اغتيال جدي وهو يؤذن لصلاة الفجر ! أبي عشت مع والدي زهاء ثلاثين سنة، ولذا أعرفه جيدا، وما زالت معالم وجهه وصفاته المختلفة واضحة عندي لا أُجهد الفكر في تذكرها وتصورها . كان متوسط القامة، قوي البنية، جهوري الصوت، أسود الشعر، خمري اللون، وكان لطيف المعاشرة، يقظ الضمير، قوي الإيمان، جريئا في نصرة الحق، نزيه النفس، عالي الهمة، ولكنه كان عصبيّ المزاج إذا استُغضب ثار وهاج، ولكنه كان سرعان ما يهدأ ويستغفر ربَّه ويعتذر في أدب ولطف، ويندم على ما صدر منه . وكان يكره أشد الكراهية الظلم والظالمين، ويمقت - في احتقار - الخونة والمنافقين، والإمعة وضعاف النفوس الذين همهم مسايرة الظروف والوقوف بجانب القوي حتى يضعف ! * موسم العلماء والأدباء ولد الشيخ محمد البشير -وهو اسم والدي- في قرية (إبسكرين) سنة 1889 وهي سنة مباركة شاهدت ميلاد علماء أجلاء في الجزائر وفي الشرق العربي، وفي هذه السنة ولد في الجزائر إمام النهضة ورائد الإصلاح الشيخ عبد الحميد بن باديس، وأمير البيان العربي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، والمؤرخ الأستاذ أحمد توفيق المدني، وولد بالشرق العربي في هذه السنة عدد كبير من أهل العلم والمعرفة، والمواهب الفكرية الغزيرة أمثال كل من الدكتور طه حسين، والأستاذ عباس محمود العقّاد، والشاعر الكبير إليا أبو ماضي وغيرهم كثير! وهكذا فبعض السنوات مباركة على الإنسانية يولد فيها رجال متميزون يخصبون الأفكار، ويوقدون القرائح، ويطلقون المشاعر، ويثرون الثقافة، ويرفعون لواء المعرفة، ويبوئون أممهم بين الأمم مكانة مرموقة يزهو بها التاريخ، وبعض السنوات غبن على الإنسانية وغم ثقيل يموت فيها رجال هم مناط آمالها، ومفاتيح مغالقها، ومصابيح الهدى فيها ! ولم يكد يبلغ السادسة من عمره حتى أدخله أبوه كتّاب القرية فكان في اتصاله بالكتاب ومعلم القرآن يختلف عن تلاده وزملائه، فبينما كان هؤلاء ينفرون من الكتاب، ويذهبون إليه مدفوعين مكرهين، كان هو ميّالا إليه، رضيّ النفس به، ينتظر ساعة الذهاب إليه بفارغ الصبر! ولِما امتاز به من مواهب فطرية، حفظ أجزاء من القرآن الكريم في أمَد وجيز، ثم تولى والده تحفيظه ما بقي عليه، ولما أتم حفظه وبقي عليه تجويده وتمحيصه، أدخله زاوية سيدي منصور، وهي بالقرب من الأحد على بضعة أميال من القرية -كما قدمنا-. لم تمض إلا سنتان على الطالب في هذه الزاوية حتى أنهى حفظ القرآن وتجويده وحِفْظ مجموع من المتون، ثم تفرغ لدراسة الفقه وعلوم اللغة، وكان مع صغر سنه قد أخذ نفسه بالأعمال، يقوم بها . أولها تلاوة عشرة أحزاب كل مساء . وثانيها صوم يومي الإثنين والخميس كلّ أسبوع . وثالثها التهجد بعشرة أحزاب كل ليلة . ورابعها ختم القرآن الكريم كله ليلة الجمعة . وذكر لي يوما أن هناك طالبًا ينافسه في ختم القرآن كله ليلة الجمعة، فكان والدي يضع رجليه في ماء الثلج أيام الشتاء حتى لا يغلبه النوم، وحتى يتمكن من ختم القرآن في ليلة واحدة تنفيذا للالتزام الذي أخذ به نفسه، مما خلف له شللا في ساقيه لازمه نحو عشرة أعوام قبل موته ! وحفزه طموحه، ومحصوله العلمي، إلى إتمام دراسته بجامع الزيتونة بتونس، فاعتزم ذلك وتهيأ له، واستشار شيخه في ذلك فلم يشجعه على رغبته، وحثّه على البقاء في الزاوية على أن يوفر له كل ما عسى أن يكون في حاجة إليه، حتى يواصل دراسته أمام عينيه، وبالقرب من عائلته. جامع الزيتونة .. وما كل ما يتمنى المرء يُدركه ! كان قلب الشيخ الوالد قد ارتحل إلى تونس ولم يبق في الزاوية إلا الجسم، ولذا قرر الذهاب، ولم يكن عنده من المال ما يواجه به هذا السفر الطويل الشاق، ولكنه كان قويّ الإرادة والعزم، متحمّسا لهذه الرحلة غير مكترث بما سيلاقيه فيها من متاعب وشدائد، والإنسان إذا أحبّ شيئا إلى حد الكلف والولوع وتعلقت به همته استهان بكل ما يحيط به من صعاب وشدائد ! وصل إلى تونس بعد ثلاثة أشهر على حالة يرثى لها، ولكن الطلبة الجزائريين أحسنوا استقباله ووفروا له غذاءً ناجعا، وجوا ملائما، وأروه رأي العين أن الأخوة في الغربة معناها المساندة والمناصرة، والإيثار والتضحية، والبر والإحسان! ووجد طلبة الجامع وفروعه يستعدون لامتحانات آخر السنة، ونصحه بعضهم بالاتجاه إلى ماطر، مدينة على طريق بنزرت، وقال له إن هناك جزائريين أثرياء في حاجة ماسة إلى من يعلم أولادهم في هذه الصائفة، فإذا قصدت أحدهم وكشفت له عن حالك، فتح لك باب داره، وجعلك معلما لأبنائه، فتضمن عنده الإقامة إلى بداية السنة الدراسية، وتتزود منه بالمال الذي تواجه به حياتك في المستقبل الدراسي بجامع الزيتونة ! وفعلا عمل بهذا النصح وهذا الاقتراح الوجيه، واتجه إلى ماطر، وهو لا يعرف أحدا فيه ولكن الأقدار الإلهية تدخَّلت وفعلت فعلها، ووفرت على الطالب البحث والسؤال، فما كاد يصل إلى ماطر ويسأل عن الجزائريين حتى دلّه أحد المارة على رجل يدعى (الحاج الحسين الصدقاوي) وهو من عائلة بمنطقة القبائل هاجرت إلى تونس عام 1871 بينها وبين عائلة الصديق في قرية إبسكرين وشائج وصلات! وما إن عرف الحاج الحسين، أنه من تلك العائلة حتى فرح به وانبسط له وجعله معلما لأبنائه، ولكنه لاحظ بعد أيام أنه يستغله على نطاق واسع، فلم يكن يكتفي بمهنة التعليم، بل كان يرسله في قضاء حاجات له بالمدينة، ولكنه صبر على ذلك وتحمّل في سبيل العلم كل مكروه . قضى فصل الصيف معلّما عند الرجل، ولكن بأجرة زهيدة لا تسمن ولا تغني من جوع، وعندما منحها له في نهاية الصيف، أصيب بخيبة ماحقة، فقد كان يظن أن مثل هذا الرجل، غناءً ومكانةً بماطر، ومعرفةً بالعائلة، وإدراكا لوضع الطالب، ورغبته في مواصلة دراسته، سينصفه إن لم يكن له خير سند وخير معوان، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن ! عاد أبي إلى تونس واتصل من جديد بالطلبة الجزائريين وكشف لهم عن وضعه المادي، فرأوا أن ما عنده من مال لا يكفي لحاجاته الضرورية لفصل من فصول السنة الدراسية وأنه يتعذر عليه التفرغ للدراسة، فما كان منه إلا أن قرر العودة إلى الجزائر بعد شهرين تقريبا تابع خلالهما دروسا في التفسير وعلوم العربية، وقد آلمهم حاله فكان منهم من وعده بأن يكون بجنبه يتقاسم معه الفراش والطعام ما دام طالبا بالزيتونة، ولكنه كان همة وشهامة لا يريد أن يضايق أحدًا، ولا أن يعيش مستجديا ولو كان ذلك في طلب العلم! عاد الطالب إلى الجزائر، إلى زاوية سيدي منصور، ولا تسل عما واجهه في طريق عودته من متاعب وشدائد: حينًا يركب وأحيانا يمشي، حينا يشبع وأحيانا يجوع، حينا يهتدي إلى الطريق، وأحيانا يضل ويتيه في مفازات وفلوات حتي وصل إلى الجزائر. اغتيال جدي وهو يؤذن لصلاة الفجر ! كان والد مترجَمنا، الشيخ محمد السعيد، يعيش في قرية (إبسكرين) حياة هادئة مستقرة يحظى باحترام مختلف الفئات في القرية، نظرا لكرم أسرته، وما يتميز به أيضا من تواضع، وراحة نديّة، وخلق كريم، حتى وقعت بينه وبين واحد من أهل القرية خصومة شديدة فتكدّر صفوه، واضطربت حياته، واضطر إلى الهجرة من قريته إلى قرية (أبي زار) ببني جناد، على نحو 15 ميلا تقريبا، وتولى فيها الإمامة بسعي من الشيخ داوي أحمد شيخ زاوية سيدي منصور، وهناك تفرغ لمهمته ظانًا أن خصمَه قد طوى صفحة الماضي، وتغلب على نوازع النفس الأمارة بالسوء، وما دار بخَلَده أن الرجل قد طغت عليه شهوة الانتقام، وأصبح الهم الذي يشغل باله، ويستبد بمشاعره وأحاسيسه هو : كيف يتخلص منه ! وبعد نحو عامين من التوجيه والإرشاد، وفض الخصومات والنزاعات في القرية والقرى المجاورة، وبعد أن اندمج مع أهل القرية، وتلاقت أرواحهم وقلوبهم على الخير والإصلاح، أرسل خصمُه من اختبأ له وراء المسجد، ولما رفع الشيخ أذان الفجر خرج إليه وأطلق عليه النار فأرداه قتيلا ! وكان اغتياله حدثًا بارزًا في المنطقة، انفطرت لهوله القلوب، وجزِعت له النفوس، وظلت القرية أمدًا طويلا في لهيب الحسرة، وظلام الرزء وأليم الحزن ! ورأى الشيخ داوي أحمد أن خير ما يضمّد الجرح، ويرأب الصدع، ويخفّف من هول المصاب أن يعين في القرية الشيخ البشير نجل المغتال، وكان آنذاك قد عاد من تونس وقضى فترة من الراحة وفترة من النقاهة بعد مرض كاد يودي بحياته! أخذت شهرة والدي الشيخ تتسع بين يوم وآخر، وأخذ أهل القرى المجاورة يلتفون حوله، ويتجهون إليه في مخاصماتهم وقضاياهم المختلفة، وهذا النجاح وهذه الشهرة جعلت الشيخ يفكر في توسيع الجامع وتأسيس الجمعة، فعرض الفكرة على أهل القرية فقبلوها بفرح وابتهاج ورأوا في ذلك التكفير عن ماضيهم، والانطلاق بالقرية نحو غد مشرق، تكون فيه بين القرى المجاورة مركزَ الجاذبية، ومطمح الأنظار ! ولم تمض إلا أشهر حتى تم توسيع المسجد، وتهيأ أهل القرية للاحتفال ببداية الجمعة !