ما أسهل أن تتزعم العرب وتصير بطلا بينهم، وما أيسر أن تسبّح بحمدك أناء الليل وأطراف النهار كل الشعوب العربية وعبر كل أصقاع الدنيا، وما أتفه البطولات التي تأتي عن طريق الألسن وعبر الأقمار الاصطناعية، وما أغبى أن تختزل كل قضايانا ومآسينا في شيء واحد اسمه إسرائيل، وما أحمق أن يتوقف مستقبلنا على فتاوى إرضاع الكبير ومشتقاتها... لقد عرف تاريخ العرب القصص والروايات والحكايات والأساطير التي لا تحصى ولا تعدّ عن قبائل وطوائف وأعراق وملل وأشخاص وزعماء قلّدوا أوسمة ذهبية، وصاروا في لحظات عابرة هم صنّاع القرار وتصدروا ما خربشه المؤرخون في دفاترهم، وبعد رحيلهم أو هزائمهم أو حتى إحالتهم على المعاش، تتعرى عورات تلك البطولات المزيفة والكاذبة والتي لم تقدم شيئا لأمة العرب الغارقة فيما يندى له الجبين من الذلّ والهوان. لعنة الاتكال وفظاعة تبرير الفشل حتى لا نغوص كثيرا في أعماق التاريخ ومتاهات القرون الخالية، وحتى لا نتعب أنفسنا في البحث عما يؤكد أطروحتنا، فبين أيدينا ما يكفي في الحاضر العربي والعروبي الذي انتحر بعنتريات الزمن الرديء، ما زادت الشعوب إلا تخلفا وتبعية لا يمكن وصفها. فمع كل زعيم يقف ويصرخ أنه ربهم الأعلى، ولا يريهم إلا ما يرى، تهب وتصفق له الأمة وتقلده أوسمة ونياشين ما حلم بها قط، وعندما تذيب شمس الحقيقة ثلج معاركه الكرتونية، تطوى الصفحة تحت عنوان الخزي والعار، لكن للأسف الشديد تبتدع وتختلق له المبررات التي يحتار فيها جهابذة "تبرير الفشل" الذي أتقنه العرب حتى صار علما عندهم. وفي أكثر الأحيان يرمي سبب الخذلان والهزيمة إلى الخيانة والعمالة وتنزّه قداسة هذا "البطل" من كل شيء، بالرغم من أنه هو من اختار رفاقه وهو من نصب معاونيه وهو الذي فرض تحالفاته وشركائه. تتواصل رحلة البحث عن المنقذ والمنجد والبطل الأسطوري الذي يبعث من سراديب الزمن ومن على دابته المسرّجة منذ آلاف السنين، ليحمل العرب من غرفهم حيث يغطّون في نوم عميق، ويرفعهم على رؤوس الأشهاد، وحتى على أعناق من يسهرون الليل والنهار من أجل إسعاد البشرية وتطويرها وحضارتها. لقد تجذّرت العلل في العرب بسبب مرارة الهزيمة ولعنة الاتكال مرة على القضاء والقدر وأخرى على طقوس وهمية يحفل بها تراثهم، بل تعدّى إلى أن صار مجرد دروشات أملتها العقليات الفاشية والهلوسات البدوية والمعجزات الخرافية التي ابتدعتها شهرزاد لتلطف من شبق شهريار، ولكن صدّقها لاحقا العربان وراحوا يقارعون عنان السماء بالصراخ، ويهددون بحرق الأمم الأخرى بأعواد ثقاب مستعملة قد فقدت حتى معنى وجودها. الأغرب أن العرب تحوّلوا إلى "فئران" تجارب لكل الشعارات الطنّانة والرنانة التي لم تقدم شيئا لهذا "الجنس" الذي تخدّر بالفشل والإخفاق حتى آل شأنه إلى من انتهى تاريخ صلاحيته، هذا ما يؤكده واقعهم البائس والعبثي. أقول ذلك ولست من دعاة التطهير العرقي، ولا نكاية أو دعوى طائفية كما قد يخيل للبعض، بل هي حقيقة واضحة لا يمكن أن نقفز عليها أو نتجاوزها، والاعتراف بها هو المنطلق الذي وجب أن يتوفر من أجل بعث الحياة في الرميم. على إيقاع الناصرية والصدامية والخمينية... لنعطي بعض الأمثلة من عصرنا نحن، بلا رجوع إلى العرب العاربة أو المستعربة، أو العصر الأموي أو العباسي أو الفاطميين أو العثمانيين، أو ما جاء به الخوارج والمعتزلة والسلفية والوهابية والأشعرية... الخ. ونتحدث عن هؤلاء الذين أشهروا سيوفا رآها العرب من حديد أو خيّلت لهم أنها تلمع ذهبا، ولكنها طلعت لاحقا أنها من العجين المسوّس أو من العهن المنفوش. لقد خدع العرب قاطبة جمال عبد الناصر بشعارات القومية الجوفاء والوحدة التي ولدت مفتتة، وأسكرهم وافقدهم وعيهم بما حمله من مشاريع ورقية مشبوهة، كلها كانت تزعم بأنها ستمحو إسرائيل من الوجود البشري وليس العربي أو الفلسطيني فقط. حدث ذلك مع هذا الرجل الذي نجح برفقة آخرين في الإنقلاب عسكريا على ملك يحتضر عام 1952، وسمّى إنقلابه "ثورة" وهي عادة المتسلطين والديكتاتوريين والفرعونيين الذين لا يسمعون أصوات شعوبهم إلا عندما تئن تحت أقدامهم، ولا تفتح العيون على شؤون السلطة والسلاطين إلا لما ترى أرقام نعالهم التي يلبسونها وهم يلوحون بالتيجان والصولجانات في المرافق العمومية حتى يعلم كل الناس حجم الركل والرفس، إن تجرأوا أو فكّروا في شيء يناهض أطروحاته. بل من فرط الاستبداد يصورون وصولهم للسلطة على أنه فتح مبين وتصحيح ثوري أو ديمقراطي أو بعثي أو شعبوي، ولا أحد تجرأ ووصفه بانقلاب عسكري وحتى من باب المزاح والمصالحة مع الذات. جمال عبد الناصر لم يحقق انتصارا واحدا في فترة حكمه سوى غدره برفيق دربه محمد نجيب لما أزاحه عام 1954 وعدّ ذلك مجدا، بل هزم هزيمة نكراء في 1967 وذرف دموع التماسيح عبر التلفزيون عندما طلع يطلب التنحي من الحكم -لا أدري ممن؟- وفي سابقة هزلية، فقد كان في أمس الحاجة لتمثيلية تعيد له ماء وجهه المهدور وتخرج الجماهير في مسيرات "عفوية" تطالبه بالبقاء، وقد يكون المشهد قام بإخراجه وكتابة السيناريو أساطين الفن السابع المصري الذين تخرجوا من شارع محمد علي. ولو كان صادقا في ذلك لاستقال مباشرة لحظة سماعه خبر النكسة المدوي، وبعدها يعتذر مباشرة ويقدم نفسه للمحاكمة الشعبية والعربية العلنية، وبين صفوف الجماهير التي إكتوت بسجونه وجلاديه ووعوده، وبكت دما على مرارة هزائمه. جاء الإيراني الخميني وهو زعيم الفرس ممن يبحثون عن فرصة لعودة إمبراطورية المجوس البائدة، وبسبب يأس العالم الإسلامي من العرب وحكامهم قلدوه الزعامة الملهمة والروحية والمرجعية، وهتفوا بإسمه وصار المنقذ الذي تنتظره "أمة الإسلام" منذ سقوط آخر قلاع خلافتهم. حمل الخميني شعارات نارية ضد أمريكا وسماها "الشيطان الأكبر" وتوعّد إسرائيل، وطارد بفتوى دموية سلمان رشدي على آياته الشيطانية التي كان لا يعلم بها أحد ولم تتجاوز غرفة نومه التي تهلوس فيها وخربش خرافاته، ولكن عندما دخل هذا الخميني على الخط رفع شأنها للعالمية، وعّد ذلك من العبقرية الثورية التي لا نظير لها!! بعد سنوات عجاف في نفعها وسمان في زبدها، اتضحت الحقيقة العلقمية، أن ما كان يقال هو مجرد شعارات جوفاء ورهان كاذب. فالتآمر الفارسي على العرب والمسلمين لا يمكن إنكاره وظهر جليا في الدعم الإيراني القوي لأمريكا حين غزت أفغانستان والعراق وبإعترافات رسمية، كالتي جاءت على لسان محمد علي أبطحي مستشار الرئيس الأسبق محمد خاتمي ومدير مكتبه، الذي قال: "لولا الدعم الإيراني لأمريكا لما استطاعت أن تحتلّ أفغانستان ثم العراق". وأن هؤلاء الشيعة الذين تدينوا بما يسفه تراث العرب الديني والمذهبي لم يكن لأجل شيء واحد ينفعهم، بل هو مخطط لإعادة مجد الفرس البائد الذي أسقطه الخليفة عمر بن الخطاب، والآن هو في مناهجهم التربوية والحوزية يوصف بما أعف لساني من ذكره. دخل الخميني في مواجهة مع صدام حسين، بعدما تفطن هذا الأخير لمؤامرات الفرس على بلاده، وخاصة أن في العراق أماكن مقدسة شيعية ومزارات وأنصار يعدون بالآلاف، في أغلبهم موالين للملالي بحكم إملاءات الدين الإثني عشري. ويكفي الإبادة الطائفية التي تجري الآن في حق الطائفة السنية من طرف الميليشيات الشيعية، بعدما مكنت أمريكا إيران من بلاد الرافدين عبر من يتزينون باللون الأسود ويلطمون الخدود ويشقون الجيوب في مأساة أرشيفية عمرها قرون، وهذا لصناعة دمار سيمكث دهرا آخر. سقطت أسطورة الخميني الهلامية، وتفطن الكثيرون لخطط الفارسيين في المنطقة العربية، فلعنوا هذا الرجل وكفروا بعباءته الملالية وبثورته التي توصف بالإسلامية، وعادوا إلى بيوتهم منكوبين ومهانين ينتظرون للمرة مجدّدا "الزعيم" الذي سيرفع هامتهم في ظل الإنكسارات والهزائم المتعددة. فالعرب لم يحققوا أي نصر منذ نكبة 1948 إلا الثورة الجزائرية التي خرجت من أطر القومية الضيقة، وكانت ثورة إنسانية في المنطقة المغاربية، التي ينبض فيها العرق الأمازيغي ويدين أهلها بالإسلام. حتى وإن كانت الثورة الجزائرية توصف بالعربية ويراد أن تعد إنتصارا للقومية البعثية، إلا أن الحقيقة غير ذلك بكثير فهي ثورة جزائرية في حدودها وسقفها، وإنسانية في عمقها ومعانيها، لم تحمل من شعار غير تحرير الجزائر من الحلف الأطلسي، والذي هو عين تحرير البشرية من الإحتلال والظلم والتسلط، ومن يزعم غير ذلك فهو يزايد على حساب ما هو ثابت بالدليل والبرهان، ويريد أن يشرك الآخرين في مجد جزائري بإمتياز. جاء صدام حسين مرة أخرى لمشهد البطولة، وعندما قذف تل أبيب ببعض الصواريخ لم تأت إلا على أحياء مدنية وجدران بيوت، قدسه العرب إلى حد الهوس والجنون، وصار في المخيال الشعبوي هو صلاح الدين الأيوبي المنتظر، ولكن هذا "البطل" العربي البعثي والراهب في محاريب حمورابي، لم يحقق أي إنتصار يمكن أن يذكر، فقد خرج منكسرا من حربه مع الفرس برغم الدعم الرسمي العربي، وشرب الكل من "كأس السم" على حد تعبير الخميني الذي أعلن -على مضض- قبوله بوقف إطلاق النار في 05 / 07 / 1988. ومن الكويت التي سماها المقاطعة 19، هرب في آخر هزيع الليل بعد تحالف دولي وإقليمي قاده جورج بوش الأب صيف 1990. وبعدها تحول العراق إلى مركز للتفتيش الدولي وصارت قصور وغرف نوم صدام وقبعات الجنرالات تقلب من طرف الأممالمتحدة ومخابرات إسرائيل، عبر مفتشين يحملون رتبة عريف في الجيش الأمريكي. ولم تسلم حتى حلي وعلب زينة بناته وزوجته من هذه الإجراءات المهينة التي رافقها حصار دولي غاشم دمر البلاد والعباد. وانتهى أمر هذه "الأسطورة" باحتلال العراق وتفتيته وتحويله إلى مقاطعة أمريكية تحت ما يشبه الانتداب الإيراني، بل إن الموساد صار يعبث ببلاد الرافدين حيثما يشاء ويريد ووفق بروتوكولات تحسب أنفاس الغير من أجل دولتهم المستمدة من العقيدة التلمودية. وهكذا انتهى مشهد "البطل" مرة أخرى عبر مقصلة أقامها آل الملالي وأحفاد العلقمي، صباح يوم عيد الأضحى المبارك من ديسمبر 2007، وفي مشاهد مؤلمة عبثت بها شاشات الهواتف المحمولة وتبارى بها الهواة في كل أصقاع الدنيا. في ظل بحث العرب عن مكان لهم ولو في أواخر الطابور، وتحت تعطشهم لأي انتصار يسكرهم بنشوة الماضي السحيق، تلقفوا انسحاب إسرائيل الاستراتيجي من غزّة في 2004، وقبلها من جنوب لبنان عام 2000، على أنه انتصار رهيب حققوه بفضل ما يسمونه بالمقاومات، ثم جاء بعدها تمجيد حرب تموز 2006، والتي دمرت لبنان وأعادته عشرات السنين إلى الخلف وذهبت بأرواح الكثيرين وبعثرت حسابات إقليمية في المنطقة، وهو الهدف الذي كانت تريده إسرائيل في تلك الحرب الخاطفة، وتحقق لها بامتياز وفق ما خطط له داخليا وخارجيا. ويكفي أن الغارات الصهيونية في أغلبها كانت تستهدف الأحياء السنية وتتفادى معاقل "حزب الله" والطائفة الشيعية!! وهكذا عادت إيران من نافذة أخرى ورفع حسن نصر الله فوق رؤوس العرب وبايعوه بيعة لا ردّة بعدها أبدا، هكذا خيّل لهم. وتناسى هؤلاء العرب كعادتهم كل هزائمهم المتتالية والمتوالية في غمرة العنجهية الفارسية في لبنان، من خلال ذراعها الوفي "حزب الله".