لطالما شكك الناس بمصداقية التاريخ، ولطالما وضعوا عشرات إشارات الاستفهام حول أحداثه وشخصياته. ولطالما سمعنا المؤرخين أنفسهم يشككون في رواية الأحداث التاريخية. فقد قال المؤرخ البريطاني الشهير هنري كار ذات مرة: "قبل أن تقرأ التاريخ، يجب أن تقرأ عن المؤرخ، وقبل أن تقرأ عن المؤرخ يجب أن تقرأ عن خلفيته السياسية والثقافية والاجتماعية". بعبارة أخرى، فإن كل مؤرخ يكتب التاريخ من وجهة نظر عقائدية مختلفة عن الآخرين. فإذا كان المؤرخ ذا خلفية ماركسية مثلا فهو يميل إلى كتابة التاريخ على أنه ليس أكثر من صراع طبقي، بينما يميل الإسلامي إلى رؤية التاريخ على أنه مجرد قضاء وقدر. وهكذا دواليك. وقد نظر الشعراء بدورهم إلى التاريخ على أنه مجرد تلفيق لا أكثر ولا أقل. وقد قال الشاعر معروف الرصافي في هذا السياق: "وما كُتب التاريخ فيما حوت إلا حديث ملفقُ- نظرنا في أمر الأقربين فرابنا، فكيف بأمر الغابرين نصدقُ". وهذان البيتان غاية في البلاغة، فنحن بالكاد نستطيع أن نفهم ما يجري حولنا الآن، فكيف لنا أن نصدق أو نفهم ما حدث لبعض الأقوام قبل مئات أو ألوف السنين؟ ويضيف الرصافي في السياق نفسه: "لا أقيم للتاريخ و زناً و لا أحسب له حسابا لأني رأيته بيت الكذب ومناخ الضلال". وحتى السياسيون يؤكدون بفعل خبرتهم ومؤامراتهم بأن التاريخ يكتبه الأقوياء، فكل ما وصلنا عن العهود الغابرة عبارة عن روايات وضعها النافذون في ذلك الوقت، لأن الناس البسطاء لم يكن لديهم الوسيلة ولا القدرة لوضع مؤلفات تكشف طبيعة تلك الأوقات القديمة. ناهيك عن أن الأنظمة السياسية التي توالت على حكم هذا البلد أو ذاك كانت تمحو تاريخ النظام الذي سبقها، وتكتب تاريخا جديدا يناسب تطلعاتها وأهواءها. وهلم جرّا. لكن رواية أو كتابة التاريخ ستتغير مرة وإلى الأبد، فمنذ ظهور العولمة الإعلامية ووسائل الاتصال الحديثة أصبحت وسائل التدوين والتأريخ بمتناول الجميع، بحيث لم تعد كتابة التاريخ مقصورة على المؤرخين، فكل من يستطيع القراءة والكتابة والبحث هذه الأيام يستطيع أن ينشأ لنفسه مدونة على الانترنت ليدون فيها أحوال وأخبار منطقته لتكون شاهدا على ذلك العصر في قادم الأزمان. وإذا حاول بعض المؤرخين المأجورين أو المنحازين في يوم من الأيام تزوير التاريخ فسيجدون عشرات، إن لم نقل ملايين المدونين الذين ينافسونهم في كشف الحقيقة ووضع النقاط على الحروف. بعبارة أخرى، فإن عصر الإعلام المفتوح سهّل المهمة حتى على المؤرخين أنفسهم، وجعلهم أكثر مصداقية. كيف؟ في المستقبل مثلا يمكن لأي جهة محايدة ونزيهة أن تكذّب هذا المؤرخ أو ذاك بناء على توفر كم هائل من المعلومات والمعطيات التاريخية المتاحة بسهولة، مما سيحدو بأي مؤرخ يحترم نفسه أن يتوخى الدقة في كتابة التاريخ إلى أقصى الحدود، لأن هناك من ينافسه على كشف الحقيقة. وبالتالي فإن تاريخ الوقت الحالي سيصل إلى الأجيال القادمة بكثير من الدقة والمصداقية أكثر من أي وقت مضى. لم تعد الكلمة المكتوبة على الورق هي المصدر الوحيد لرواية التاريخ في عصرنا الحالي، فهناك الآن الصحافة الالكترونية بما تحتوي عليه من صور ملونة وتسجيلات موثقة بالصوت والصورة، ناهيك عن أن الأفلام وبرامج التلفزيون والإذاعة تشكل مصدرا مهما لا غنى عنه في المستقبل لكل مؤرخ يريد أن يرسم صورة حقيقة لهذا العصر أو ذاك. زد على ذلك أن المؤرخين لم يعودوا ينتظرون عقودا وعقودا لكتابة لتاريخ، فالتاريخ في زماننا تتم كتابته لحظة بلحظة، فبفضل تقنيات الاتصال والسموات المفتوحة فإن الحروب يتم نقلها على الهواء مباشرة بالصوت والصورة، أي أن تاريخ المعارك يتم تدوينه لحظة وقوعه ساخناً، مما يؤكد مصداقيته، ويحول دون التلاعب بوقائعه وأحداثه لاحقاً عندما يخلد المؤرخون لتدوينه أو تفسيره. قد يقول البعض إن وجود العديد من المصادر لرواية التاريخ في العصر الالكتروني والفضائي قد يعقد الأمور، ويجعل الصورة التاريخية أكثر غموضا وفهما. صحيح أن الرؤى التدوينية قد تتعدد، لكن ذلك يشكل مصدر قوة ومصداقية للتاريخ وليس مصدر إبهام وغموض. فوسائل التدقيق والتمحيص العلمي غدت متوفرة بأفضل المواصفات، وبذلك ليس من الصعب أبداً على المؤرخين والمدققين أن يغربلوا المعلومات والمعطيات التاريخية كي يستنتجوا الرواية الأصح. لأول مرة في تاريخ كتابة التاريخ يستطيع المؤرخون والمدونون أن يلجؤوا إلى عملية تقاطع المعلومات كي يصلوا إلى حقيقة هذا الحدث التاريخي أو ذاك. وهو أسلوب تتبعه عادة أجهزة المخابرات في العالم للتأكد من صحة معلومة، حيث يجمعوا أكبر كم من المعلومات، ومن ثم يجرون عليها نوعا من التقاطع والمقارنة والقياس، وهي طريقة ناجعة لمعرفة الحقيقة والتأكد من صحتها. صحيح أن أمريكا مثلا مارست تعتيما إعلاميا على غزوها للعراق، ومنعت وسائل الإعلام من تغطية الساحة العراقية، إما بقصفها أو تخويفها. لكن المنع والقمع الأمريكي لم يحل دون الوصول إلى الحقيقة، فقد تمكن الصحفيون والجنود بطرقهم الخاصة وبمساعدة وسائل الاتصال الحديثة أن يكشفوا حقيقة الغزو الأمريكي وفظائعه في بلاد الرافدين. ويكفي أن صحفية أمريكية استطاعت بهاتفها الجوال أن تصور أكوام الأكياس السوداء التي تحتوي على جثامين الجنود الأمريكيين الذين سقطوا صرعى في العراق. ناهيك عن أن البعض تمكن من كشف عمليات التعذيب الرهيبة في السجون الأمريكية في العراق. ولا ننس أن حركات المقاومة تصور عملياتها ضد الاحتلال وترسلها إلى فضائيات متخصصة في فضح المحتلين الأمريكيين خارج البلاد. ولا ننس أن الأمر وصل بأمريكا إلى سن قانون لمعاقبة بعض الفضائيات العربية لأنها دوّنت وحشيتها لتصبح وثائق تاريخية معتمدة رغما عن أنفها. لم يعد التاريخ ألعوبة في أيدي الأقوياء وكتبتهم المأجورين بل غدا من صنع البشرية جمعاء، فلن يكون بمقدور المتسلطين من اليوم فصاعدا أن يصوروا لنا الساقطين والفاجرين والزنادقة على أنهم شرفاء وأبطال، أو أن يشطبوا سجل الطيبين من صفحات التاريخ، فالتاريخ من الآن فصاعدا سيكون أقرب إلى الصدق منه إلى التلفيق.