لطالما أسالت ظاهرة الحرقة حبر الكثير من وسائل الإعلام، وتناولها أخصائيون اجتماعيون من جانبها النفسي والاجتماعي، وأبحر الباحثون في الحديث عن دوافعها الاقتصادية، وسطرت الدول مخططات لصد هذه الظاهرة، لكن ربما ما سنتناوله في هذا الروبورتاج، قد يخرج عمّا دار من حديث وما كتب عن الظاهرة. "الشروق" سلّطت الضوء على تجارب لفئات من المجتمع التيموشنتي؛ فنانون معوقون وموظفون في الإدارة خاضوا تجربة الحرقة كان بعضها فاشلا والآخر ناجحا.
هواري.. معوق حركيا دفعته الظروف إلى الهجرة سرّا لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، لكنه كان يستشعر الأعباء التي تراكمت عليه دفعة واحدة، لأنه يعرف أنه واحد من أولئك الشباب الذين وجدوا أنفسهم في غفلة من الزمن في وضعية استثنائية، كما أنه يعلم جيدا مصيره إن أكمل دراسته، مستشهدا بمن سبقوه؟! هكذا بدأ الشاب هواري، معوق حركيا بنسبة 100 بالمائة، شهادته ل"الشروق" قائلا: "لم تكن اسبانيا تمثل لي حلما لحل معضلة "الميزيرية" التي كنت أعيش شبحها منذ أكثر من 15سنة، عشت فيها محروما من أبسط ضروريات الحياة، ترعرعت وسط عائلة فقيرة محتقرة من طرف المجتمع البرجوازي إن صح القول"، وتابع قائلا: "هي حقيقة كنت أراها منذ أن بدأت تراودني فكرة الهجرة، فلهذا قررت خوض غمار المغامرة رغم إدراكي جيدا بخطورتها". هواري صرّح بأنّه لم يعرف كيف تم التوسط بينه وبين المسؤول عن عملية الحرقة، "لكن في لحظة ما وجدت نفسي في طريقي إلى شاطئ سيدي جلول هناك التقيت بمجموعة من الشباب من ولايات مختلفة، عين تموشنت وهرانالجزائر العاصمة، كان الجو - يقول هواري - مشحونا بالتساؤلات متى سنقلع وهل سنصل الديار الإسبانية، ومن هذا ومن ذاك؟ أسئلة يقول هواري أحدثت زوبعة في عقلي وكدت حينا أتراجع وأعود أدراجي؟ المهم يقول هواري، انطلقنا في حدود الساعة الرابعة فجرا، بدأ القارب يشق طريقه نحو البحر، لم يكن معنا، إلا القليل من الزاد من تمر وحليب، لم يمر علينا إلا القليل من الوقت حتى حاصرنا خفر السواحل الجزائرية قبل أن يتم إجلاءنا إلى اليابسة، ومن ثم إحالتنا على مصالح الدرك الوطني وسماعنا في محاضر رسمية.
فنان كوميدي: أفكّر يوميا في الهجرة عبر قوارب الموت؟! سيد أحمد، شاب يبلغ من العمر حوالي 28 سنة، كله حيوية ونشاط. وهو فكاهي، حاول هو الآخر بلوغ الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط انطلاقا من سواحل عين تموشنت، يقول سيد أحمد مستهلا شهادته بضحكات تخفي وراءها الكثير من الآلام والأحزان فيقول: "أفكر يوما في الحرقة إلى اسبانيا باعتبار إنني المتكفل الوحيد بأمي طريحة الفراش، اشتغلت بالأفراح والأعراس في مجال الفكاهة لأعيل عائلتي المتكونة من أخت وأم أرهقها المرض، فظروف المعيشة الصعبة هي التي جعلتني أفكر في الهجرة". وواصل سيد أحمد سرد معاناته: "كنا في كثير من الأيام لا نجد ما نقتات عليه، اضطررت في أحيان كثيرة إلى بيع بعض من ملابسي حتى أعيل عائلتي، كنا نعيش تحت الخط الأحمر للفقر"، -أخذ نفسا عميقا- ليتساءل: "أتدري حجم الألم الذي يعتصرك وأنت ترى أمك طريحة الفراش ولا تستطيع توفير علبة دواء لها. الظروف هذه هي التي دفعتني إلى خوض غمار قوارب الموت فكانت انطلاقتنا رفقة 07 شباب من نفس الحي الذي أقطن به حي 120 مسكن، انطلقنا من شاطئ رشقون رقم واحد، وهدفي الوحيد هو أن أصل إلى الديار الاسبانية، وأعود وقد وفرت بعضا من المال لعلاج والدتي، هذا ما كنت اطمح إليه، لا مستقبلي و لا أي شيء، المهم أن أعالج والدتي". وكشف سيد أحمد بأنه انطلق من شاطئ رشقون رقم 01 رفقة ستة شباب من الحي بعد دفع مبلغ 08 ملايين سنتيم للشخص الواحد، اقترضها من أحد المقاولين الذين كان يعمل لديه كمساعد بناء. الانطلاق كان من الشاطئ المذكور في حدود الساعة الواحدة صباحا، و بعد حوالي 12 ساعة من الإبحار وصلوا إلى سواحل اسبانيا قبل ان يتعقبهم خفر السواحل الاسبانية وتم إلقاء القبض عليهم واقتيادهم نحو السجن، حيث مكثوا هناك حوالي 15 يوما قبل أن يرحلوا إلى الجزائر عبر ميناء الغزوات.
فيصل.. عندما تثقل الديون الموظف وتدفعه للحرقة فيصل، أب لثلاثة أطفال، موظف بإحدى المديريات الولائية برتبة عون إدارة، جرب هو الآخر الحرقة في محاولة منه للخروج من شظف العيش، بعد أن فاقت ديونه - يقول فيصل - 120 مليون سنتيم، بدأ فيصل شهادته وقد تحجرت الدموع في عينيه، يحكي بمرارة والآلام تعتصر قلبه فيقول: "قد تستغرب إن قلت لك بأنني موظف برتبة عون إدارة وقررت الحرقة نعم، وهو كذلك، عون الإدارة في الوظيف العمومي يتقاضى 20 الف دينار جزائري، معيل لثلاثة أطفال؛ فأجرتي الشهرية لا تكفيني وعائلتي لمدة شهر، الأمر الذي دفع بي للاستدانة، قبل أن تبلغ ديوني 120 مليون سنتيم، حينها قررت الهجرة وركوب قوارب الموت عساي أن أجد ضالتي هناك وأتمكن من ضمان مستقبل أولادي وإرجاع ديوني؛ فقررت رفقة مجموعة من الشباب بعد أن توسط لي أحد الشباب عند منظمي عملية الحرقة ودفعت حينها 06 ملايين سنتيم قبل أن أنطلق رفقة 09 شباب على متن زورق نصف صلب من شاطئ مالوس بنواحي ولهاصة، لكن وللأسف اعترضتنا قوارب حراس السواحل الجزائرية، وقامت بإجلائنا إلى اليابسة، قبل سماعنا في محاضر رسمية من طرف مصالح الدرك الوطني. فيصل حكم عليه بشهرين حبسا غير نافذ عن تهمة محاولة مغادرة التراب الوطني بطريقة غير شرعية وفقد بعدها وظيفته ليتحول إلى عامل يومي بورشات البناء.
محمد.. من عين تموشنت إلى بوسطنالأمريكية قصة محمد قد تختلف عن جميع قصص من سبقوه، محمد شاب في 31 سنة من عمره، أصيل بلدية اولاد الكيحل بعين تموشنت، مقيم حاليا بالولاياتالمتحدةالأمريكية بعد أن خاض تجربة الحرقة في بواخر نقل البترول انطلاقا من ارزيو بوهران، اتصلت به "الشروق" عبر تقنية السكايب ليروي تجربته، فيقول محمد كان لدي خال بالولاياتالمتحدةالأمريكية، لم يزرنا إلا مرة واحدة، أتذكر جيدا - يقول محمد - عندما زارنا طلبت منه عنوانه بالولاياتالمتحدةالأمريكية ممازحا إياه لعل القدر يرمي بنا إلى هناك فسخر مني واعتبر أن ذلك ضرب من الجنون، المهم - يقول محمد - كان لدي عم يقطن بمدينة ارزيو بوهران، وكنت دائم التردد عليه خلال أيام العطلة الأسبوعية، بعدها تعرفت على مجموعة من الشباب كان حديثهم ومجالسهم دائما عن ظاهرة الحرقة والتخطيط لذلك عن طريق بواخر نقل البترول من ارزيو إلى مدينة بوسطنالأمريكية. بعد حوالي شهر من الترصد، قام محمد بالتسلل إلى إحدى هذه البواخر ومكث بها حوالي يومين قبل انطلاقها، كان في تلك الفترة لا يأكل سوى التمر وبعد حوالي 09 أيام وصلت الباخرة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية، حينها تسلل عبرها في رحلة جديدة للبحث عن عنوان خاله، الذي استغرب مجيئه والطريقة التي قدم بها إلى أمريكا. يتذكر محمد كيف تعرف على فتاة أمريكية كان عمرها لا يتجاوز 19 سنة وانتهت العلاقة بزواجهما ودخولها الإسلام، وهو حاليا مستقر بالولاياتالمتحدةالأمريكية.