من فضائل العولمة.. أنها عولمت المعرفة.. عولمت الاقتصاد والتجارة.. عولمت مناهج الإدارة والتسيير أو ما يعرف "بالمناجمنت..management.. عولمت التجربة وتراكم الخبرة الإنسانية.. وضعتها على طرق سريعة للانتقال.. فتحت أمامها أبواب الآخرين.. فتح الآخرون أبوابهم لها.. قفزت فوق الحدود.. وصلت إلى أبعد المناطق والدول والأقاليم.. أصبحت لغة كونية مشتركة.. مصالح كونية مشتركة.. ممارسات وتطبيقات كونية مشتركة.. أهداف كونية مشتركة.. ليست فقط للدول والحكومات والشركات.. بل للأفراد والمجموعات.. كل يجد له مساحة وقوف بين الصفوف.. يجد له تذكرة عبور عبر بوابات العولمة المختلفة.. ولكل واحد أن يدخل العالم الذي يريد من الباب الذي يريد.. من منافذ حسب الاختيار.. دون إذن مسبق.. دون انتظار!!! كل النماذج الناجحة والمميزة في عالم اليوم تبنى بمفاتيح وعلى سر نجاح الأخرين.. تؤسس على منطق حسابي ورياضي بحت.. كل الهوامش والأوعية محسوبة.. الوعاء الزمني.. الوعاء الاستثماري.. ووعاء المردود.. من ساعة إقرار أي مشروع تتحرك سلسلة وشبكة مهام وصلاحيات محكومة بحسابات دقيقة.. محددة لا يسأل فيها أي شخص إلا على ما يهمه وما يعنيه.. مؤسسات للتهيئة وأخرى للإمداد، وثالثة للمتابعة الفنية، ورابعة لمطابقة المعايير والمواصفات، وخامسة للبيع والحجوزات، وأخيرة لتأمين الصيانة والخدمات.. وفي هذه السلسلة كل محكوم بموعد انتهاء العد.. بيوم التسليم والاستلام.. كل مربوط بسلسلة كالحبل يخشى كل متخّلف.. على عنقه تلتف.. وبالحديث عن مقاييس ومعايير الإدارة والعمل عند الآخرين يحضرني مثال أثار حيرتي.. فبينما كنت مارا ذات يوم بجانب منطقة مسيّجة كان سيقام عليها فندق في أبوظبي.. وكان الأمر عاديا، لكن غير العادي هو أن تدرج في نهاية اللوح المبين لمواصفات المشروع.. خانة خاصة بالحجوزات لمن يريد أن يقضي أول ليلة في الفندق.. تصوروا كان التاريخ محددا.. وللمعنيين أكثر..!! حددت بقيّة الخيارات.. بين الغرفة والجناح.. وبين المطاعم والوجبات المعدة بالمناسبة..!! وحينها تفاقمت حيرتي..!! في عالم هذا منطقه وهذه أداوته.. كيف نظل نحن (معطلين.. عالقين.. محتجزين).. في مربعات التنظير والتفسير والتبرير.. معطلين في مستقبل التأخير!! عام 1982 عند الإعلان عن الشروع في إنجاز مترو الجزائر وتهيئة بناء قلب العاصمة الجديد (الحامة)، كنت قد تصورت حينها وأبناء جيلي أننا دخلنا في زمن دولة المستقبل.. الدولة التي لا تكتفي بإدارة الشأن اليومي، بل تخطط لمستقبل هي واثقة من أنه سيصير يوما حاضر الناس.. حين بدأ الميترو، وبدأت الحفر تنشر في شوارع العاصمة، كان فضولنا يدفعنا إلى حد المغامرة أحيانا بالدخول بين الظفر والظفر.. للظّفر ربما برؤية خطوط السكة.. رؤية زخارف ومنمنمات المحطات..!! لكن بداية المفاجآت كانت بداية صداع الشوارع وتصدع البنايات.. في شوارع المدينة نحتجز في كل مفترق، في كل السّاحات.. اختناقات.. خناقات ورغم ذلك كنا نختلق الأعذار.. نقبل بكل التفسيرات.. نقبل بكل المبررات.. كيف لا ونحن مقبلون بعد أربع سنوات على نمط جديد من رفاهية الحياة.. نركب قطارات.. نحترم المواعيد.. نحترم الإشارات.. ندخل زمن قراءة الجرائد ونحن جلوس.. ندخل زمن عازفي الاكوريدون والقيثارات في العربات.. ندخل زمن احترام الزمن.. زمن احترام المواعيد.. ننهي زمن الزمن المهدور في محطات التاكسي والحافلات.. مرت السنوات الأربع الأولى وبدل الاحتفال بالإنجاز فوجئنا بقرار إعادة تكييف الدراسات لتتلاءم مع الأرضية المتمردة الرافضة للحضارة.. الرافضة للغزاة.. أرضية هددت مسؤولينا بحرب الانهيارات والغرق في المستنقعات، وبحرب البحر لإغراق ما حفر في باطن الأرض من غيران وثقوب وجيوب وفجوات!! مرت أربع سنوات أخريات ولم نركب الميترو.. هذه المرة تحجّجنا بشركات الإنجاز، وعدم قدرتها على التنفيذ ولذلك أعدنا الدراسات لملاءمة المشروع للشركات.. حتى تتأقلم مع الأرض مع العقليات.. مع طموح المنتظرين على أبواب ركوب الحلم من سنوات.. وبالرغم من أن باطن الأرض لم يحمل بعد بالميترو، إلا أن مشاريع عمليات الإجهاض بدأت تلاحقه فكان مثلا تغيير الطواقم والإدارات.. كل طاقم سابقه يلعن.. منه ينتقم بإعادة الدراسات وتقديم ميترو بآخر المواصفات، ونحن نصدق ونصفق، وننتظر التدشين كل مرة بعد اربع سنوات.. لأربع سنوات أخريات فتحنا باب المنافسة الشديدة والشرسة لاقتناء شكل الرفاهية القادمة.. لأول مرة سمح لنا باقتطاع تذاكر السفر لركوب حلم الميترو.. عرضوا علينا نماذج وألوان وأحجام العربات.. ولكن الخلاف ظل مفتوحا بين المزودين والمزودات.. فمنهم من قال إن (ميترونا) سيكون على المواصفات الباريسية، وحينها ثار الخلاف على تسمية المحطات.. ومنهم من قال إنه سيكون أمريكيا وحينها ثار موضوع مخارج النجدة في حال الأزمات.. ومنهم من قال وقال.. والحلم مازال غارقا في الأوحال!! مسايرة لهذه التطورات وحتى لا تسجل على سيدات الجزائر تهمة التقصير وعدم المسايرة للتغير.. بدأن يعلمن أبناءهن ثقافة الميترو ورفع وعيهم بالزمن القادم.. نساء الجزائر بدأن يشعرن بالخوف على الأولاد من مغبّة التّيه والضياع بين الخطوط المتداخلة.. تخاف الأمهات على الأطفال الخطأ في المخارج والبوابات.. ودون كثير انتظار جاءت الحلول المطمئنة لقلق وخوف السيدات.. قال بيان رسمي إنه تم تكوين شرطة خاصة ومرشدين ومرشدات، فلا خوف على الراكبين والراكبات سيجهز الشعب للرّكوب بعد أربع سنوات!!! ثم كان الحرص على أن يكون للمترو محطات لا تشبه المحطات.. كان الحرص أن لا تشبه محطاتنا.. محطات لندن العتيقة ولا محطات موسكو الأنيقة.. أن لا تشبه محطات باريس الضيّقة.. ولا محطّات نيويورك العميقة.. كان يراد لمحطاتنا أن لا تشبه المحطات، ولذلك صار للميترو اربع سنوات أخريات سّميت بسنوات المحطات!! ويظل الأجمل في هذه التجربة الفريدة أنها منحتنا.. وقبل غيرنا متحفا للميترو يحسدنا عليه الآخرون والأخريات.. فمنذ سنوات شيّد متحف للميترو في ساحة أول ماي بقلب العاصمة.. حرص الأطفال على زيارته، وأخذ الصور التذكارية أمام هذا الصرح الوطني العملاق..!! فالميترو في الجزائر أصبح واستحق أن يكون بطلا قوميا يجب أن تسدى لها أرفع الأوسمة والنياشين.. فبالميترو حطمنا موسوعة "غينيس" وليس رقما فيه.. وفتحنا للأرقام كتابا جزائريا خالصا.. لا يتطاول على أرقامه غيرنا.. وما أعتقد أن أحدا سيقلب يوما صفحة فيه أو يسجل فيه رقما غيرنا..!! أخذت أولادي الصيف الماضي إلى (متحف) الميترو.. وأخذت أشرح لهم مشقّة الأجداد.. كيف كانت ظروف العمل.. وكيف تمسكوا بالأمل حتى يصير هذا الذي أمامكم اليوم ..!! الذي أحزنني أن المتحف لم يضم كل أشكال العربات التي كان يفترض أن تسير على خط ميترو الجزائر.. اعتقد أننا أهملنا وغيبنا من ذاكرة الأجيال حوالي 6 أجيال وأشكال للعربات التي ارتبطنا بها ومعها وجدانيا وفي الأحلام.. ارتبطنا بالانتظار الذي كان يلتهم أيامنا والساعات.. في الشوارع ومشاريع الخيارات!!! في المتحف وقفنا على أهم الاكتشافات.. اكتشاف إعجاز أن تنجز أمتار بجهد وكلفة كلمترات.. اكتشفنا كيف يمكن للايام أن تموت جياعا تباعا.. أن تتعطّل.. أن تتكتل وتصير أكوام جثث في مقابر السنوات!!! اكشتفنا أيضا أن عربات الميترو يمكن أن تسير على سكة مثل القطارات.. اكتشفنا أن بها بوابات للصعود.. وأخرى للنزول.. وتفاجأ الكثير من مشاريع الركاب أنهم ركوب الميترو يشبه ركوب الحافلات.. وأنهم لن يكونوا بحاجة إلى دورات لتعلم ركوبه.. ولكن الإشكال الكبير أن هؤلاء المساكين الدخلاء على عالم الميترو مازالوا يجهلون كيفية الوقوف على الأرصفة، ويجهلون كيفية اقتطاع التذاكر، وخاصة إن كانت تسحب إليكترونيا.. ولذلك أيضا وحرصا من إدارة الميترو، فقد فكرت في إجراء دورات لتدريب وتأهيل مستعمليه على ذلك.. وعليه فقد قدرت أيضا أن ذلك ربما احتجنا فيه إلى بضع سنوات أخريات.. فشكرا لأصحاب الفكر لاستشرافي الذين رافقوا مشروع تطور الإنسان في الجزائر، وتأهيله لدخول عصر غزو(فضاء) الأنفاق.. وشكرا للحكومة التي فضلت أيضا أن تجرب ركوب مخاطر الميترو نيابة عنا وقبلنا ولذلك جاء أعضاؤها جميعا في رحلة التجريب.. التي اعتقد أنها تمت قبل سنة أو أكثر وليعذرني القارئ في تذكر وحساب الزمن، فالمشروع الجم ترافق مع كثير من (المحطات) التي وقف فيها الرجال والأجيال في مواجهة كثير من الامتحانات!! صار للميترو في الجزائر متحف.. ومستنقع سكته من 28 عاما بعد لم يجف.. مازال القائمون عليه.. بمجيئه يعدون..!!! الأيام الشهور والأعوام لا يعدون.. ونحن فقها جديدا في مناهج الإدارة منهم نتعلم.. نكتشف..!!! اكتشفنا فظاعة الذي ضاع من الزمن.. اكتشفنا خوفنا من هول القادم.. صرنا من الزمن على أولادنا نخاف..!! حين نجرؤ.. القادم من الزمن نستشرف.. نستشف..!! في القادم نتعطل ..!!القادم نهاب.. من مجرد ذكره نرتجف!! 28 عاما و7 كلمترات أو هكذا تقول البيانات.. لا ندري حتى الآن ما الذي تم منها وما الذي منها ربما سيعدل ليتلاءم مرة أخرى مع الطموحات.. وفي المربّع حيث نقف نحن ونظل.. يتحرك الآخر يبدأ مسيرا ويصل.. يصل الآخرون يدخلون مشاريع ينهونها ويخرجون.. ونظل نحن منتظرين.. آخر الداخلين والخارجين إمارة دبي بأحدث خط في العالم.. بطول 70 كلمترا.. وبتقنية مستقبلية سواء من حيث التصميم أو من حيث التجهيز.. فالميترو الذي يتحرك دون سائق ويدار من محطة مراقبة إليكترونية يسير على خطوط للوسائد الهوائية.. وتتمتع عرباته بأقصى درجات الرفاهية والأمان.. أحدث شبكة ميترو.. لأطول خط ميترو.. في أقصر حيز زمني (4سنوات). عند الآخرين يبدو الأمر عاديا تماما.. لا زيارات تفقدية ولا نماذج تعرض ولا عينات ..!!وعندنا نتحدث في كل مرة عن إنجازات ومعجزات.. نؤرخ لها بالخطب والبيانات!!! عند هؤلاء الزمن تقسيم وتقييم للأداء على سلم بالثواني والدقائق والساعات.. زمن هؤلاء قرارات بحياة.. ونظل نحن ومشاريعنا نتعثر في سنوات.. أيامها.. شهورها لا نعد.. لا نذكر.. عمر يمر.. أعوامه تنحسر.. حياة نخسر.. ورغم ذلك وبعد كل هذا العمر.. نظل ننتظر ركوب عربة ميترو ..!!ننتظرها على حيينا يوما تمر.. ننتظر ركوبها.. حتى لو كانت الوجهة القادمة.. المحطة (القبر)!!!