رغم تباين مواقف هذه الجماعات الإسلامية في مصر - اقترابا وابتعادا عن العنف إلاّ أنّها كانت جزءًا من الطيّف السّياسي الحاضر في السّاحة السّياسية المصريّة طيلة حكم الرّئيس السّادات وطيلة عشرية الجهاد الأفغاني أي المرحلة من سنة 1970م إلى سنة 1990م. وكانت سلطة الرّئيس السّادات تفرّق بين جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) والإخوان المسلمين مثلا أو جماعة التكفير والهجرة والجماعات السلفيّة، ففي أوج الصّراع بين السّلطة المصريّة وجماعة التّكفير والهجرة في سنة 1977م بعد اختطاف واغتيال وزير الأوقاف المصري "محمد حسين الذّهبي"- لم توّجه التُّهمة لكلّ الفصائل الإسلاميّة ولم يتجنّد الإعلام المصري لاتهام التّيار الإسلامي كلّه، وإنّما بقي الحديث محصورًا في اتهام جماعة المسلمين (التكفير والهجرة) بذلك – والموقف يعُبّر عن فهم السّلطة لما يحدث واستيعابها لموازين القوى طبقا لمخطّطها في ضرب اليسار بالتيارات الإسلامية ولو أنّ الكثير من هذه الجماعات تغوّلت على السّلطة فيما بعد (لمّا قتل تنظيم الجهاد الرّئيس السادات نفسه) في هذه الأجواء جاء الجهاد الأفغاني لتعطي السّلطة المصريّة فرصّة ذهبية أخرى للتّيار الإسلامي - فاستفاد التّيار السّلمي من ذلك لتوسيع قاعدته كما استفاد التّيار العُنفي من ذلك لتوسيع خبراته في المواجهة والتّعبئة. - وأكثر المتجاوبين مع طرح السّادات في تبنّي الجهاد الأفغاني هي جماعة الإخوان المسلمين باعتبارها أكبر وأقدّم الجماعات الإسلاميّة. ولا شكّ أنّه في صلب برامج وأهداف ومنهاج حركة الإخوان المسلمين التّربية الجهاديّة ولست مُضطرًّا للعودة إلى تفاصيل ذلك وإنّما أكتفي بالتّذكير أنّ التربيّة الجهادية كانت في صلب منهاج الإخوان المسلمين وغلب على هذه التّربية في كلّ المراحل - جهاد المحتّل الإنجليزي، أو الجهاد في فلسطين ولم تعرف الحركة عسكرةً وجهادًا في الدّاخل إلاّ بعد هوجة الرّبيع العربي ووصول الإخوان إلى الحكم ثمّ خروجهم منه - رغم رفض تبنّي الجهاد (إعلاميّا ورسميّا) من طرف كلّ القادة الرّسميّين للإخوان (والإخوان يعيشون اليوم أسوأ مراحل نقاشهم الفكري وتموقعهم السياسي) خاصة بعد الفشل الذّريع الذي منّوابه في فهم المعادلة السّياسّية (ثورة الشارع المصري- المشاركة في الحكم - الخروج منه - الصّراع مع السّلطة - الارتماء في أحضان الخارج: قطر وتركيا). لمّا أعلن السّادات "النفير العام" لدعم أفغانستان كان أكثر المتجاوبين هم الإخوان المسلمون وذلك اعتقادا منهم أن تقاطع المصالح هو شعار المرحلة. ولأنّ السّادات يريد الاحتضان الشّعبي لفكرة الجهاد في أفغانستان ولا يستطيع الوصول إليها إلاّ عن طريق التّيار الإسلامي خاصّة أكبر فصائله - "الإخوان المسلمين" - والإخوان يرون في الجهاد الإغاثي مظلمة سُلّطت على شعب مُسلم والواجب نَجْدَتُهُ فاندفعوا يؤيّدون الجهاد الأفغاني ويحضنونه شعبيًّا. أ/ بداية الإخوان المسلمين مع الجهاد الأفغاني: لمّا تبنّت الدّولة المصريّة الجهاد الأفغاني كان من الواجب على حركة الإخوان وغيرها من الجماعات الإسلاميّة الانخراط في دعم الجهاد، فكان يظهر أحيانا التّنسيق بين الدّولة المصريّة والإخوان في دعم الجهاد وفي أحايين أخرى لا يظهر أيُّ أثر لوجود تنسيق وذلك تبعًا للظّروف ولرواية كلّ طرف لما حدث في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ الإخوان وتاريخ الحركات الإسلامية. كما كان يظهر أحيانًا الدّعم الإغاثي دون مشاركة الأفراد من الإخوان في المعارك كلّ هذه التّباينات ظهرت في الكثير من الرّوايات الإخوانية، وبغض النّظر عن كلّ تلك الوقائع فإنّ الموقف المُتلبس وغير الواضح في التّعاطي مع الجهاد الأفغاني لم يكن يعبّر إلاّ عن أمر من اثنين: - عدم وضوح الرّؤية فيظهر الموقف الرّسمي للجماعة في تبنّي الدّعم الإغاثي فقط مع مشاركة الأفراد من الإخوان في القتال باعتبار مواقفهم فرديّة. - التّذاكي الذي كثيرًا ما كان يظهر في سلوكات الإخوان، فالقادة الممتعضون من وجود جناح سرّي وأهداف سريّة كانت مواقفهم واضحة في تبنّي الدّعم الإغاثي دون غيره من أنواع الدعم، أمّا الأجنحة السّريّة ذات الأهداف السّريّة فكانت مواقفها واضحة في دعم المشاركة في القتال. وسيظهر لك ذلك أخي القارئ بوضوحٍ في سيرة وأقوال الكثير من الإخوان المًسلمين ومنهم السّنانيري الذي كان من أشهر الشّخصيّات الإخوانية التي عملت في أفغانستان وقد لعب أدوارًا مهمّةً في الدّعم الإغاثي وفي جمع شمل القادة الأفغان ممّا جعله يتجاوز الخطوط الحُمُر المرسومة، فاعتقل في مصر وسلّط عليه من العذاب ألوانًا لعلّه يكشف بعض الخفايا التّي كانت الدّوائر المخطّطة أو الدّوائرة المنفّذة لا تعرفها ولكنّه لم يكشف ما يعرفه فعُذّب حتّى قُتل وفبركت مسرحيّة في السّجن المصري تُبْرِزُ الواقعة على أنّها انتحار ولكن سُوء إخراج المسرحيّة كشف حقيقة ما حدث وأنّه عُذِّب حتّى مات بين جلاّديه وهو دون غيره من قادة الجناح العسكري للإخوان المسلمين يحظى بالاحترام في أوساط الجهاديين وقد مدحه "أيمن الظواهري" في كتابه: "فرسان تحت راية النبي" يقول عنه المُستشار عبد الله العقيل: (... وقد عملت معه وتحت إمرته في أكثر من ميدان وبخاصّة ميدان الجهاد في أفغانستان الذي أعطاه جُهده وطاقته وبذل أقصى ما يستطيع لدعمه ورفده وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبّوه جميعا ودانُوا لهُ بالأستاذيّة فلا يكادُون يُخالفُون له أمرًا في وجوده بينهم... وحين اعْتُقِل بعد عودته من أفغانستان ظلّ العذاب يصبُّ عليه من جلاوزه السُّلطة ليعْرِفُوا دَوْرَهُ في الجهاد الأفغاني ودور من معه فاستعصى عليهم ولم يخرجُوا بشيءٍ رغم الأيّام واللّيالي المتوالية التّي أمضَوها وهم ينهالوُن عليه تقطيعًا وتمزيقًا حتّى لفظ أنفاسَهُ الأخيرة ولقِيَ رَبَّه شهيدا من شهداء الحقّ والصّدق إن شاء الله...). ولعلّ السِّرَ في اغتياله يعُودُ إلى دالتّه على القادة الأفغان وهو ما لا تُريدّه عقيدة بريجينسكي. وسوف تلاحظ أخي القارئ أنّ كلّ اللاّعبين في الميدان الأفغاني إذا لم يضمن عدم خروجهم عن المضمار المرسوم فسوف يُغتالون - بدأ ذلك مع السّنانيري وعبد الله عزّام وانتهى مع شخصيّات عاملة رفيعة الشّأن صعبة المِراس غير مأمونة الجانب وصُفّيت تحت شعار - "قُتل على أيدي بعض المنافقين" أو "شارك في المعركة الفُلانيّة وأصيب" وكم من عربي اغتيل برصاصات جاءته من الخلف لأنّ السّاحة الأفغانية كانت ساحة مفتوحة يدخُلها كلّ من أراد وكانت تعجُّ بعملاء كلّ أجهزة المخابرات العالميّة. ب/ رواية الإخوانيين عبد المنعم أبو الفتوح والمهندس سيد حسن: هذه الرّواية ذكرها القيادي عبد المنعم أبو الفتوح في مذكّراته المنشورة بعنوان "شاهد على تاريخ الحركة الإسلامية في مصر"- وكان رئيس اتّحاد الأطباء العرب وعضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين - وقد عُرف بقربه من الشيخ عمر التّلمساني واختلافه مع تيار الجناح الخاص داخل الجماعة وانتهى (مستقيلا أو مطرودا) من الجماعة بعد غلبة التّيار القطبي وجماعة النّظام الخاص على الجماعة. يقول عبد المنعم أبو الفتوح: (... في نهاية عام 1979اجتاحت الجيوش السّوفياتية أراضي أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعيّة في كابول فقمنا لنصرة إخواننا في تعاطف فطري وبتصوّر بسيط بل ساذج لمفهوم الجهاد وإقامته كنّا خاصّة القيادات الطلابية نتصوّر أن المسألة سهلة لا تبعد كثيرا عمّا فعله الإخوان المسلمون في فلسطين في حرب عام 1948 نظّمنا عددا من الفعاليات الشّعبية ومنها مؤتمرات في الأزهر الشريف، دعونا فيها الشّباب للتّطوّع من أجل الجهاد وشارك في هذه الحملة عدد من العلماء والشّيوخ في مقدّمتهم عمر التلمساني ومحمد الغزالي وأحمد المحلاّوي وحافظ سلامة، في هذا الوقت دار نقاش طويل بين قيادة الإخوان حول الشكل الأنسب لدعم الشعب الأفغاني وقضيته وبعد أخذ وردّ استقر الرأي على أن تقتصر جهود الإخوان على الإغاثة والدعم المالي والتعريف بالقضية ونشرها وكان هناك سببان لعدم المشاركة العسكرية أوّلهما أنّها كانت رغبة عدد من قادة المجاهدين ممن لنا بهم صلات مباشرة مثل: عبد ربّ الرّسول سيّاف وبرهان الدّين ربّاني فقد أكدوا لنا أنّهم لا يحتاجون أفرادا أو جنودا ولكنهم بحاجة إلى المال والمؤونة، أما السبب الثاني والذي لا يقلّ أهمية فهو عدم ثقتنا بالأنظمة العربية التي فتحت أبوابها أمام الشباب للجهاد فقد كنا نشعر أنّ ذلك العمل ليس لوجه الله وأنّ هذه الأنظمة لو كانت حريصة على الإسلام لكان أولى بها أن تعمل له في بلادها وأنّها لم تفعل ذلك إلاّ بعد أن أذنت لها أمريكا وأنّها من السّهل أن تنقلب على أولئك الشباب الطّيبين بعد ذلك وهو ما حدث بالفعل. كان عدد من الإخوان القُدامى يؤيّدون المشاركة العسكريّة والعمل الجهادي لكن الاتجاه العام الذي حسم موقف الجماعة كان عدم المشاركة العسكريّة والاكتفاء بالدّعم الإغاثي والإنساني والمعنوي. وللتاريخ أقول إنّ أول مسؤول عن الملف الأفغاني في الإخوان كان الأستاذ: كمال السّنانيري -رحمه الله- ولكن لم يكن دوره ظاهرا في البداية خاصّة أنّه لم يمكث كثيرا حتى اعتقل في أحداث سبتمبر 1981 ثمّ استشهد من جرّاء التعذيب في السجن وكان في الزنزانة الملاصقة لي في المعتقل ثمّ تولّى المسؤولية بعده عن ملف أفغانستان الدّكتور أحمد الملط وكنت مساعده ومعه كانت أوّل زيارة قمت بها إلى أفغانستان عام 1984 ومنها تفقدت تجمّعات اللاجئين في بيشاور وكويتا...). وشهادة الدّكتور عبد المنعم أبو الفتوح جديرة بالتّأمل فالرّجل يمثّل الجناح العاقل المقصي من الإخوان المسلمين- واستحوذ على حركة الإخوان مكانه وغيره من العقلاء التّيار الشّاذ المسمّى التّيار الإخواني المتسلّف الذي لا ترى فيه فكر الإخوان الأوائل كما لا ترى فيه السّلفيّة الواضحة وقد احتج القيادي الإخواني: "محمد سعيد عبد البر" على انفصال الجماعة عن النسيج الوطني وانتشار الفكر الوهابي والقطبي بين القيادات ورفضها للتعدد الداخلي فقدم استقالته. والكثير من الملاحظين الحياديين أو الإخوان المنتظمين لاحظوا التغيير الذي ظهر على حركة الإخوان المسلمين شكلا ومضمونا - بعد وفاة الشيخ عمر التلمساني في سنة 1986- وهو الأمر الذي جعل باحثا له اعتباره مثل الأستاذ "حسام تمام" - رحمه الله– في كتابه الإخوان المسلمين - سنوات ما قبل الثورة -يُفرِد مبحثا خاصا بعنوان - تسلّف الإخوان- تآكل الأطروحة الإخوانية وصعود السّلفية في جماعة الإخوان المسلمين. ولعلّ ظاهرة التّسلّف لم تكن ظاهرة خاصّة بالإخوان المسلمين - فالتّسلّف بما أُنفق عليه من أموال حتّى وصل إلى كلّ مكان أصبح التّيار الفكري والفقهي السائد في كلّ أنحاء المعمورة حتى أن باحثا آخر له اعتباره هو الدكتور كمال حبيب القيادي الجهادي السّابق والذي قاد مع غيره الكثير من المراجعات الفقهيّة داخل وخارج السّجون - لمّا استضيف في برنامج "إسلاميون وبعد" مع الأستاذ الباحث محمد علوش في قناة الميادين قال: إنّه بعد خروجه من السّجن هالته مظاهر التسلّف التّي لاحظها في مصر خاصّة منطقة الصّعيد. والمصريّون بطبيعتهم المرحة والمتفتحة أبعد ما يكونون عن مظاهر - التسلّف والحنبلة خاصّة في المظاهر والسّلوكات. وأنقل للقارئ وجهة نظر أخرى للمهندس سيّد حسن وهو من كوادر جماعة الإخوان المسلمين وسافر إلى مدينة بيشاور موفدا من الجماعة وأقام فيها سنة ونصف سنة (من ماي 1988 حتى نهاية 1989) ولمّا عاد قدّم استقالته - يقول المهندس سيّد حسن في لقائه مع جريدة الحياة في العدد 14095مايلي: (... كان دور الإخوان في القضيّة الأفغانية أشدّ خطورة من الدّور الذي اضطلعت به الحكومات، فمن الطبيعي أن تسعى الأنظمة إلى إرضاء الأمريكيين أمّا الإخوان فارتبطوا لدى النّاس بمعاني التّضحيّة وكانت الثّقة بهم عالية، ساقت جماعة الإخوان الأمّة وراءها لتحقيق هدف نبيل لنصرة المجاهدين الأفغان وفتحت السّفارات وقدّمت الحكومات الإسلاميّة الدّعم للرّاغبين في السّفر إلى أفغانستان إلى درجة أن بعضها منح دعما لهؤلاء وبطاقات سفر مجانيّة واستمرّت في صرف رواتب الموظّفين حتى بعدما انقطعوا عن أعمالهم بدعوى السّفر لنصرة المجاهدين... لم يذهب إلى أفغانستان إلاّ خيرة شباب الأمّة الإسلاميّة... كان الإخوان بدأوا تسفير عناصرهم بعد الاتفاق مع السّادات وكانت التّعليمات الصّادرة إلى السّفارة الباكستانية وأجهزة الأمن المصريّة أن يتمّ تسهيل سفرهم... سافر بعض النّاس وبدأوا عملا إغاثيا وتزامن ذلك مع وصول أعداد منهم من دول عربيّة أخرى وكلّ من كان يحضر إلى بيشاور يسلّم نفسه إلى مسؤول الإخوان هناك... حتّى منتصف الثمانينيات لم يكن للإسلاميّين الرّاديكاليّين المصريين حضور مهمّ في أفغانستان فمنهم من كانوا في السّجون المصريّة... لكن عددا قليلا من المصريين ممّن لم يكونوا مدرجين في لوائح أجهزة الأمن كأعضاء في تنظيم الجهاد والجماعة الإسلاميّة، تمكنوا من الوصول إلى باكستان إلاّ أن هؤلاء التحقوا مباشرة بمكتب خدمات المجاهدين للشيخ عبد الله عزّام بعدما وجدوا أنّ نشاط الإخوان تركّز على أعمال الإغاثة وحين زار مرشد الإخوان محمد حامد أبو النّصر باكستان وذهب إلى بيشاور منحه ضياء الحقّ طائرته كي يجول في أنحاء البلاد ولم يكن أبو النّصر الوحيد من بين قادة الإخوان الذين تردّدوا على بيشاور فالمرشد... السيّد مصطفى مشهور زارها أيضا وتفقّد أحوال الإخوان فيها حين كان يتولّى موقع نائب المرشد...). يتبع...