مع أن له مضار نفسية جسيمة على المريض وأهله ومحيطه" يقول الدكتور بن حمدين. * وهو ما يفسر -حسبه- قلة الطلب على هذا المسكن للآلام سواء من طرف الطبيب الذي لم يعد يصفه للمريض -إلا اضطرارا- أو من طرف المريض الذي لا يزال يجهل بوجود دواء اسمه المورفين أو لم يعد يرغب في اقتنائه بسبب هذه العراقيل. * يحدث هذا بالجزائر في وقت تعتزم هيئة الأممالمتحدة أن تدرج في جلساتها المقبلة حق معالجة الألم كحق قار في ميثاق حقوق الإنسان على الدول مراعاته والعمل به. * * حلم المورفين في كل دائرة وبديل الوصفات المؤمنة * لا تزال ثلة من الصيادلة والأطباء الجزائريين يبذلون قصارى جهودهم لتبني وتجسيد سياسة ناجعة للتخفيف من الآلام ببلادنا، ومن أهم المطالب التي يلحون على الهيئات الوصية تحقيقها في الوقت الراهن، بحسب فريد حمدين رئيس جمعية الصيادلة، أن تعمم عملية توفير المورفين في عدد أكبر من الصيدليات، للتخفيف من مشاق المريض وأهله، مقترحين أن تبيعه صيدلية على الأقل في كل بلدية أو في كل دائرة أو في كل ولاية على أكثر تقدير، خاصة وأن الجزائر تحصي 7 آلاف صيدلية، فكيف أن توفره على مستوى كل التراب الوطني صيدليتان فقط، يستغرب المتحدث. * الوصفات المؤمنة هو بديل آخر تقترحه هذه الجمعية، "هي نوع من الوصفات التي لا يمكن نسخها أو تزويرها، فهي مؤمنة 100 بالمائة، وبذلك لا يكون للجهات الأمنية مبرر للتخوف من التلاعب ببيع هذا المسكن ويسهل تعميم توفيره في باقي الصيدليات. * ويتعلق المطلب الثالث بتمديد فترة الجرعة إلى 28 يوما بدل 7 أيام، مثلما هو معمول به في مختلف دول العالم". * * المورفين: * أحد مشتقات الأفيون، ويحتوي 15٪ من مكونات الأفيون. و كلمة "مورفين" مشتقة من الكلمة الإغريقية "مورفواس" ومعناها "إله الأحلام". ويستخدم طبياً في: * * التخفيف من الآلام في حالات جلطة القلب، والآلام الناتجة عن السرطان، وبعد العمليات الجراحية وفي حالة الألم الكلوي أو المراري الحادين، وللتخفيف من آلام الحروق بكل أنواعها. * * في علاج الصدمات العصبية. * * في معالجة الإدمان: ويتم ذلك بتقليل الجرعة التي يتعاطاها المدمن بالتدريج إلى أن يصل إلى مرحلة يمكن استبداله بنوع آخر من الأدوية يعطي تأثيرا مشابها للأفيون أو المورفين حتى يمكن إيقافه بعد ذلك.