"إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر". كان هذا جوهر رسالة من 100 كلمة بعثها اللورد بلفور إلى المصرفي اليهودي روتشيلد بتاريخ 2 نوفمبر 1917 لتكون كل كلمة منها تعادل سنة في قرن كامل من الحروب والفتن، أدمت عموم الشرق الأوسط، وقد اتسمت منذ البداية بطابع الحروب الصليبية إلى يومنا هذا، مع إصرار رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي على تنظيم احتفالية كبرى سوف يحضرها مسئولون كبار من الكيان الصهيوني، بل إن رئيسة الوزراء عبرت الأربعاء الماضي أمام البرلمان عن "سعادتها بمساهمة بريطانيا العظمى في إنشاء دولة إسرائيل". مائة عام هو عمر المأساة الفلسطينية التي لم تبدأ مع قرار مجلس الأمن بتقسيم فلسطين سنة 1947، بل سبقه قرار "عصبة الأمم" التي أقرت وعد بلفور "كهدف نهائي للانتداب البريطاني على فلسطين" مع حضور فكرة التقسيم متناغمة مع بداية تفكيك الخلافة العثمانية، وقسمة "سايكس بيكو" المتواصلة إلى يومنا هذا. وسواء تعلق الأمر بقادة الحركة الصهيونية، أو بزعماء "حركة التحرر العربية" من سلطة الخلافة العثمانية بالتآمر مع بريطانيا والحلفاء، فإن وعد بلفور كان هدية مسمومة لليهود كما للعرب، وضعتهم لأول مرة منذ 14 قرنا في مواجهة مستدامة، لا يمكن أن تتوقف إلا بتفكيك الكيان الذي صنعه وعد بلفور لخدمة غاية صليبية صرفة. لم تكن لحسابات بريطانيا علاقة بالبحث عن موطن بديل ليهود أوروبا، بقدر ما كان الهدف الاستراتيجي "خلق كيان يتحول إلى موطئ قدم للغرب المسيحي على مقربة من منطقة غنية بالنفط "، فالزمن كما يقول الكاتب البريطاني روديارد كيبلينغ كان "زمن اللعبة الكبرى" للسيطرة على منابع النفط وخطوط الإمداد للهند، وجاءت اتفاقايت سايكس بيكو المثبتة في معاهدة "سيف" لتؤكد الهدف النفطي من التقسيم. ويذكر الكاتب اليهودي يعقوب يريدوف في مقال بعنوان "فلسطين وسياسة القوى العظمى" كيف أن وعد بلفور كان تحالفا صرفا بين بريطانيا والصهيونية، حيث كانت حجة الوفد الصهيوني في "مؤتمر سان ريمو" الذي عهد لبريطانيا سلطة الانتداب على فلسطين أنه "سيكون من المفيد للغرب وجود مراكز سكانية لغير العرب يمكن الاعتماد عليها لتعضيد مصالح أوروبا" ومثله يؤكد المؤرخ جيل هاميلتون: "أن تنفيذ وعد بلفور كان يستجيب لحاجة أمريكية وبريطانية لإرضاء الصهاينة في التيار المسيحي". وإذا كان الأمر كذلك، فقد وجب على الصهاينة توديع الحلم الصهيوني، لأن الأهداف التي حركت وعد بلفور هي في طريقها إلى الزوال، مع تراجع الدور الوظيفي للكيان، وقد أصبح اليوم عالة على الغرب: سياسيا، اقتصاديا، أمنيا، أخلاقيا، في صدامه المستدام مع شعب فلسطيني متشبث بأرضه وحقوقه، ليبقى مسار وعد بلفور مرهونا بنتائج إعادة تقسيم الشرق الأوسط التي بدأت مع السقوط الأول لمشروع القرن الأمريكي في العراق، والسقوط الثاني له اليوم في معارك الشام.