في ذكراك.. سلام لروحك الحرة الأبية.. سلام من جرح فلسطين الراعف.. سلام من طموحات الأمة المعذبة المقهورة وهي بأشد الحاجة إليك.. ما أصعب أن أتجشم عبء الكتابة عن رجل بحجم القائد الزعيم هواري بومدين وقد عشت ردحا من عمري أتتبع خطواته وهو يخوض غمار التحديات الواحد تلو الآخر وعلى أكثر من جبهة.. فلقد كان منشغلا ببناء المجتمع والدولة التي ينبغي ان لا تزول بزوال الرجال وكأن لا قضية له سواها فيمعن في التفصيلات والشروحات والمتابعات حتى أصبحت الجزائر قد تملكت القاعدة الصناعية والبنية التحتية لمجتمع صناعي زراعي رغم كل ما لحق بهذين القطاعين من انتقادات.. كما قد أرسى معالم مؤسسة عسكرية متماسكة فذة كانت هي حصن الجزائر عندما لاحت بوادر التحديات ورياح السموم.. كما انه ترجم بيان أول نوفمبر بدقة في تعريب شمل الناشئة وسواها من قطاعات الشعب ووسع أفق التعليم الجامعي والتخصصات لتلحق الجزائر خلال سنوات قليلة من الاستقلال بدول تعد سني عمرها بمئات السنين.. تتابع هذا بتفاصيله فتحس أن بومدين أغلق على نفسه بهموم الجزائر وقضاياها ولم يعد له متسع لسواها. ولكنك بمجرد ما تدير وجهك إلى حركات التحرر وكيفية رعايتها وتبنى قضاياها يصيبك الإحساس أن الرجل قد صرف نفسه كلها لهذه المهمة الكبيرة فعادت الجزائر قبلة الثوار ومطارها أهم مطار دولي في استقبال المناضلين وقادة حركات التحرر في إفريقيا وامريكا اللاتينية وسواهما.. فكان زعيما عالميا بجدارة أعطى لحركات التحرر قيمتها واعتبارها كما انه أسهم بقوة في بناء نظام دولي جديد بوقوفه ببسالة في تصليب منظمة دول عدم الانحياز في محاولة منه لكسر احتكار القرار الدولي بين قطبي الرأسمالية والاشتراكية. أما عندما يكون الحديث عن فلسطين وقضية العرب المركزية وعن جبهات القتال فإنك لا تملك إلا القول ان الرجل قائد القضية الفلسطينية والمسئول الأول عنها بلا تردد.. الرجل الذي أوجد كل شروط انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة وشكل له الغطاء العربي يوم كانت مستضعفة وقلة في الأرض وحماها ضد تغول النظام العربي ودربها ومهد لها وحول مؤسسات الدولة الأمنية جميعا لخدمة القضية الفلسطينية والثورة الفلسطينية فكان السلاح والتدريب والتسهيلات الأمنية مرافق وبوفرة للفعل الفلسطيني.. كما كان الرجل هو من جعل من جبهات القتال ضد الكيان الصهيوني المصرية والسورية حالة حشد استراتيجي لطاقات الأمة لا يدخر مالا ولا دما ولا جهدا عن استمرار قوتها وحيويتها وصولا إلى تحرير فلسطين، فلقد كان الرجل هو من ىرفض هزيمة 1967 ولم يعترف بها تلك الهزيمة التي دفعت بعبد الناصر إلى الاستقالة.. ففي الملف الفلسطيني كان حرصه بالغا على وحدة الصف الفلسطيني وتقويته وحمايته كما كان حرصه بالغا على تنقية الأجواء في المنطقة العربية لتوحيد الجهد والفعل في اتجاه فلسطين فأنهى الخلافات بين ليبيا ومصر كما أنهى الخلافات بين إيران والعراق.. ولطالما قال ان فلسطين الإسمنت المسلح الذي يحمي وحدة الأمة، ولقد جعل مبدأ ليس لمن يجيء بعد إلا الالتزام به: "نحن مع فلسطين ظالمة او مظلومة". بومدين لم يخاصم إلا من اجل فلسطين فقطع علاقات الجزائر مع كل دولة عربية تمتد بالأذى للفلسطينيين.. وعندما شعر الفلسطينيون أنهم أصبحوا وحدهم في الميدان بعد كامب ديفد.. وقف كالطود الشامخ ليعلن ان مرحلة الفرز الاستراتيجي قد بدأت وتزعم جبهة الصمود والتصدي.. لقد كان بومدين بحجم الأمة واعتذر له أني لم استطع في هذا الحيز ملامسة عناوينه.. لكن يطامن روعي انه حي فينا وكل يوم يزداد تألقا.. وقد أصبح علما من أعلام فلسطين والأمة.. رحمه الله رحمة واسعة وتولانا برحمته.