كانت الجزائر غداة الاستقلال تضم ما يربو عن 460 قاعة عرض، يرتادها جمهور منتظم ومحب للسينما، وكانت 14 بالمئة من الجباية تكفي لتمويل الإنتاج السينمائي الوطني، حيث كان هذا القطاع يوفر ما لا يقل عن 3500 منصب شغل دائم.. تحقيق: سعيد جاب الخير أما اليوم فيوجد 274 قاعة مغلقة عبر الوطن، أما البقية فتعيش أوضاعا مزرية.. وهي جديرة أن تسمى (بقايا قاعات) أو (أطلال قاعات) حيث لم يعد يعرض فيها سوى أفلام الفيديو المقرصنة وبعضها جنسي خلاعي ينتمي إلى المربع الأحمر.. أغلب الأفلام لا يتابعها الجمهور الذي يدفع مع ذلك ثمن الدخول.. لكنه لا يدفع ثمن المشاهدة، بل يدفع ثمن الممارسة الجنسية بجميع أنواعها وأذواقها.. علما أن الدفع خارج القاعة لا يغني عن الدفع داخلها.. صدقوا أو لا تصدقوا.. لقد أصبح ما تبقى من قاعاتنا، باستثناء ثلاث على مستوى العاصمة، مواخير حقيقية.. فمن المسؤول عن هذا الواقع؟ يمكن القول دون أدنى تردد، إنه لم يعد هنالك وجود لشيء اسمه قاعات سينما في الجزائر.. ومعلوم أن الاستثناءات تؤكد القاعدة ولا تنفيها في هذا المجال وغيره. وفي المقابل يمكننا أن نتحدث، على مستوى العاصمة على الأقل، عن قاعات مخصصة لأشياء كثيرة ومثيرة يمكن أن تخطر على البال ما عدا مشاهدة الأفلام السينمائية. أصبح الشباب من الجنسين والكهول وحتى الشيوخ يدخلون بقايا قاعات السينما، بدافع واحد لا شريك له: التنفيس عن مكبوتاتهم الجنسية، الطبيعية وغير الطبيعية.. فهل هذا تعطل موضوعي أو تعطيل (حتى لا نقول تخريب) مقصود ومنظم، لقاعات السينما ووظيفتها الأصلية ذات الطابع الثقافي؟ قد يكون الأمران معا. ما الذي جعل قاعات السينما عندنا تتحول إلى مواخير جماعية؟ ما الذي أوصلنا إلى هذا الواقع المأساوي؟ أسئلة حملناها إلى أكثر من طرف. البعض يجيب والبعض يكتفي بإبداء الحسرة على الزمن الجميل.. الزمن الذي كانت فيه قاعات السينما الجزائرية مشاريع مربحة لا تحتاج إلى تمويل الدولة، بل هي التي كانت تمول الإنتاج السينمائي الوطني. صور من الزمن الجميل صرح أحمد بجاوي، السينمائي والمدير السابق للمركز الوطني للسينما والسمعي البصري، أنه في الستينيات كانت السينما تعيش من إيرادات السينما، وأن هذه الإيرادات كانت تكفي لتمويل جميع الأفلام الجزائرية، نافيا بشدة القول بأن الدولة كانت تمول السينما في تلك المرحلة سواء في الإنتاج أو التوزيع، وقال إن الجمهور الجزائري هو الذي كان ينتج الفيلم الجزائري من خلال ما كان يدفع لشباك التذاكر. أما جمهور اليوم، يضيف بجاوي، فهو محروم من الصور.. هذا الحرمان الذي ينبئ عن تصحر ثقافي تدريجي ومدروس.. وتقول الأرقام المتوفرة لدينا إن عدد القاعات التي تركها المحتل بعد رحيله عن الجزائر يربو عن 460 قاعة عملية، وفي حالة جيدة، يرتادها جمهور عريض، حيث كانت نسبة 14 بالمئة من الجباية تذهب لصندوق دعم الإبداع بما يكفي لتغطية تكاليف إنتاج جميع الأفلام الجزائرية. كانت القاعات تابعة للقطاع الخاص، ولكن بعد تأميمها وإسناد مهمة تسييرها للبلديات ثم للديوان الوطني للصناعة السينماطوغرافية، ضاعت القاعات بعد أن انعدم الإنتاج أو كاد، ما جعل الجمهور العارف يهجرها، ليأتي بعد ذلك الجمهور المكبوت الذي أصبح يستغل فضاءاتها المظلمة ليمارس ما لا يستطيع أن يمارسه خارجها.. ومن الطبيعي أن تتحول القاعات إلى (مهام) أخرى بعد أن تتوقف عن أداء مهمتها الأصلية، لأن الطبيعة تكره الفراغ.. الفيديو.. وأسرار الظلام عندما تدخل ما تبقى من أطلال القاعات بالعاصمة مثل الخيام، الهلال، إفريقيا (قبل غلقها)، الهڤار، دنيازاد وغيرها، تحس أنك في ما يشبه الماخور الكبير.. لا يهم الفيلم الذي سيعرض (وهو بالتأكيد من نوع الفيديو المقرصن) بقدر ما يهم الشخص (أو الشخصة) الذي يجلس إلى جانبك. الجميع يأتون إلى هذه القاعات، مراهقون، شباب وكهول. فما أن ينطفئ الضوء حتى ينشغل الجالسون بعضهم ببعض، لينعزل كل زوج (مهما كان نوعه) عن العالم من حوله.. وتتحدد حرية كل طرف في الممارسة، بمدى ما يمكن أن يسمح به الطرف الآخر، ليصبح كل شيء وكل وضع ممكنا.. وتتسع مساحة الحرية الفردية والجماعية داخل القاعة بما يستعصي على المقارنة حتى مع أكثر العواصم إباحية في العالم. بعض (المتفرجين) يكتفي بما تيسر من الفعل الجنسي المتاح في حالة الجلوس (...) إما بسبب الخجل أو لممانعة الطرف الآخر.. وبعضهم ينزع ثيابه تماما وكأنهم في (الدوش) ليقفوا في مواجهة الحائط ويمارسوا ما تيسر من اللذة المتاحة، بينما يفضل البعض الذهاب للمراحيض التي حولت عن وظيفتها الأصلية لتصبح (غرفا) مغلقة للممارسة الجنسية (مدفوعة الأجر من فضلكم) حيث تجد طوابير الانتظار أمام كل باب، وما دامت (الفيستة) ما تزال معلقة فمعنى ذلك أن الزبون ما يزال داخل (الغرفة).. إذن فلينتظر كل واحد دوره.. ولعل هذا من الطوابير النادرة التي تخلو من التدافع عندنا.. فلكل واحد من الزبائن شأن يشغل جميع مساحات تفكيره وحواسه ويغنيه عن الانشغال بأي شيء آخر مهما كان.. المتعلمون أيضا مكبوتون.. إذا كنتم تتصورون أن جمهور هذه القاعات لا علاقة له بالعلم والمعرفة، فلتعلموا أن هنالك مثقفون ومن أصحاب الشهادات العليا، يأتون أيضا إلى هذه الأماكن وللغرض نفسه.. حتى نفهم أن الكبت ليس ظاهرة تخص الأميين وحدهم. وهناك من لا يظفر بطرف آخر (شريك) مهما كان نوعه، فهو يكتفي بالممارسة الذاتية (أو ما تطلق عليه العرب جلد عميرة) خاصة في القاعات التي يرتادها (الأوباش).. فما أن ينطلق العرض حتى يبدأ الاندفاع إلى المراحيض.. وكما توجد قاعات مختلطة، توجد أيضا قاعات خاصة بالرجال المثليين مثل قاعة (مارينيو) المتخصصة في عرض أفلام (الإكس) إبتداء من التاسعة ليلا.. وتشتهر بعض القاعات، مثل الخيام، بارتيادها من طرف الطلبة الثانويين من الجنسين أمسيات الإثنين والخميس حيث لا يكون معهم غيرهم. وتذكروا جيدا أن ذلك كله يجري على مرأى ومسمع من مسيري القاعات وبعلمهم.. 20 فيلما لعاصمة الثقافة العربية.. ولكن أين ستعرض؟ تكشف الأرقام المتوفرة لدينا من لدن وزارة الثقافة عن وجود 274 قاعة مغلقة عبر الوطن من بينها 31 قاعة عبارة عن أطلال مهجورة، حيث لا تملك الوزارة منها سوى 17 قاعة، وما تبقى من القاعات (العاملة) تسيره الجماعات المحلية.. وفي لقاء جمعنا به، صرح السيد حاج الطاهر، مدير تطوير وترقية الفنون بوزارة الثقافة، أنه يجري حاليا الإعداد لإنجاز 20 فيلما في إطار تظاهرة الجزائر عاصمة الثقافة العربية، ولكن المشكل الذي سيطرح خلال التظاهرة يتمثل في القاعات التي ستعرض فيها هذه الأفلام؟ والمفروض حسب المقاييس العالمية أن يكون هنالك قاعة على الأقل لكل 20 ألف مواطن، ولكم أن تعرفوا من خلال عملية حسابية بسيطة كم هو عدد القاعات التي يفترض توفرها في بلد يضم أكثر من 33 مليون نسمة، وعاصمة تضم 3 ملايين نسمة. ويضيف حاج الطاهر أن الجزائر كانت في المرتبة الثانية عربيا بعد مصر في مجال الإنتاج السينمائي، واليوم أصبحنا نعرض أفلام الفيديو المقرصنة في قاعات لا تصلح للعرض. ومن جهة أخرى، يضيف محدثنا، فإن عدد القاعات المزمع إصلاحها إلى غاية 2009 يبقى قليلا جدا بالمقارنة مع ما هو مطلوب. وهناك من الخواص من يريد الاستثمار في هذا المجال، غير أن مشكل العقار يقف حجر عثرة أمام هؤلاء. ولهذا، يقول حاج الطاهر، فإنا ندعو الجماعات المحلية لتقديم التسهيلات اللازمة لتشجيع الخواص على شراء القاعات القديمة لإصلاحها أو بناء قاعات جديدة. إن المنتجين ما يزالون يعتمدون على ما تمنحهم الدولة من أموال، بينما المنتج الحقيقي هو الذي يستثمر أمواله هو وأموالا كثيرة. وليس من الضروري أن يكون الإنسان متخصصا في السينما حتى ينتج فيها.. إن الصناعة السينمائية التي نستهين بها نحن ولا نريد أن نمنحها العناية اللازمة، تشكل اليوم في الولاياتالمتحدةالأمريكية مادة للتصدير تفوق الصادرات العسكرية والسيارات. ومن بين كل 04 دولارات تدخل، هناك واحد منها على الأقل يأتي من الصناعة السينمائية.. لا سينما بدون قاعات لا يمكن أن يكون هنالك نشاط سينمائي دون وجود قاعات مطابقة للمقاييس العالمية، لأن السينما هي بالدرجة الأولى قضية توزيع وقاعات. ولا يوجد في العاصمة سوى قاعتين فقط مطابقتين للمقاييس هما (الجزائرية) و(المڤار). ومن هنا، يقول أحمد بجاوي: "إن بعث السينما يمر بالضرورة عبر استرجاع وإعادة تهيئة القاعات. وهنا يجب على الدولة أن تدفع ثمن الأضرار التي تسببت فيها. هناك 100 قاعة يمكن استرجاعها بشرط التعاون والتنسيق مع وزارة المالية. لقد اقترحنا على الوكالة الوطنية لدعم تشغيل الشباب، إسناد تسيير القاعات المسترجعة إلى مقاولين شباب، ومن هنا فكرنا في إنشاء (معهد التكوين في مهن السمعي البصري) لأن هذه المهن بدأت تضيع. كما اقترحنا على صناع القرار في البلد أن يقدموا تسهيلات مالية وضريبية للقطاع الخاص لدفعه للاستثمار في السينما التي تعتبر قطاعا يوفر الكثير من مناصب الشغل، حيث كان يشغل 3500 شخص بشكل مباشر. ثم هناك التوزيع الذي يوفر للدولة قدرا كبيرا من الجباية.. إنه قطاع صناعي وتجاري بامتياز، وأتصور أن المسألة متعلقة قبل كل شيء بالإرادة السياسية. لقد أثبتت السينما الجزائرية مدة 25 سنة أن بإمكانها تمويل نفسها بنفسها. ولكن بعد غلق القاعات وإسناد تسييرها لأشخاص جهلة لا علاقة لهم بالتسيير، هذه العوامل كلها ساهمت في تدهور وضعية السينما". وكانت وزيرة الثقافة خليدة تومي قد وعدت في منتدى التلفزيون بإصلاح 120 قاعة. وفي انتظار ذلك نترك بقايا القاعات تساهم في التنفيس عن مكبوتات بقايا الشباب والكهول والشيوخ، على الأقل حتى لا يلجأوا إلى الانتحار.. شر أهون من شر..