يقصدون مكتب الفتوى على مستوى وزارة الشؤون الدينية بالعاصمة، قادمين من مختلف ولايات الوطن، وكلّ يبحث عن حكم شرعي لمسألة دينية تؤرقه... إنهم مواطنون لا يتردّدون في حمل ورقة مدونا عليها سؤالهم الديني الموجه إلى مكتب الفتوى. ورغم تنوع الأسئلة بين البسيطة والمعقدة، وجدنا رحابة صدر لدى الأئمة المفتين، فهم لا يتجاهلون أي سؤال مهما كان بسيطا، لأن النار تأتي من مُستصغر الشرر. ما هي المسائل الشرعية التي تؤرق الجزائريين، وماذا يسألون الأئمة؟ ومن هي فئات المجتمع الأكثر استفسارا في دينها؟ وكيف يُجيب عنها الأئمة...؟؟ هذه أسئلة وأخرى، بحثنا لها عن إجابات بمكتب اللجنة الوطنية للفتوى على مستوى وزارة الشؤون الدينية، أين استقبلتنا هناك وهيبة بوداموس، رئيسة تنظيم أعمال اللجنة. ففي البداية، شرحت لنا أعمال اللّجنة، التي تستقبل مُراسلات المواطنين البريدية والإلكترونية والهاتفية وحتى الشخصية. فيقصد الوزارة يوميا (رغم أن أيام الاستقبال هي الاثنين والأربعاء) بين شخص حتى أربعة بين نساء ورجال ومن مختلف أطياف المجتمع، يحملون سؤالا معينا بحثا عن حكمه الشرعي، فيتركون عنوانهم ورقم هاتفهم، وآخرون يعودون من ولايات بعيدة لأخذ الفتوى بأنفسهم. وتُوجه أسئلتهم إلى لجنة الفتوى المٌكونة من 13 أستاذا إماما بينهم مرشدات دينيات. والأئمة معروفون وطنيا، بينهم الشيخ بن عامر بوعمرة، رئيس المجلس العلمي والتوجيه القرآني لولاية تيبازة، الشيخ عبد السميع بوقندورة من البليدة، الأستاذ سليمان بوديبة من تيبازة. وعند وُجود مسائل مستعصية تُرفع القضايا إلى مفتين معروفين أمثال الشيخ الطاهر آيت علجت، وموسى إسماعيل، وكمال بوزيدي... وأكدت بوداموس أنهم يجيبون عن جميع الأسئلة ويبدؤون بالأكثر استعجالا خاصة في قضايا الطلاق.
قضاة يطلبون فتاوى قبل إصدار أحكام الطلاق ومن أكثر المسائل الدينية التي يسأل عنها الجزائريّون، تقول وهيبة "تُعتبر قضايا الطلاق والزواج والخلع والميراث والمنازعات في الوقف، من أكثر المسائل المطروحة علينا، والأسئلة تأتينا حتى من قُضاة يرفضون الفصل في قضايا الزواج والطلاق دون الاستئناس بفتوى شرعية، وحتى المحامون والموثقون يبحثون عن فتاوى متعلقة بالميراث والعقود...". فمثلا من بين الأسئلة التي وردت إليهم حول الطلاق، رجل تزوج من امرأة عن طريق شخص عرّفه عليها، وعند استحالة العشرة بينهما طلقها عن طريق هذا الوسيط، الذي أوصل إليها خبر الطلاق، فهل وقع الطلاق؟ ومما يستفسر عنه المواطنون، حكم تطليقهم الزوجات في حالات الغضب الشديد أو المزح، فأحدهم يسأل، قلت لزوجتي مازحا: "ارفدي حوايجك وروحي لداركم.." وآخر رمى يمين الطلاق على زوجته في حالة غضب شديد... ولحل هذه المسائل تضطر لجنة الفتوى إلى استدعاء الطرفين ومعرفة نية الزوج، كما تسعى للصلح بين الزوجين. وحتى التفاوت في المستوى التعليمي بين الزوجين يعتبر من أهم أسباب الطلاق في مجتمعنا، والدليل ورود كثير من الأسئلة في هذا السياق، ومنها حالة تاجر من العاصمة لا يتعدى مستواه التعليمي الطور الابتدائي مرتبط مع طبيبة، فكان الزوج يتلقى إهانة دائمة وسُخرية من عائلة زوجته، الأمر الذي اضطره إلى أن يرمي عليها يمين الطلاق مرّتين، لكنه ندم على قراره وجاء إلى مكتب الفتوى باكيا، يريد استرجاع زوجته... أما غالبية الأسئلة المتعلقة بالميراث والوقف، فيستفسر أصحابها عن حكم حرمان البنات من الميراث، أو حُكم حبْس أرض على الذكور فقط.
رئيس بلدية يسأل عن حكم شق طريق عمومي وسط مقبرة وحتى هيئات عمومية ومؤسسات تطلب فتاوى. وحسب بوداموس، "أحد الأميار اتصل ليعرف الحكم الشرعي في قضية شق طريق عمومي وسط مقبرة، ونقل رفات الموتى إلى مكان آخر". وللمغتربين نصيب كبير من الفتاوى، وغالبية أسئلتهم التي تأتي عبر البريد الإلكتروني لوزارة الشؤون الدينية، تدور حول الزكاة، فمنهم من لم يُزك طول حياته، وآخرون يطلبون جدول الزكاة.. وأسئلة كثيرة حول الحكم الشرعي لشراء منازل في أوروبا عن طريق القرض... وتؤكد محدثتنا أنه في سنوات خلت كان المُغتربون يسألون عن الأكل الحلال، ونقصت هذه الأسئلة اليوم، بسبب انتشار الطعام الحلال في الدول الغربية. ومن المسائل التي قلّ السؤال عنها أيضا، قضايا إثبات الزواج العرفي، وحسبها، "منذ إلزام وزارة الشؤون الدينية الأئمة بضرورة وجود عقد إداري قبل إبرام الفاتحة، قلّت هذه الأسئلة... ولكن هذا لا ينفي حقيقة انتشار زواج الفاتحة بمجتمعنا". أما الأسئلة التي ظهرت بشدة حديثا، فهي لمواطنين يستفسرون عن الحكم الشرعي لشراء السيارات بالتقسيط عن طريق بنك البركة أو ببنوك أخرى. وبلغة الأرقام، تلقت اللجنة الوطنية للفتوى خلال عام 2016، 100 سؤال كتابي، تم الرّد على 90 سؤالا و1200 سؤال شفهي، وأكثر من 180 رسالة إلكترونية. ويختلف عدد الأسئلة وطبيعتها من ولاية إلى أخرى، فمثلا المجلس العلمي لولاية تيزي وزو تلقى لوحده 4 آلاف سؤال من مواطنين خلال سنة 2016، وغالبية استفساراتهم متعلقة بالزواج والطلاق والميراث.
مُصابون بالوسواس القهري يزورون مكتب الفتوى بدل الطبيب النفساني وحتى بعض المصابين بحالات نفسية مستعصية، صاروا يفضلون الذهاب إلى لجنة الفتوى، بدل عيادات الأطباء النفسانيين، للاستفسار عن حالتهم من الأئمة. وحسب ذات المتحدثة، "استقبلتُ شخصيا عدة حالات لمواطنين يعانون من اضطرابات نفسية، وأهمها الوسواس القهري خاصة لنساء، ومنها حالة شابة، فرغم تديُّنها تشك في كل شيء.. في وضوئها وصلاتها وصلتها بخالقها، إلى درجة صارت تفكر في الانتحار بعد ما راودتها شكوك بأنها ليست مسلمة، وتحسّنت حالتها عندما تحدثت معها رفقة الأئمة. وهذه الحالات تقول عنها بوداموس: "هي حالات روحانية تحتاج لعلاجها إلى شخص روحاني قريب من الله عز وجل، إضافة طبعا إلى طبيب نفساني".
قنابل أخلاقية في المجتمع تعكسها الأسئلة المُوجّهة إلى المفتين أما عن أغرب الأسئلة، فلجنة الفتوى تولي الاهتمام لجميع الأسئلة مهما كانت بسيطة، لأن السؤال البسيط قد ينجرّ عنه مخاطر في حال لم يجد صاحبه الإجابة المقنعة، ومن هذه الأسئلة مثلا: "زوجي مشحاح، شجار العروس وحماتها، الإفطار قبل الأذان، طريقة الغُسل والوضوء، وجود أشكال ورسومات تشبه لفظ الجلالة على الأحذية...". ومن كثرة بساطة بعض الأسئلة، ف 70 بالمائة منها لا تحتاج إلى اجتماع لجنة الفتوى بل يتكفل بالإجابة عنها إمام واحد. وتأسّفت مُحدّثتنا لكون بعض الأسئلة التي وردت من مُواطنين، هي انعكاس لما يتخبط فيه المجتمع من ظواهر أخلاقية خطيرة، فاللجنة تلقت أسئلة حول زنا المحارم والاعتداء الجنسي على النساء، ومنها سؤال وردهم منذ سنوات، نقلته سيدة متزوجة أم لأطفال. فالضحية تعرضت لاعتداء جنسي من طرف رب عملها وبمقر العمل، والمؤسف هو حدوث حمل، فحمَلت المسكينة همّها إلى المرشدة الدينية بدل العدالة بحثا عن حلّ لمصيبتها.