ماذا يعني أن تؤسس وتبني حملة انتخابية على أفكار عنصرية إقصائية استفزازية، الهدف منها التخلص من الآخر وجعله السبب في كل المشاكل والمآسي التي تحل بالدولة. وماذا يعني أن تجعل من رموز الإسلام كالمساجد والمآذن قنابل إرهابية تهدف إلى تحطيم البشر والإنسانية؟ وماذا يعني أن تجعل من إقصاء الآخرين سبيلا لنجاحك وتفوّقك؟ هذا ما عمل به "لوبان" وحزب الجبهة الوطنية للحصول على أصوات الناخبين في انتخابات المجالس الإقليمية الفرنسية التي جرت بحر هذا الأسبوع في فرنسا لانتخاب 1880 مندوب للمجالس الإقليمية. يتحدث البعض عن حوار الحضارات وحوار الديانات والبعض الآخر يتكلم عن انهيار الحدود في زمن العولمة وتقارب الشعوب، لكن الواقع يشير إلى العكس تماما، حيث نلاحظ مظاهر للعنصرية والحقد والكراهية ورفض الآخر. مبادرة الحزب الوطني الفرنسي بقيادة "لوبان" في إنتاج ملصق أُستعمل في الحملة الانتخابية تمثل وصمة عار على الفضاء السياسي الفرنسي وعلى الديمقراطية الفرنسية وعلى مبادئ الثورة الفرنسية والمتمثلة في "الحرية، والمساواة والأخوة". الملصق يظهر خارطة فرنسا مغطاة بالعلم الجزائري ومزروعة بمآذن على شكل صواريخ مع صورة لامرأة تلبس البرقع. كما كتب في أعلى الملصق عبارة: "لا للإسلاموية". دلائل ومعاني الملصق خطيرة جدا، لأنها مست بالدرجة الأولى سيادة وكرامة دولة بكاملها بحاضرها وتاريخها وشهدائها. الملصق كذلك عبارة عن مساس وتشويه وتحريف للدين الإسلامي ولما يزيد على مليار وثلاثمائة مليون مسلم عبر العالم. السؤال الذي يطرح نفسه عند قراءة الملصق هو، بأي حق يستعمل حزب سياسي في فرنسا، وفي إطار حملة انتخابية، عَلَم بلد آخر ودين سماوي في حملته الانتخابية. والأخطر من هذا، أن العلم الجزائري أُستعمل للتعبير عن الإرهاب. وللإشارة، للإرهاب من خلال دولة بكاملها. أين هو القانون الفرنسي؟ وأين هي أخلاقيات العمل السياسي الفرنسي الذي يسمح للأحزاب السياسية المساس بسيادة وكرامة وشرف الدول وشعوبها. ما يجهله أو يتجاهله "لوبان" والجبهة الوطنية واليمين المتطرف والعنصريون الفرنسيون هو، أن الأجانب في فرنسا ساهموا في بناء هذا البلد وشاركوا في تحريره من النازية الألمانية أثناء الحرب العالمية الثانية، وأن أمثال زيدان من أبناء المهاجرين العرب والأفارقة هم الذين ساهموا في حصول فرنسا على كأس العالم في كرة القدم سنة 1998. شعارات الحرية والمساواة والعدالة التي تتغنّى بها فرنسا تواجه هذه الأيام تحديات كبيرة جدا في أرض الواقع، حيث تعيش هذه الشعارات تناقضات صارخة وتعاني من وهم كبير وواقع مازال لم يعترف بأن فرنسا هي مجتمع متعدد الأعراف والديانات والأقليات شاء من شاء وكره من كره. فالتاريخ يقول إن رجالا من دول مختلفة وخاصة مستعمرات فرنسا في شمال إفريقيا والقارة السمراء وغيرها شاركوا في الجيش الفرنسي في الحرب العالمية الأولى وساهموا في تحرير المجتمع الفرنسي من النازية والفاشية أثناء الحرب العالمية الثانية. لكن فرنسا اليوم لا تعترف بهذا الجميل، حيث أنها تعامل أبناء وأحفاد الرجال الذين حرروا وبنوا وشيّدوا على أنهم أشخاص من الدرجة الثانية والثالثة وأنهم لا يمكنهم بأية حال من الأحوال أن يكونوا فرنسيين. بل نلاحظ أن لوبان والجبهة الوطنية ترى أن الجاليات الأجنبية في فرنسا غير مرغوب فيها. الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي كان وراء قانون الهجرة "المختارة"؛ قانون يتناقض جملة وتفصيلا مع حقوق الإنسان ومع المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية. هذا ليس غريبا على فرنسا حيث أنها كافأت الجزائريين الذين حاربوا في صفوفها إبان الحرب العالمية الثانية بقتل 45 ألف منهم في 8 مايو 1945 عندما خرجوا في مدن قالمة وخراطة وسطيف يتظاهرون باستقلال الجزائر وفق ما وعدتهم به السلطات الاستعمارية. فالمتتبع اليوم لما يجري في دولة بحجم فرنسا وتاريخها ووزنها على الساحة الدولية الدولة التي تتغنّى بالديمقراطية وبحقوق الإنسان وبالحرية يلاحظ العنصرية والإقصاء والتهميش والفشل الذريع في عملية إدماج الآخر. فقانون "الهجرة المختارة"، على سبيل المثال، يعبر عن النية الحقيقية لدولة لا تريد إدماج الآخر والاعتراف بالجميل الذي قدمه أبناء مستعمراتها في شمال إفريقيا وفي إفريقيا السمراء في عملية تحريرها من النازية والفاشية وفي عملية البناء والتشييد. وهم المساواة وواقع التمييز يعكس أطروحة منظّر الإمبريالية الفرنسي "جول فيري" الذي قسّم الشعوب والأمم إلى شعوب متحضرة ومتفوقة خُلقت لتقود شعوبا وأمما أخرى متخلفة وجاهلة وغير قادرة على إدارة وحكم نفسها بنفسها. رغم التطور المادي والتكنولوجي الذي شهدته البشرية في العقود الأخيرة، مازالت المنظومة الدولية تعاني من غياب التسامح والتفاهم والحوار واحترام الآخر، بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه ومعتقداته. يبلغ عدد المهاجرين في فرنسا 10 ملايين نسمة، أكثر من خمسة ملايين منهم مسلمون وأكثر من أربع ملايين منهم من السود و أكثر من خمسة ملايين عرب. لكن هذا التنوع لا يعني الكثير لفرنسا الرسمية التي تنظر لهذه الجاليات والأقليات بعين الازدراء والاحتقار والتهميش والتمييز المنظم. فرئيس الحزب الوطني "جون ماري لوبان" يرى أن هذه الجاليات تشكل خطرا على فرنسا وهي سبب الأمراض الاجتماعية والبطالة، والجرائم وانتشار المخدرات... وحتى عندما سُئل عن رأيه في المنتخب الفرنسي المشارك في نهائيات كأس العالم أجاب، بأن هذا الفريق لا يمثل فرنسا ولا علاقة له بفرنسا، لأن أغلبية لاعبيه من السود وأبناء المهاجرين. لوبان يجهل تماما أن أبناء المهاجرين هم الذين صنعوا أمجاد الفريق الفرنسي لكرة القدم سنة 1998 عندما فازت فرنسا، لأول مرة في تاريخها، بكأس العالم. فواقع فرنسا يقول إن هذا البلد بلد ملوّن ومتعدد الأعراق والأقليات والثقافات والديانات، لكن فرنسا الجمهورية الرسمية لا تؤمن بهذا الواقع ومازالت تعيش على غطرستها وعنصريتها وازدرائها وتهميشها للآخر. على عكس العديد من الدول المتطورة والتي تعيش فيها شعوب من مختلف الأجناس والأعراق والديانات (الولاياتالمتحدةالأمريكية، بريطانيا، أستراليا، نيوزيلاندا، كندا، دول جنوب شرق آسيا...الخ) فشلت فرنسا منذ أكثر من خمسو عقود في إدماج وصهر هذه الجاليات في الجمهورية الفرنسية. ومازالت فرنسا الرسمية تتخبط في أيديولوجية الإقصاء والتهميش وعدم الاعتراف بالآخر مهما كانت الظروف والاعتبارات. فالوثائق الرسمية تعترف بفرنسية ملايين المهاجرين من عرب وأفارقة ومسلمين، لكن فرنسا الرسمية تعتبر هذه الفئة غير فرنسية مائة بالمائة وتبقى من الدرجة الثانية أو الثالثة. والأخطر في هذه القضية، النخبة المثقفة الفرنسية والمفكرون الفرنسيون الذين يصرّون على التفوق العرقي والثقافي الفرنسي، ما عدا قلة قليلة من اليسار التي تحاول بكل ما أُتيت من قوة تصحيح هذا الوضع الذي يعبّر عن تخلف ذهني وفكري وتاريخي، لكن بدون جدوى. يجب أن تعترف فرنسا الجمهورية الرسمية بالأمر الواقع ويجب أن تعيش على غرار الشعوب المتطورة والمتحضرة والتي تؤمن بالثقافات والديانات والأعراق الأخرى، يجب أن تعترف بالأقليات والمهاجرين ودورهم في تطور ورقي وحضارة المجتمع الفرنسي وهذا بإدماجهم في مختلف مجالات الحياة، كما احتضنتهم في المنتخب الوطني لكرة القدم والذي رفع رايتها واسمها عاليا في ربوع العالم. الأمر يتطلب التوقف عن الخديعة وتطبيق مبادئ الجمهورية في أرض الواقع، لأنه إذا استمر الوضع على هذه الحال فإنه يؤدي إلى المزيد من الصراعات والنزاعات والصدام وأعمال الشغب والمظاهرات والاحتجاجات والتي تؤدي جميعها إلى خسارة الجميع وإلى انهيار ذاتي.