ربما نكون في العالم العربي بحاجة إلى التفقه على يد الغرب في فنّ التعامل ب"المعايير المزدوجة" لأن ذلك ما يفعله الغرب حيال سلوك الدول والأفراد، وقد جاءنا الدرس الأخير من حدثين مختلفين: الأول من مقاطعة كتالونيا الأسبانية حيث أرسلت الحكومة الفدرالية قوات الشرطة لقمع ناخبين عزل بوحشية غير مسبوقة، فجرحت منهم ألفا أو يزيد، والحدث الثاني احتضنته عاصمة الخمر والميسر "لاس فيغاس" حيث اختار كهلٌ ميسور الحال جناحا فاخرا في أحد الفنادق كموقع لقنص العشرات ممن حضر مهرجان لموسيقى الكونتري فقتل منهم 58 وجرح قرابة ال600. وبعد مرور يومين على أحداث القمع الهمجي للناخبين في كتالونيا لم يصدر أي بيان إدانة من الهيئات الأوروبية أو الأممية أو من الجهات التي عوَّدتنا على شجب ما دون ذلك مما تقترفه حكومات العالم الثالث، وتألفت قلوب الإعلاميين الغربيين على صناعة أكثر من مبرر للحكومة الاسبانية، مع أن نفس الإعلام كان قد آزر التيارات الانفصالية في أكثر من دولة من العالم الثالث، وما زال يعتبر نضال الفلسطينيين لإقامة دولتهم محض "إرهاب"، ويصوِّر القمع الصهيوني كحالة من حالات "الدفاع المشروع عن النفس". وفي "لاس فيغاس" جاءت القصة بصيغة أخرى عن تعامل الغرب بمعايير مزدوجة، مع حادث هو بالتعريف العام المتداول عمل إرهابي صرف، نُفذ بدم بارد من رجل ميسور الحال، لم يضطهده أحد، انتقل بترسانة حربية كاملة (18 قطعة سلاح) إلى جناح فخم بأحد الفنادق، ثم بدأ يقنص الحضور دون تمييز على امتداد أكثر من ساعة، قبل أن ينتحر حسب رواية الشرطة. غير أن أول إجراء قامت به الشرطة الفدرالية هو تكذيب تبني تنظيم "داعش" للحادث، والقول بأن أبشع عملية قتل جماعي تتعرض لها الولاياتالمتحدة منذ ربع قرن "لم يكن عملا إرهابيا" لأن الشرطة "لم تعثر على أيِّ صلة بين الجاني وأي تنظيم إرهابي إسلامي" بما يعني أن ارتكاب أمريكيين أو غربيين لألف جريمة بحجم الجريمة التي ارتكبها ستيفان كريغ بادوك، فإن جرائمهم لا ترقى لكي تصنف ك"جرائم إرهابية" فيما تم اعتقال وسجن عشرات المواطنين الغربيين من الجالية المسلمة بتهمة تعاطي الإرهاب ولو عبر إطلاق "تغريدة" حمقاء من حساب "تويتر" لا تسيء حتى إلى عصفور. الحادث الأول كشف لنا كيف بوسع أيِّ دولة محسوبة على النادي الديمقراطي أن تبطش بمواطنيها كما تفعل الحكومات المستبدة حين تتعرض لنفس الاختبار، وسوف نرى من الحكومة الاسبانية زيادة في العنف والبطش في الساعة التي يعلن فيها الكتاليون رسميا استقلال مقاطعتهم، بما في ذلك فرض الأحكام العرفية، وتعطيل الدستور، في محاولةٍ يائسة لتعطيل مسار تفكك يهدد اليوم ثلث دول الاتحاد الأوروبي. ويكشف لنا الحادث الثاني من لاس فيغاس وعشرات الأحداث المماثلة التي أدمت الولاياتالمتحدة أن ما يشهده الشرق الأوسط من عنف يُنسب تعسفا إلى "الإرهاب الإسلامي" في إعلامهم وإعلامنا التابع، ما هو سوى "لعب عيال" مقارنة مع العنف المجَّاني المتنامي في مجتمع فاقد للروح، يمتلك كل فرد فيه أكثر من 5 قطع سلاح في المعدل، ولا يحتاج مثل ستيفان بادوك إلى يافطة دينية تسوِّغ له القتل والانتحار.