عندما بدأت سُحب انخفاض أسعار النفط، تلوح في الأفق، اقترح كثيرون التقشف المادي، حلا لهذه المشكلة، ظنا منهم بأن أي رخاء يتحقق في وجود المال، وأي تدهور يتحقق في غياب المال، بالرغم من أن غيث النفط الذي تهاطل خلال عشرية كاملة، جفّ قبل أن يبلغ الثرى، فمرّ من دون زرع ولا حرث ولا حصاد، فطالب المواطن بتوقيف صرف المال العام، على ما سمّاه بكماليات الدولة، وطالبت الدولة بتوقيف صرف المال العام، عبر ما أسمته بترشيد الاستهلاك. ولكن أولى الفواتير التي وُضعت على طاولة الدولة والشعب بعد الأزمة، أكدت بأن استهلاك الجزائريين لمادتي الحليب والسُكر مثلا، تضاعفت في الأحد عشر شهرا الأخيرة، بنسبة قاربت الثمانين في المائة، وأنهينا عام 2014 وقد تعاطينا فيه حد الثمالة، مالا يقل عن ثلاثة مليارات دولار، من هاتين المادتين اللتين تنتجهما بلاد بعيدة، تكتفي ذاتيا، وتصدّرهما نحو البلاد النائمة في العسل، وهي فاتورة تضاف إلى سبعة مليارات صُرفت على شراء السيارات وأربعة مليارات على شراء القمح وملياري دولار لاقتناء الدواء، ويبقى المدهش، أن الشعب يطالب الدولة بالتقشف من خلال توقيف صرف المال على المهرجانات والرحلات السياحية والمرتبات المنتفخة، والدولة تطالب الشعب بالتقشف، ولا أحد من الطرفين طالب الآخر بالعمل الذي هو مفتاح كل المشاكل، لأن الجزائري إلى غاية نهاية ستينات القرن الماضي، ما كان يشرب غير حليب البقر الجزائري، وحتى علب الحليب التي قدمتها الولاياتالمتحدةالأمريكية هبة للشعب الجزائري لجرّه إلى عالمها الرأسمالي أصابها التلف، لأن الجزائر كانت مكتفية من حليب البقر، وبعد نصف قرن من الاستقلال، يقف نفس الجزائري في طوابير طويلة للحصول على أكياس من شبه حليب، وقد يقف في طوابير مشابهة لاقتناء السميد والسكر والقهوة وغيرها من المنتجات المستوردة، وهي للأسف كل ما يحتاجه حتى يحيا. الدولة الأندونيسية عندما جفت آبار النفط، انتفضت وتحوّلت إلى قوة اقتصادية عالمية، والدولة الجزائرية حملت فأسا وراحت تبحث في الصحراء عن الغاز الصخري، وليضرب أبناء الجنوب رؤوسهم على صخور الهقار، والشعب الأندونيسي عندما علم بأن عائدات النفط التي كانت تشتري لهم حليب الصباح قد جفّت، قرّر بمحض إرادته ألا يأكل إلا مما ينتج، وغيّر من أساليب حياته، إلى درجة أنه قرّر ألا يتعاطى الحليب والخبز، بسبب استحالة إنتاجهما في الأرض والمناخ الأندونيسي، وعوّضها بالأرز والفاكهة الأندونيسية التي لا توجد في سوى هاته البلاد، موازاة مع ثورة العمل التي حوّلت أندونيسيا من بلد بترولي يموت بعض شعبه من الجوع، إلى بلد غير بترولي يصدّر البواخر والطائرات إلى روسيا واليابان والولاياتالمتحدةالأمريكية، في الوقت الذي تتكون وجبة فطور الجزائري بالكامل مما يأتيه من قارات العالم الخمس. نحن بالتأكيد أمام حالة مرضية خطيرة، كلنا مسؤولون عن أسبابها وأعراضها، لكن الأخطر أن نطلب الدواء من المتسبب في هاته الحالة، والأفظع أن تكون وصفة الدواء كلها... خطأ.