ما هي رمزية أول نوفمبر 1954، وهل نجحت أو فشلت المنظمة الخاصة في مهمتها للتحضير للعمل المسلح؟ يكتسي الفاتح من نوفمبر أهمية كبيرة في التاريخ الجزائري المعاصر، لأنه يشكل قطيعة هامة بين الحركة الوطنية والتاريخ الجديد. ويجب الإقرار بأن المنظمة الخاصة لم تنجح في مهمة التحضير للعمل المسلح. قامت بعملية واحدة هي “بريد وهران” قبل تفكيكها في 1950 بعد قضية رحيال بتبسة وإفشاء كل أسرارها. وكان من المفروض أن تتم عدة عمليات سطو أخرى على بريد الجزائر مثلا، لكنها لم تتجسد بعد تفكيكها. ينقص المنظمة التي ضمت وقتها حوالي ألف مناضل، التنظيم والنضج السياسي عند قيادتها. كانت تجربة أولى مفيدة لتدريب المناضلين وتكوينهم والبحث عن السلاح، لكن فرنسا استطاعت حلها. ولم تكن الاعترافات التي أدلى بها بن بلة كرئيس للمنظمة بعد توقيفه، تأثيرات كبيرة على بقايا المنظمة واكتفى بتقديم معلومات حول المنظمة بوهران لعلمه بتوقيف كل المناضلين في هذه المنظمة من بينهم حمو بوتليليس، لكنه لم يفش أسرار المنظمة في الأوراس من أمثال حباشي وآخرين وحافظ على سر مخابئ الأسلحة وهي نفس الأسلحة التي استعملت خلال تفجير الثورة. أعتقد بأن اتصال بوضياف ببن بلة في القاهرة للتنسيق معه حول تفجير الثورة هو دليل آخر على احتفاظه بثقة أعضاء “لوس”. لكن فكرة العمل المسلح لم تنطفئ مع حل المنظمة، بل بقيت راسخة ومستمرة. لكن بماذا نفسر موقف الحزب بعد تفكيك المنظمة الخاصة وعدم تكفله بالمناضلين حسب شهادات البعض منهم الذين عاتبوا الحزب عن تخليه عنهم في تلك الفترة؟ هذا جزء من الحقيقة. لكن قيادة الحزب لها رأي مغاير. بعد تفكيك المنظمة تعرض مجموعة من الناشطين للتوقيف على غرار مناضلي وهران، وهناك مجموعة ذهبت للخارج وعينوا بفرنسا كبوضياف وديدوش، وآخرون دخلوا في السرية بالأوراس كحشاني. قام الحزب بتعيين آخرين كرؤساء دوائر بهويات مستعارة بوهران كبن مهيدي وبن عبد مالك رمضان وبوصوف. لغاية اليوم يوجد خطابين، هناك أعضاء يعاتبون الحزب عن تخليه عنهم، لكن المسؤولون من أمثال بن خدة ولحول دافعوا عن أنفسهم من خلال تعيينهم للعديد من الناشطين ب«لوس” في مناصب لإخفائهم. لكن الإشكال هو أن الحزب كان له وجود رسمي ولا يستطيع الدفاع عن منظمة عسكرية سرية خوفا من التعرض للقمع والحل، ولهذا بقي الحزب يتهم فرنسا بالوقوف وراء “المؤامرة” لحل الحزب . هل نشوب الأزمة بين مصالي واللجنة المركزية ساهم في عودة المنظمة الخاصة لواجهة الأحداث وتحريك عجلة التاريخ؟ ساهمت الأزمة في عودة مناضلي المنظمة الخاصة ليس كأفراد، لكن فكرة لواجهة الأحداث وإعطاء دفع لعجلة التاريخ. وتجلى ذلك من خلال مساعي محمد بوضياف الذي التفت لعائلته الطبيعية المتمثلة في المنظمة الخاصة وبالخصوص مناضلي منطقة قسنطينة الذين ناضل معهم سابقا، لأنه لا يعرف الآخرين بسبب سرية العمل. كما كان على اتصال ببن بلة وآيت احمد في القاهرة بصفتهم آخر القياديين التاريخيين للمنظمة الخاصة. لكن مهمة بوضياف لم تكن سهلة، لأن عددا من أعضاء “لوس” بقوا أوفياء لمصالي، على غرار تشوار من تلمسان ومحمد ماروك في العاصمة، رجيمي وبوجاجة. والمؤسف هو أننا لحد الساعة لا نعرف من كان من أعضاء “لوس”، لأننا نفتقد للقائمة الكاملة لأعضاء المنظمة الخاصة. في هذه الفترة اقترب بن خدة ولحول من المركزيين، من بوضياف وبن بولعيد، لترجيح الكفة لصالحهم، وتم تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل، ليس لتوحيد الصفوف ورأب الصدع داخل الحزب بل لإضعاف مصالي بمساعدة مناضلي “لوس”. ويظهر ذلك في العدد الثالث لجريدة “لوباتريوت- الوطني” لسان حال اللجنة الثورية الذي هاجم مصالي. علما أن تمويل الجريدة كان من طرف المركزيين، وكاتب الافتتاحية هو حسين لحول. فلا يمكن أن تكون مع المصالحة وتهاجم أحد طرفي الأزمة. وهو ما يفسر الاعتداء على بوضياف وبيطاط من طرف مناضلي مصالي في حي القصبة. وانتقد محساس موقف بوضياف المساند للمركزيين عوض التزام الحياد في الأزمة. لكن تجربة اللجنة الثورية فشلت، بعد اقتناع قيادييها، بوشبوبة، دخلي، ممثلي المركزيين وبوضياف، بن بولعيد من المنظمة الخاصة، بأن هذا الإطار لا يساهم في تجاوز الأزمة. وحتى بوضياف قال في شهادته بأن المركزيين كانوا يتلاعبون بهم بعد أن وعدوهم بتدعيمهم ماليا. ما هو تفسيركم لتحفظ بعض الأسماء حينها مع مسألة التعامل مع المخططين للثورة، كدباغين وعبد الحميد مهري وغيرهما؟ بعد اقتناع مناضلي المنظمة الخاصة، بأن لا أحد سيساعدهم، اتصلوا بدباغين الذي رفض التعامل معهم لأنه ببساطة لا يعرفهم. واتصلوا بشخصيات أخرى، كالعربي دماغ العتروس لتحكمه في اللغة العربية، مولود قاسم نايت بلقاسم كناطق باسم الثورة وعبد الحميد مهري. وحسب شهادة لعبد الحميد مهري: “لا أحد كان يعرف مفجّري الثورة لأنهم مناضلين خرجوا من السرية... وحتى أنا ظننت بأنها محاولة من السلطات الفرنسية لاستدراجنا من أجل كسر الحزب..”، كما طرحت سؤالا على عبد الحميد مهري في هذا الصدد وأجابني قائلا: “يجب العودة إلى السياق التاريخي، لأننا كنا مناضلين في تنظيم حزبي، فكيف أتعامل مع مناضلين خرجوا من العدم ومن السرية وما الضمان بأن العملية ليست من تدبير السلطات الاستعمارية لكسر الحزب”. ونفس الإجابة تلقيتها من المناضل النقابي بوعلام بورويبة “لا أحد كان يعرف مفجري الثورة”. وهو ما أكده بوضياف في كتاباته. وفي هذا السياق وبالنظر لمكانة مصالي، خاصة بعد انتخابه كرئيس مدى الحياة للحزب، أستبعد أن يكون بن بولعيد قد فاتح مصالي حول الثورة أو عرض عليه قيادة حزب جديد خلال لقائه به، ومن المرجّح أنه حدّثه عن العودة للعمل المسلح وفقط في إطار الحزب. ولا نستطيع وضع بن بولعيد ومصالي في نفس المقام في تلك الحقبة رغم أن الأحداث جعلت من بن بولعيد فيما بعد شخصية مهمة. لكن ما يجب الإشارة إليه هو أن كل العراقيل، كغياب رعاية سياسية، انعدام الأسلحة والأموال والرجال، التهميش، لم تثن الأعضاء المنحدرين من مجموعة 22 من تفجير الثورة والتاريخ أنصفهم. على سبيل المثال قبل أول نوفمبر لم تدخل أية قطعة سلاح إلى الجزائر، ما عدا الأوراس التي كانت تمتلك كمية من الاسلحة المخبأة لم تكتشفها السلطات الفرنسية بعد تفكيك المنظمة الخاصة، ولهذا عرفت هذه المنطقة أكبر العمليات في ليلة نوفمبر. ويجب انتظار فيفري 1955 ووصول أول حمولة أسلحة على متن باخرة “دينا”، وحتى بن بولعيد اضطر للخروج للبحث عن الأسلحة وتعرض للتوقيف. وهو ما يجعلني أقول بأن أول نوفمبر بدأ في ظروف جد سيئة. أول نوفمبر فاجأ الجميع من مصاليين ومركزيين وحتى السلطات الفرنسية لم تأخذ بعين الاعتبار التقارير الموجهة لوزير الداخلية فرانسوا ميتران حول تحركات مشبوهة تحضيرا لحدث معين. لماذا لم تتخذ إجراءات حسب رأيكم؟ صحيح السلطات الفرنسية والمخابرات لم تتوقع الحدث، لأن عدد المجاهدين في أول نوفمبر لم يكن بالآلاف، بل لا يتعدى 800 مناضل، من بينهم من انسحبوا قبل الموعد. كانت فرنسا تعتقد بأن الصراع بين المركزيين والمصاليين، في وقت أن الأمور الجدية كانت تجري خارج الحزب. وحتى الصحافة الفرنسية من خلال جريدة “لوفيغارو”، انتظرت لغاية 4 نوفمبر لكتابة مقال حول أحد مفجري الثورة وناشط يعيش في القاهرة يسمى بن بلة، بعد قراءته لبيان أول نوفمبر في إذاعة “صوت العرب”. اعتقدوا في البداية بأن الانتفاضة في الأوراس فقط، حيث تطلّب الأمر شهور لكي يفرض الأفالان نفسه كرمز في أوت 1955، وحتى حزب انتصار الحريات الديمقراطية تم حله في 12 نوفمبر، ظنا منهم أنه وراء أول نوفمبر وهذا فيه جزء من الحقيقة. وحتى المناضلين في القبائل كانوا يعتقدون بأن مصالي وراء الأحداث. استمرت فترة الغموض لبعض الوقت، قبل أن تتلاشى شيئا فشيئا عندما قام مصالي في ديسمبر بتأسيس الحركة الوطنية الجزائرية. ولا نمتلك لحد الساعة قائمة محددة للمشاركين في أول نوفمبر، تسمح لنا كمؤرخين بكتابة تاريخ هذه الفترة بدقة وتناول سير الموقوفين، ومن استشهدوا، ومن واصلوا المعركة. لقد حاولت مثلا كتابة تاريخ رجال أول نوفمبر بمنطقة وهران، لكنني لم أجد المساعدة ولم أعثر على الأرشيف، رغم يقيني بأن الأرشيف موجود لكنه مخبأ عند بعض الفاعلين أو منظمات ثورية. ماذا يخفي الصراع الدائر بين مجموعة قسنطينة ومحمد بوضياف خاصة بعد اجتماع مجموعة ال 22 في الجزائر العاصمة؟ عندما باشر محمد بوضياف عملية التحضير للاجتماع استدعى المناضلين المقربين منه منذ كان مسؤولا بالمنظمة الخاصة بقسنطينة بحكم معرفته المباشرة لهم وقت السرية، وهذا ما يفسر أن تركيبة مجموعة 22 تتشكل من 17 مناضلا من قسنطينة والبقية من الجزائر العاصمة واحمد بوشعيب ممثلا للغرب. وأعاب مناضلو منطقة وهران على بوضياف عدم إشراك الحاج بن علة في الاجتماع، لكن بوضياف الملقب “ دينامو” كان يقول بأنه لا يريد تنظيم مؤتمر، وبرر تسرّعه في التحضير للثورة بحرصه على فعالية العملية، ضيق الوقت والتخوف من كشف البوليس الفرنسي لتحركاتهم بناء على المعلومات التي بحوزته منذ تفكيك “لوس” في قضية تبسة. وبالعودة لخلافه مع مجموعة قسنطينة فمرده انتقاد المناضلين، حباشي، مشاطي، بوعلي وحداد، إقصاء بوضياف للمسؤول الأول للمنظمة الخاصة المناضل الكبير غراس عبد الرحمان، لأسباب اعتبروها غير موضوعية. لهذا السبب رفض مناضلي قسنطينة اتباع أوامر بوضياف وبقوا أوفياء لغراس، لكن هذا لا يعني أنهم ضد الثورة، بدليل سقوط اثنين منهم حداد وبوعلي كشهداء. كما رفض المناضلون أنفسهم تعيين بيطاط على رأس منطقة قسنطينة وهو ما يفسر استبداله بديدوش مراد في آخر لحظة وتعيين بيطاط في الجزائر العاصمة. لم يتم تسجيل أية عملية في قسنطينة في الفاتح نوفمبر وكادت العاصمة تعرف نفس السيناريو بعد تردد وانسحاب العديد من المناضلين، وتم الاستنجاد بمجموعة من مناضلي منطقة القبائل بقيادة أوعمران في آخر لحظة. ولقد أثّرت كل هذه الهفوات في الانطلاقة الأولى للثورة، وهو ما جعل المناضل آيت أحمد يعترف بأن تفجير الثورة كان عمل غير محضر جيدا واستعجالي. لكن يجب الاعتراف بفضل مجموعة من مناضلين شباب في إطلاق الشرارة الأولى عبر كامل التراب الوطني وهو ما شكل رمزية قوية كانت إيذانا ببداية عهد جديد وأيقظت ضمائر كل الجزائريين التواقين للحرية والانعتاق من أغلال الاستعمار. ج.ب