من أين تبدأ وإلى أين تنتهي؟ سيطر على ذهني هذا التساؤل وأنا أتتبع بعض ما تبثه فضائيات الفتنة وإسفاف منشطين تحولوا إلى مهرجين وصحفيين أمسوا أبواقا للدعاية ضد الخصم، وهو في هذه الحالة الجزائر.. لكن الأهم، أنهم أدوات لتخدير شعبهم لينسى همومه وما أكثرها، تبدأ من لقمة العيش وتصل إلى "التخشيبة" التي تمتهن فيها كرامة الإنسان المصري حقيقة. * * تذكرت جوزيف ڤوبلز، وزير الدعاية النازي في عهد هتلر.. "أكذب.. أكذب.. ثم أكذب حتى يصدقك الناس!" وهذا الشخص كان صحفيا. لكن هل تعرفون مآله؟ فقد انتهى منتحرا هو وكافة أسرته، حيث انتهى سيّده ووليّ نعمته، وسقطت ألمانيا خرابا وتدميرا، مآل لا أتمناه لمصر، مع كل الألم والظلم والإجحاف الذي لحقنا من هؤلاء المهرجين وبقية الكومبارس والجوق الذي ينفخ في قربة مثقوبة.. * * هل نامت نواطير مصر؟ * لست من الذين يسبون التاريخ أو يشتمون المستقبل ويرهنونه.. كما أني لست من هواة الذين يذكرون مقالب الناس وعيوبهم ويشهرون بها، وهي حقائق.. غير أن تجاوز هؤلاء المهرجين لكل حدود، هم ومجموعات الراقصات و"الشطاحين"من غير مناديل، يدفع بنا إلى تذكير هؤلاء وتنبيه أولئك أننا قادرون على ما أكثر لولا الحيا ء والترفّع.. وبإمكان البربر أن يذكروا هؤلاء أننا نحفظ جيدا شعر عمرو بن كلثوم، كما نتذوق ونحفظ شعر أبي الطيب المتنبي، والشاعر يقول: من ذا يعض.. إن عضا؟! وأترك الحرية للقارئ ليكمل الكلمة أو النعت، أو الوصف أو التسمية المحذوفة في النقاط! * أعرف منذ زمان أن في مصر فرق وجمعيات تسمى "الندّابات"، لكن ولأول مرة أعرف أن هناك جمعيات وفرق "للندابين" من الذكور.. والندّابات وجدت من أجل الحاجة وشخصيا أشفق عليها لأن أعضاءها يعلنّ أسرا بأكملها، وهن نسوة يتكسبن بعض القروش وبعض الجنيهات من الندب على الراحلين من الذوات ومن الباشوات ومن البهوات قديما، ومن أصحاب الأموال والجاه والنفوذ حاليا.. ذلك أن "هوانم" هذه الفئات لا تلطم خدودها ولا تفسد ماكياجها وزينتها، فتستأجر الندابات ليقمن بالدورالمطلوب.. نفس دور هؤلاء الندابين الآن.. * * اللهم لا شماتة في أولئك الغلبانين، عفوا، الغلبانات! * لما يقارب الشهرين، أو يزيد قليلا، اكتشفنا قيم الغباوة والجهل والحماقة والدجل وقصر الذاكرة، كما انعدام الأفق، والحق أنني كثيرا ما "أستمتع" وأحيانا أضحك وحدي، كما أشفق وأغناظ. وهي أحاسيس إنسانية لا يمكن إنكارها، أمام موجة من مهاترات رديئة تنقصها الحبكة، ويخونها الذكاء، كما تجانب الذوق واللياقة وأدنى حدود الأخلاق البدائية.. * تساءلت، أهذه هي مصر؟! ومع الأسف، فهي كذلك عند الجزائري البسيط العادي، وهي كذلك في الشارع العربي، وهي هذه لدى الرأي العام في هذا الكون.. وبئس السقوط وما أبخسها بضاعة تسوق بالزعيق والعويل ممزوجين بالنفاق! * لست أدري.. إن كان موقعها لايزال في نفس المكان.. أم تغيّر وتبدّل، أقصد مقر نقابة الصحافيين المصريين التي كانت تتوسط مبنى نقابة القضاة، ومبنى نقابة المحامين.. أعرّج على هذا الاستطراد لأتذكر ما قاله لي الزميل المرحوم صلاح حافظ، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي حين سألته مازحا أمام مقر النقابة، ما موقع الصحافيين المصريين؟ فأجابني مبتسما بهذه العبارة التي صدقت اليوم أو تكاد.. "موقعنا كما ترى بين الظلم والضلال"!! وهل هناك ضلال أكبر من حرق العلم الجزائري أمام نقابة ما يسمى المحامين أمام الثلاثي الظلم والضلال وما بينهما من المنزلة بين منزلتين؟! * ضحكت وبكيت في آنٍ معا، ذات أمسية حيث أطل علينا من إحدى فضائيات الفتنة بعض الكومبارس، واصطنع الجد على ملامحه، قائلا: لقد أرسلنا زبدة المجتمع المصري إلى الخرطوم الأسرة الفنية والمثقفين والصحافيين، ومباشرة أعطى الكلمة لنماذج من هذه الأسرة "الزبدة" وصدقوني.. لقد كانت قمة في الكلام الوسخ والسوقي والقذر، حاشاكم الله.. واستعدت الصورة التي كان عليها هؤلاء، وكانت عليها الفنانات والممثلات والراقصات والمغنيات، مجرد جوق وبوق يحط بالسيدين، ومجرد ديكور للإخراج المسرحي "البايخ" لكن هذه المرة ليس الجمهور "عايز كدة".. إنما الآمر الناهي عايز كدة! * أهذه هي الزبدة والنخبة؟.. وعدت بذاكرتي إلى الوراء إلى حوالي خمسة عشر قرنا خلت.. وقارنت، وأترك القارىء ليستنتج! * تقول المصادر التاريخية إن معركة بدر الكبرى ما كانت لتحدث لولا تعنّت قريش واستهتارها واستهانتها بالخصم، فالقافلة نجت وأبو سيان نصح بالعودة إلى مكة، لكن المكابرة والغرور دفع بعض رؤوس الفتنة منهم إلى المكان مصحوبين بالخدم والراقصات والقيان والخمر عازمين على الاحتفال بالنصر، فكانت العاقبة وكان الخسران وكانت البهدلة، أليس هناك من تشابه بين تلك القيان والراقصات في بدر وبين زميلاتهن في الخرطوم؟ * يقول المثل، كمن يبيع جلد الدب قبل صيده.. ذلكم هو بعض من حال كل ذلك الجوق الذي كشف عن مراهقة في كل شيء: إعلامية، أخلاقية، رياضية، فكرية وسياسية. * ومع أن الأمر لا يتعلق بالدب، إلا أنه ربما أشطر وأخف وأكثر رشاقة، إنه "الفنك" أو ثعلب الصحراء، ولا أقصد المارشال رومل، إنما أولئك الشباب من الفريق الوطني ومن الأنصار. أولئك الذين لعبوا من أجل الجزائر والذين ناصروا من أجل الجزائر هكذا بتلقائية وعفوية.. لكن أكاذيب الفضائيات وتلفيقاتها ودجل كل من يطل منها وتهريجهم، هو الذي دفع فعلا الفريق والأنصار إلى كسر الغرور والاستعلاء في مقابلة كانت قمة في الإثارة. * الجزائري، أيًّا كان توجّهه، والجزائري ليس سهلا ترويضه، ولا يأخذ ما تقوله الحكومة أو السلطة أو الدولة كأنه الكتاب المقدس، بل قد يعمد إلى اتخاذ موقف مضاد.. فقط هذا الجزائري ابن الثمانية عشرة والعشرين لا يغفر شيئين: إهانة الشهداء والعلم.. إنها من المقدسات غريزيا وفي دمه ومن المورثات المعدية التي يتناقلها الأبناء عن الآباء ،عن الأجداد.. هل فهم أولئك الغوغاء معنى أن تتلون الملاعب بالأبيض والأخضر والأحمر وتدوي مساحاتها بنشيد: قسما؟ * إبّان ازدهار الماركثية في الولايات المتحدة؟ أنتجت هوليوود ذلك الفيلم الدعائي الاستعراضي الضخم "الروس قادمون".. كان ذلك جزء من فصول الحرب الباردة ومن عمليات شحن موجهة للفرد الأمريكي أمام ما يسمّونه الخطر الشيوعي. * ماهو الخطر الذي تشكله الجزائر على مصر حتى يصار إلى تحريك كل هذه الآلة الدعائية التي لم تتمخض عن شيء ولا حتى عن فأر؟! فنحن لا تهمنا الأجندات السياسية المصرية ولا يعنينا طموح ذلك أو طمع هذا، ولكن نرفض أن نكون المشجب الذي يعلق عليه الفشل.. أو تبخر الأحلام؟! * لقد تم الإنزال في الخرطوم.. هكذا صرخ البعض، إنزال ماذا قائل قد يقول؟ * من عادتنا، كدولة، أننا لا نتبجح بما نقدمه، ولا نتحدث عنه، ربما لأننا نستحي، وربما لأننا لانريد إحراج أحد، أو ربما لأننا لانريد أن تعرف يميننا ما تقدمه يسارنا أو العكس.. وهي كلها صفات نادرة، لكن أستسمح نفسي للرد على بعض التبجحات. * في إحدى خطبتيه، لا أدري إن كان خطاب الاستقالة، أم العودة عن الاستقالة في العاشر والثاني عشر جوان 1967، قال عبد الناصر ما يلي أو ما معناه وإن اختلفت الكلمات: "لم تكن هناك أية قوة منظمة للوقوف أمام الجيش الإسرائيلي المتواجد على الضفة الشرقية للقنال والذي بإمكانه التقدم نحو القاهرة سوى الفليق الجزائري". * الخطاب، أو الخطابان، بيّا في كل القنوات والإذاعات العربية آنذاك، بعضها تشفيا وبعضها تعاطفا.. وأخشى أن يعمد هؤلاء الداجالون إلى حرق أو إتلاف ذلك الأرشيف في مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري.. * وحين كانت الأجواء المصرية مستباحة أمام الطيران الإسرائيلي كانت هناك وحدة جزائرية تحرس مطار القاهرة وقد وصلت للتوّ من الجزائر، كما كان الفيلق الذي تحدث عنه عبد الناصر قد وصل للتو والتحق بالجبهة مباشرة، وتمركز أساسا في منطقة "فايد". * وحين كانت الأجواء المصرية مفتوحة أمام عربة الطيران الإسرائيلي، نزلت طائرة جزائرية في أحد المطارات المحطمة وفيها وفد رفيع يقوده السيد عبد العزيز بوتفليقة، وزير الخارجية آنذاك، ورئيس الجمهورية الآن، ومن بين أعضائه المرحوم العقيد أحمد بن محمد عبد الغني، وقابل عبد الناصر. * وأتذكر ذلك المشهد في مطار طفراوي عام 1969 عند عودة آخر الوحدات الجزائرية من جبهة القتال نتيجة خلافات سياسية حول مخطط روجرز الذي قبله عبد الناصر ورفضه بومدين، لكن الخلاف لم يفسد للودّ قضية.. * المشهد هكذا.. لدى نزول آخر جندي، تقدم مقاتل أمام الصفوف وتلا قائمة الذين استشهدوا في القنال. وكان يرفق اسم كل مقاتل سقط في ميدان المعارك بهذه العبارة الدالة: "استشهد في مهمة وطنية"!، وكان بالإمكان والأصح القول، استشهد دفاعا عن مصر أو دفاعا عن الشرف والكرامة المهانة حقيقة.. * لقد اختلفت معايير الكرامة والشهامة، أيها الزمن الذي تطرد فيه النقود الرديئة النقود الجيدة كما كتب بذلك المقريزي قبل آدم سميث وقبل ريكاردو قبل كينز بعشرة قرون.. وبالمناسبة المقريزي هذا الذي يعد أول من كتب في النقود هو مصري.. * لا أريد أن أتحدث عن حرب 1973 ودور الجزائر فيها عسكريا وماليا وديبلوماسيا وسياسيا.. * فقط، دفعتني العنجهية الغبية للتذكير ببعض مآثرنها وبالقليل منها ليس إلاّ.. * وأختم، قبل حوالي شهرين تلاقت تركيا وأرمينيا في مقابلة لكرة القدم، كانت بداية لتجاوز عداء حوالي تسعين عاما من الأحقاد والقطيعة.. * في سبعينيات القرن الماضي، أدت مقابلة في تنس الطاولة بين فريق صيني وفريق أمريكي إلى إعادة العلاقات بين بكين وواشنطن نتيجة ديبلوماسية "بيغ بونغ". * ماذا حدث أيها الغوغاء؟!