كان يمكن فهم اشتراط نزع الخمار من المرأة الجزائرية لحصولها على جواز السفر مجرد هفوة صدرت عن أفراد في وزارة الداخلية دفعهم إليها تكوينهم ومحيطهم البعيد عن فهم قدسية الحجاب بالنسبة لأغلبية النساء الجزائريات، وأنهم سرعان ما يعودون إلى الجادة حينما يلمسون ردة الفعل القوية ممن اعتقدوا بأن كرامتهم مُسّت ودينهم أُهين. ولكن حينما احتدم النقاش وتحول إلى صراع في أروقة الإدارة الجزائرية وعلى أعمدة الجرائد الوطنية والفضائيات الأجنبية، لاسيما حينما اصطحب هذا الصراع إهانة آثمة ظالمة لتاريخ الإسلام في الجزائر ودوره في حركة التحرير الوطني، تذكرت حالة الصراع الدائم على الهُوية في الجزائر وتأكدت بأننا لم نبرح مكاننا وأن الجزائر لاتزال وفية لخصوصيتها هذه، فلايزال الصراع على الوجهة الحضارية والثقافية التي يجب أن تُيمّم الجزائر وجهها شطرها قائما كما الأمس، وأن المتغرّبين من حيث دروا أو لم يدروا لايزالون يستميتون في التمكين لمشروعهم ولو أدى ذلك إلى اضطرابات اجتماعية واحتقانات سياسية وثقافية نحن في غنًى عنها أمام حالات التخلف والوهن الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، رغم الإمكانيات الضخمة التي تحوزها الجزائر. والغريب في الأمر، أن الذين يثيرون هذه الأزمات هم من يتهمون المتمسّكين بهويتهم بأنهم ينغمسون في نقاشات عقيمة وكأن المطلوب ممن يُراد تعريتُه من لباسه عنوة أن يسكت ويستمر في عمله ولو عاريا، أو أن المطلوب ممن طُعن في نسبه أن يستمر في السير إلى المجهول وهو يبتسم. يذكرنا هذا النقاش بالمحاولات المتكررة التي ينتهجها المستلبون حضاريا منذ فترة الحركة الوطنية قبل الثورة التحريرية إلى يومنا هذا لإلحاق الجزائر ثقافيا وحضاريا بثقافة وحضارة المستعمِر، والمؤسف أن هؤلاء قد نجحوا في التكتيك الذي انتهجوه إبان الثورة التحريرية بإعداد أنفسهم لاختراق مؤسسات الحكم بعد الاستقلال ولو أدى ذلك أحيانا إلى السكوت عن مطالبهم أمام قوة تشبث الجزائريين بدينهم وأصالتهم في مواجهة عساكر الاحتلال. وقد استطاع هؤلاء أن يصلوا إلى مواقع النفوذ فعلا بعد الاستقلال وقد اعتقدوا بأنه قد آن الأوان مع ارتخاء الشعب الجزائري بفرحة الاستقلال أن يكملوا المشروع الاستعماري بأيدي الجزائريين، فبدأت تطفو على السطح عبارات غريبة كعبارة "إعادة صهر " (La refonte) المجتمع الجزائري أو عبارة "إعادة تأسيس المجتمع الجزائري" (La refondation) أو عبارة "مشروع مجتمع" أو عبارة "الأمة الجزائرية" (التي تستعملها لويزة حنون كثيرا) وكأنه لم يكن في الجزائر قبل الاحتلال لا مجتمع ولا شعب ولا تاريخ وأن هذا الوطن لم يكن له أيّ امتداد حضاري ولا ينتمي لأية أمة من أمم الدنيا. وقد ركب هؤلاء موجةَ الاشتراكية في أيام عزّها فتوغلوا باسمها في مفاصل الحكم وتسرّبوا عن طريقها في مختلف المنظمات العمالية والشبابية والنسوية وحاربوا بها كل ما يرمز لثوابت البلد وحاولوا، كما يفعلون اليوم، إلغاء شرف الإسلام في صمود وتحرر الجزائريين وحاولوا تجريد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من كل ما تستحقه من إجلال وإكبار لما قامت به في سبيل النهضة الجزائرية وتجاهلوا، متعمّدين، حقيقةَ أنْ لا مقاومة قامت في الجزائر إلا وكان رائدها الإسلام، من الأمير عبد القادر إلى بوعمامة إلى فاطمة نسومر إلى المقراني والحداد وغيرهم، وأن جمعية العلماء المسلمين هي التي صنعت الأسماء الكبار الذين فجروا وقادوا الثورة كأمثال بن بولعيد وبن مهيدي وخير الدين وغيرهم، الذين لا ينكر أحد أنهم تربّوا في مدارس جمعية العلماء وأن موقف الجمعية جاء داعما للثورة التحريرية منذ يومها الأول في البيان الذي أذاعته الإذاعة المصرية في اليوم الثاني من شهر نوفمبر بلسان الفضيل الورتلاني، ثم من بعده يوم 16 نوفمبر البيان الرسمي بإمضاء الشيخ البشير الإبراهيمي الذي خاطب الشعب بضرورة الالتحام بالثورة والجهاد في سبيل الله لتحرير الوطن. ولو لم يكن الإسلام حاضرا في نفوس من فجروا الثورة (كما يزعم مستغربو اليوم والأمس) ما كان بيان أول نوفمبر ينصّ على أن هدف الثورة هو إقامة دولة ديموقراطية شعبية اجتماعية ذات سيادة ضمن إطار المبادئ الإسلامية. لقد اعتقد هؤلاء المستلبون ثقافيا أن حملاتهم هذه نجحت وأن الأمر قد استقرّ لهم في الدولة والمجتمع بعد الاستقلال، فإذا بهم يفاجَأُون بصحوة جديدة لا تقل أهمية عن صحوة ثورة التحرير، أنشأها الوطنيون المخلصون من داخل الحكم وخارجه، والمجاهدون وأبناء الشهداء وأبناء المجاهدين الأصلاء، والدعاة إلى الله الصادقون الذي حققوا حلفا جديدا أبطل مزاعم هؤلاء وقد ظهر ذلك جليا في أول فرصة يتاح فيها النقاش العلني بمناسبة مناقشة "مشروع الميثاق الوطني" سنة 1976 وقد وقف بومدين، رحمه الله، على هذه الحقيقة بنفسه حينما قال يوم 22 06 1976 في كلمته الاختتامية لأعمال الندوة الوطنية التي انعقدت لاستخلاص أهم ما أسفرت عنه تلك المناقشة، حيث قال: "ولقد كان إلحاح المواطنين على قضية الإسلام تعبيرا قويّا عن التمسك بشخصيتهم وأصالتهم، ومن الخطإ الفادح أن يعتبر البعضُ ذلك من الأفكار الرجعية... وفيما يتعلق باللغة القومية، يجب أن يكون واضحا بأن سيادة اللغة العربية لا شك فيها، ولا منازع لها، وهي وإن صح التعبير، سيّدة لا تقبل أن تكون لها ضرّة، وأقصد بالضرة اللغة الفرنسية". بعد هذه الهزيمة النكراء توالت الهزائم على دعاة التغريب حيث عُرّبت المدرسة الجزائرية واعتمدت دساتيرُ البلاد الإسلام دين الدولة الوحيد، وأُخرجوا ديموقراطيا من المنظمات الطلابية واتسع نفوذ الصحوة الإسلامية في كل الأحياء الشعبية والمنظمات الاجتماعية، وحينما أتيحت فرصة الانتخابات الشعبية ذهب ريحهم ولم يصمدوا منذ الجولة الأولى، وأصبح ثابتا لدى الجميع أن لا حزب ولا جمعية بإمكانها أن تجد لها مكانا في الجزائر إذا أرادت مصادمة الإسلام واللغة العربية. فاكتفى هؤلاء بالعمل في كواليس مؤسسات الحكم مرة أخرى وتحول أكثرهم إلى الاتجاه الرأسمالي الذي تحول إليه نظام الحكم، واستفادوا استفادة كبيرة بهذا الموقف حيث زاد نفوذهم داخل الدولة وفي القطاع الاقتصادي وصاروا يترقبون أية فرصة لخدمة حبّهم الأول. وقد تعجبت كثيرا لموقف أحدهم كان ينتمي لحزب لائكي معارض متشدد ثم صار مساندا لرئيس الجمهورية الحالي، إلتقيت به في مناسبة رسمية بعد الانتخابات الرئاسية سنة 1999 فرأيته ممتلئا فرحا وسرورا فسألته عن سبب سروره فقال مبتسما: "لقد قدم لنا رئيس الجمهورية خدمة لو بقينا قرنا ما استطعنا تحقيقها"، فسألته وما ذاك فقال: "إن تحدثه باللغة الفرنسية في المناسبات الرسمية وزياراته الميدانية مكسب لم نكن نحلم به" فقلت له: "ولكنه قال كذلك باللغة الفرنسية نفسها لن أصادم آية قرآنية (je ne heurterai pas un verset coranique) فنحن إذن متساؤون والعبرة بالعاقبة" فاصفرّ وجه صاحبي وحاول الخروج من الحرج بتكلّف لم يخف على أحد. لست أدري هل ما حدث بخصوص الجواز البيوميتري حادثة عابرة أم مكسب جديد حققه التيار التغريبي في مسار "العاقبة" التي تحدثت عنها مع صديقي اللائكي، سيما وأن الحجاب يتعلق بآية قرآنية لا يجب مصادمتها وأن اعتماد أمريكا وكندا وأغلب الدول الأوربية لصورة المرأة محجبةًً أبطل كل مزاعم الضرورة التي تبيح المحظور كما يزعم بعض فقهاء وساسة السلطان. إن السياقات المصاحبة لهذا النقاش توحي بتحولات مخيفة في هذا المجال، والمؤشر اللافت هنا هو انخراط لويزة حنون فيه بشكل مباشر وعنيف على غير عادتها حينما يتعلق الأمر بقضايا الهوية. لا لأن الزعيمة التروتسكية ثوابتية انقلبت على قناعاتها، فالأمر بعيد كل البعد عن هذا. لا يخفى على العارفين بالساحة السياسية والثقافية التوجهات العلمانية للويزة منذ بروزها في الساحة النقابية ثم الحزبية، ولقد رأيتها شخصيا في مؤتمر "مفترق طرق الفكر" (les carrefours de la pensée) الذي نظمته جريدة العالم الديبلوماسي (Le monde diplomatique) الفرنسية في بداية التسعينيات في مدينة لومون (Lemans) قرب باريس واتضح لي جليا آنذاك أنها لا تلقي اعتبارا كثيرا لما هو مقبول إسلاميا وغير مقبول، لا في السياسة فحسب، كما أفهمتنا هي نفسها في مؤتمرها الصحفي الأخير، ولكن فيما يُؤكل ويُشرب كذلك. ليس هذا الذي يحيّر بأي حال من الأحوال فهذا شأنها ولا دخل لنا فيه. ولكن الذي يحيّر فيها أنها غدرت بالناخبين الذين جعلوا منها زعيمة سياسية كبيرة منذ بداية أمرها؛ ذلك أنها استطاعت أن تحتال على شرائح كثيرة من ناخبي الجبهة الإسلامية للإنقاذ حتى كادوا لقلة حذقهم يجعلونها صحابية، وها هي اليوم تعقد صفقات سياسية جديدة تُظهر بها أيديولوجيتها الحقيقية. حينما اقتربت لويزة حنون من رئيس الجمهورية اعتقدنا بأنه مجرد تقارب ظرفي متعلق بموقف رئيس الجمهورية "الثاني" من قانون المحروقات، ثم مافتئ خطابها يتغير يوما بعد يوم بعيدا عن الخطاب الذي تأسست به إلى أن تحالفت في انتخابات التجديد النصفي لمجلس الأمة مع حزب التجمع الوطني الديموقراطي المعروف باختياراته المصادمة للاتجاهات العمالية وسمي ذلك التحالف بأنه تحالف استراتيجي، فاتضح بأنها استراتيجية جديدة بينها وبين أناس في الحكم. وقد تكون هذه الاستراتيجية هي التي جعلتها تطمئنّ بأنها لم تعد في حاجة لأصوات النساء المحجبات الكثيرات اللواتي انتخبن عليها ولا أصوات الإسلاميين السذّج الذين وثقوا بها فصارت تُخرج بلا حرج مكنون أيديولوجيتها... ولكن هيهات هيهات، كم من مغترّ بمواقعه السياسية وهن قرنه بضرب صخور هويتنا الصامدة... وفي كل الأحوال هذه شجاعة سياسية تحسب للويزة، ولكن الخبر سيكون يوم غد إذا كانت الانتخابات حرة ونزيهة ولا يشوبها فواعل الصفقات السياسية.