يواصل رئيس الوزراء الأسبق بلعيد عبد السلام سرد شهادته التاريخية حول المعارك السياسية للحركة الوطنية التي خاضتها ضد غطرسة الإدارة الفرنسية، والتحولات والإفرازات الداخلية التي عرفها حزب الشعب، من الصراع بين المؤسس مصالي الحاج والمنظر الدكتور لمين دباغين، إلى النزاع بين المصاليين والمركزيين، ناهيك عن "تفكيك وتركيب" المنظمة الخاصة التي تعرضت لاختراق أدى إلى تعرية نظامها السري، يروي مسارها وأطوارها في الحلقة الثانية من شهادته للشروق. لماذا انتقلت الأزمة من الحرم الطلابي إلى حرمة الحزب؟ كون المثقفين أنذاك هم نخبة البلاد، قام حزب الشعب بتجنيد بعض منهم، ووسط هؤلاء المثقفين بزغت الأزمة البربرية، التي كانت في أول الأمر فكرة ثقافية علمية تبناها طلبة مثقفون في الجامعة والذين يرون في مناضلي حزب الشعب أميين يسيرونه بأفكار مسبقة ومتخلفة وبالية، وهنا انتقلت الأزمة البربرية من الجامعة إلى الحزب، فانحاز اغلب الطلبة المنضوين تحت جمعية الطلبة المسلمين لشمال إفريقيا لأنصار البربريست الذين تركوا الحزب والتحقوا بالحزب الشيوعي، ولابد أن نعرف أن موقف هذا الأخير من القضية الجزائرية هو امتداد صريح للحزب الشيوعي الفرنسي.
هل الخلاف كان تنظيميا أم إيديولوجيا؟ عندما كانت تقترح على مصالي الحاج بعض أسماء المثقفين الجامعين كان جلهم متشبعا بأفكار تختلف عن قناعاته، فعارضوه وطالبوه بفكرة الذهاب إلى قانون أساسي بغية الحد من صلاحياته كرئيس للحزب، ولكن مصالي الحاج يعتبر أن حزب الشعب قام على أساس التضحيات المصالية ونتيجة عمله الشخصي وبطولاته، كونه عرض نفسه للسجن وللعقوبات من طرف الإدارة الفرنسية، من اجل الدفاع عن القضية الوطنية، مما جعله يعتقد أن الحزب ملكه الشخصي وزاوية خاصة به.
نحن إذن أمام حالة حب الزعامة وليس مسألة صلاحيات؟ مصالي الحاج قد أغفل أن ثمة قانونا أساسيا يحدد صلاحيته المعروفة كرئيس وفق قانون داخلي يمنعه من القيام ببعض الأمور التي ليست من صلاحياته، لكن بالنسبة إليه كل شيء مباح له كرئيس صاحب سلطة مطلقة، وهنا بدأت المشكلة، لأن عناصر الحركة البربرية أصبحوا يشعرون أن حزب الشعب الذي ينتمون إليه لا يسمح لهم بالتمتع بجميع مؤهلاتهم وقدراتهم، العبد الضعيف قبائلي، ولكن لم انخرط في الحركة البربرية، ذات يوم سألت عبان رمضان عن حقيقة الأزمة البربرية، قال لي بأنها حركة انفصالية للتمرد على الحزب.
هل تنحية آيت أحمد من على رأس لوس كان مرتبطا بالأزمة البربرية؟ بخصوص آيت أحمد الذي كان قائد لوس أثناء ظهور الأزمة البربرية، شهادتي هنا نقلا عن شهادة احمد بودة رئيس لجنة التحقيق حول الحركة البربرية داخل الحزب يعترف بنفسه أنه غطى في تقرير لجنته على حسين آيت احمد وبموجبه تم تنحيته من رأس المنظمة الخاصة حتى يجنب فصله من الحزب، وأنقذه عندما لم يتهمه في التحقيق بأنه انفصالي، رغم أن آيت أحمد كان مشاركا في الأزمة البربرية.
ما سر تعاطف أحمد بودة مع آيت أحمد دون سواه من المفصولين؟ يعود لميولات أحمد بودة تجاه آيت احمد التي جعلته يعطف عليه، وكلامها يتبادلان التغطية على بعضهما من خلال التقارير التي يرفعانها للقيادة، أما باقي الجماعة تم فصلهم من الحزب، مثل نعيمش علي وبناي واعلي وبنون أكلي ويحي هنين وصادق هجرس ومبروك بلحسين، وقد التحقوا بالحزب الشيوعي.
كيف باشرت حركة انتصار الحريات عملها السياسي العلني بعد مرحلة السرية؟ عندما انتشر الحزب تحت غطاء حركة انتصار الحريات الديمقراطية سنة 1947، جرت الانتخابات المحلية في شهر أكتوبر من نفس السنة، فاز الحزب بأغلب الأعضاء المرشحين، فأدرك الفرنسيون أنهم إن تركوا الانتخابات تسير بنزاهة وشفافية سيفوز بها حزب الشعب وسيمنون بهزيمة سياسية نكراء، خاصة أن حركة انتصار الحريات تحمل فكرة الجزائر بمفهوم "الدولة والأمة" وليست مجرد قطعة فرنسية لا تتجزأ عن التراب الفرنسي كما تزعم الإدارة الفرنسية.
كيف تصرفت الإدارة الفرنسية مع الفوز "الكاسح" للحزب؟ قاموا بتغير الوالي العام للجزائر، شاتينيو وجاء بدله انجلن، الذي منح تكليفا بتزوير الانتخابات وقد زورها فعلا، وجاءت نتائجها مخيبة وصادمة للمناضلين وللجماهير على حد سواء.
ما هو موقف الحزب والمناضلين من تزوير الانتخابات؟ اقتنعت بأن الإدارة الفرنسية لا تحترم الانتخابات ولا حتى نتائجها، وهنا ترقب الشعب الجزائري ردة فعل قوية ضد التزوير من طرف الحزب والمنظمة الخاصة المعول عليها للقيام بثورة، أين انتظرها الجزائريون في سنة 1948 فجاءتهم في 1954.
ما سر الخصومة بين مصالي ودباغين، وهل هي شخصية أم سياسية؟ لم نعرف أبدا سر هذه الخصومة، لكن اكتشفنا أن الخلاف شخصي بينهما وقد ظهر أواخر 49 وبداية 50، في البداية كان المناضلون يعتقدون أن الخلاف قائم بين الدكتور لمين دباغين والحزب، كون الحزب هو مصالي ومصالي هو الحزب، فلا ننسى بعد عودة مصالي من منفاه وجد الحزب يعج بعناصر جديدة تكونت شخصياتهم أثناء غيابه، أدرك أن بين يديه حزبا ولكن لا يسيطر عليه كاملا.
كيف تفجر هذا الصراع؟ في ظل غياب مصالي الحاج (المنفى) كان لمين دباغين هو المسؤول الكبير والمسير الفعلي للحزب، خاصة في عمالة قسنطينة ومنطقة سطيف، فشرع دباغين بتمرده ضد مصالي بجلب بعض قسمات الحزب نحوه وفصلهم عن القيادة التي كانت تحت رئاسة مصالي، فكانت أول قسمة اتصل بها في خطة التمرد، قسمة بجاية التي كانت تحت مسؤولية عبان رمضان، الذي رفض مسايرة تمرد دباغين، بل قام بتبليغ القيادة عن محاولته التي كانت تهدف إلى إثارة المناضلين ضد مصالي الذي كان باسطا نفوذه على الحزب.
إلى أين انتهى هذا التمرد ولصالح من؟ انتهى التمرد بخروج لمين دباغين من الحزب. سمعنا وقتها أنه طرد منه، لكن لا علم لي بما حدث داخل المجموعة القيادية، ولا ننسى أن دباغين كان بوده نشر انتفاضة الثامن ماي 1945 على ربوع الجزائر قاطبة.
هل من تفاصيل جديدة حول اكتشاف المنظمة الخاصة؟ المنحى الذي أتخذه الصراع بين مصالي ودباغين، قاد هذا الأخير إلى دعوة بعض القسمات للتمرد عن القيادة، جعلت عناصر من قسمة تبسة يقررون الانضمام لتمرد الدكتور لمين دباغين، في حين قررت جماعة قيادية أخرى معاقبتهم على تمردهم تنفيذا لقرار صادر من طرف محمد بوضياف، قائد المنظمة الخاصة في عمالة قسنطينة ونائبه ديدوش مراد مسؤول لوس في عنابة.
ما نوع القرار الذي صدر عن بوضياف ونائبه ديدوش؟ حدثت محاولة خطف أحد المناضلين المتمردين مع لمين دباغين في تبسة، الذي بلغ بدوره الشرطة الفرنسية عن هوية المختطفين، فداهمتهم وعثرت عندهم على أوراق سرية تتعلق بالمنظمة الخاصة، فتم كشف هذا التنظيم السري الهرمي، الذي كانت الشرطة الفرنسية تجهله تماما، وحتى لا يفوتني في هذا المقام، يجب التذكير أن المنظمة الخاصة كانت تدون تقاريرها تحت اسم "البراكة" للتمويه والمراوغة لدى الشرطة والاستعلامات الفرنسية، حتى لا تجلب انتباههما حماية لتنظيمها السري.
كيف تعامل الحزب مع هذه الأزمة التي عصفت به بعد اكتشاف لوس؟ حدث اجتماع لأعضاء للجنة المركزية في زدين بمدينة الشلف، في مقر عبد القادر الحاج المعروف بكوبيس، عضو في هيئة الأركان السياسية، تنقل مصالي وحضر هذا الاجتماع الموسع الذي ضم مسؤولين كبار داخل الحزب، خلص الاجتماع إلى منح الأسبقية للمنظمة الخاصة.
ماذا عن موقف السياسيين بعد منح الأسبقية للمنظمة الخاصة؟ نشبت الحساسية بين كوادر لوس كجناح سري عسكري وقادة جهاز النظام السياسي الذين غدوا يشعرون أن جماعة المنظمة الخاصة صارت القوة الحقيقية داخل الحزب، الذين تلقوا "نقدا حادا وجارحا" من لدن هؤلاء السياسيين مفاده: كيف تم "تخريب" تنظيمكم بهذه السرعة والسهولة من البوليس الفرنسي؟ وكيف وصلوا إلى قمة التنظيم ونحن المعولين عليكم؟
هل تنصل مصالي في بيان له من منظمة لوس؟ بعد كشف المنظمة الخاصة، كنا نسمع بأن مصالي سيتخذ موقفا يؤكد فيه أن منظمة لوس تابعة لحزبه، لكنه لم يتخذ هذا الموقف مطلقا.
كيف تم معالجة واحتواء أزمة اكتشاف لوس؟ حدث خلاف كبير في هرم القيادة بشأنها، عرفت فيما بعد كعضو لجنة مركزية أن لحول حسين اقترح من أجل المحافظة على كيان الحزب ووجوده، تبني موقف سياسي ضد السلطات الفرنسية التي تؤكد وجود منظمة عسكرية سرية خاصة تابعة لMLTD، ما هي إلا مناورة من طرف الإدارة الفرنسية لوأد المشروع السياسي للحزب.
ماذا كانت نتيجة هذه التوليفة السياسية؟ نجحت هذه التوليفة السياسية في إنقاذ الحزب من القرار القضائي الوشيك والداعي لحله، وشكل مقترح حسين لحول طوق نجاة لحركة الانتصار والحريات الديمقراطية، لكن في المقابل قرر الحزب حل المنظمة الخاصة كجناح عسكري سري، فاعترض عناصرها على قرار حلها معنويا، ولكن قبلوا ذلك جسديا، وتم منح مناصب سياسية لبعض من قياداتها، واقترح على البعض الآخر إرسالهم إلى القاهرة لتكوينهم وتدريبهم عسكريا، لكن كثيرا منهم همشوا ولم يتكفل بهم، فقرار تفكيك المنظمة الخاصة غذى الحساسيات وعمق الحزازات بين كوادر لوس والقيادة السياسية.
قرار الحزب لم ينفذه قائد لوس أحمد بن بلة، ما هي خلفيات عصيانه لأوامر الحزب؟ أحمد بن بلة قائد لوس، خالف أوامر الحزب وتمرد عليها، فأثناء سجنه في البليدة رفقة عبان رمضان الذي طبق قرار الحزب القائل بأنه لا يملك جناحا عسكريا سريا وأنها مؤامرة من تدبير الإدارة الفرنسية، في المقابل اعترف بن بلة بوجود منظمة سرية وقيامه بتنفيذ عمليات ومنه اتهمت السلطات الفرنسية محمد خيضر بالوساطة بين المنظمة والحزب، هذا الأخير كان عضوا في البرلمان ويملك الحصانة.
كيف كان مصير محمد خيضر؟ طلب النائب العام الفرنسي رفع الحصانة عنه، وطرحت الحكومة الفرنسية على المجلس الوطني الفرنسي ملف خيضر الموشى به من طرف أحمد بن بلة، هذه الحادثة شكلت مادة خلاف كبيرة بين أحمد بن بلة وحسين لحول عمرت طويلا.
مقاطعا.. "مثلا"؟ فمثلا عندما تم لقاء لحول ببن بلة في القاهرة سنة 1954 رجع الماضي بينهم وتعقدت الأمور وتشنج الحديث، وبعد نقاش دار بينهما أسمع بن بلة لحول كلمات نابية، فحادثة اكتشاف لوس سنة 1950، تركت جرحا غائرا بين لحول وبن بلة، هذا الأخير ظل على خلاف كذلك مع عبان رمضان منذ أيام سجنهما في البليدة، أين امتدت فصول الخصومة إلى مؤتمر الصومام.
ما الذي تعرفونه عن اتصالات سنة 1951، بين كل من جمعية العلماء التي أوفدت الشيخ خير الدين والعربي التبسي، وحزب البيان الذي أوفد أحمد فرنسيس وأحمد بومنجل لمصالي الحاج؟ حدثت اتصالات بين حزب الشعب والاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري بقيادة عباس فرحات وجمعية العلماء المسلمين بزعامة البشير الإبراهيمي، هذان الأخيران المتقاربان في الأفكار والمختلفان في الممارسة والموحدان في المواقف، جاءت اتصالاتهما على شكل اقتراحات تم نقلها لمصالي عبر شوقي مصطفاي، خلاصتها رفضهما لاستعمال العنف في السياسة، معتقدين ومؤكدين الداعين له أناس مشوشون وشياطين وليسوا ثوارا، كونهم يدفعون المواطنين للعنف فيما يختبئ أصحابها وراء فكرتهم، معرضين الناس للتهلكة وهي فكرة راسخة عند عباس فرحات والبشير الإبراهيمي اللذان يلقنان مناضليهما هذه القناعة، مقترحين على مصالي بأن لا ينشط خارج القانون الفرنسي وأن يترك السرية ويمارس النضال السياسي في العلنية.
ما هو رد فعل مصالي الحاج على مقترحات الاندماجيين والإصلاحيين؟ عندما بلغ شوقي مصطفاي مصالي بهذه الاقتراحات اتهمه بالخيانة، ثم كال تهما كثيرة للمثقفين المعربين (الجمعية) والمفرنسين (البيان) بأنهم أعداء العنف الثوري حسبه ومجرد مستكينين فقط للنضال السياسي العلني في إطار القانون الاستعماري، عمقت هذه الاتصالات الخلافات السياسية الموجودة بين مصالي وغريميه البشير الإبراهيمي وفرحات عباس.
كيف كان مآل هذه الاتصالات بين الأطراف؟ حدث خلاف "مشحون" داخل اللجنة المركزية، بين شوقي مصطفاي الذي قال لمصالي ما طلبه منا البشير الإبراهيمي وفرحات عباس هو العمل في إطار سياسي قانوني علني ليجيبه مصالي: قل لهما "رانا فيها وليس لدينا نشاط آخر"، فرد مصطفاي: إن فكرتهما التي تقدما بها ممكن أن تقبل في أجزائها وليس في مجملها، فرد عليه مصالي قائلا: أنت منهم، غضب مصطفاي وانسحب من الحزب بمعية أصدقائه عبد الرزاق شنتوف ومحمد شرشالي وعمراني.
ما هو موقف المكتب السياسي من هذا السجال؟ حدثني يوسف بن خدة في مناقشة دارت بيننا حول الخلاف بين مصالي ومصطفاي، أنه كان ضد الأخير وأيد مصالي الحاج، حيث يرى بن خدة في طلب التخلي عن النشاط السري للحزب بمثابة انتحار سياسي، وليس واردا وليس من السهل أن يقبل مصالي هذا المقترح المستفز.