اشتكى كثيرون من حملة الفكر من مرض "التجاهل" الذي ينتشر بكثرة طاغية في الجزائر، وقد كتب عن بعض أعراضه الفيلسوف مالك بن نبي الذي كان هو الآخر أحد ضحاياه، فصاحب "مشكلات الحضارة" وجد نفسه ضحية "إسلاميين" قاطعوا اللغة الفرنسية التي يكتب بها، وبين "مُفرنسين" قاطعوا مضمون أفكاره، قبل أن يعتني المشارقة بتراثه ويترجموه إلى اللغة العربية حتى يعيد الجزائري اكتشافه ككاتب مستورد لا كإنتاج محلّي! * ووفق هذه المعادلة ذاتها، جاءت وفاة الفيلسوف الجزائري محمد أركون لتفضح، مرة أخرى، بؤسنا الثقافي الذي نمارسه في الجزائر، بين سلطة لا مكان في جغرافيتها للفكر التنويري والنقد وإعمال العقل، وبين إعلام غاب الفعل الثقافي الحقيقي عن دائرة اهتماماته، وبين ساسة يتقمصون أدوار المعارضة والموالاة ويحتقرون العقل الذي يفضح ألاعيبهم كما يفضح العالِم الخبير الحُواةَ، فهم يخدعون العامة ويشترون أصواتهم بوعود وآمال مؤجلة إلى حملة انتخابية أخرى، وبين ناشرين لا يلتفتون للثقافة إلا إذا كانت مشروع استرزاق يفتح لهم أبواب النهب المُقنّن للمال العام، باسم الكتاب ومهرجانات الريع ومشاريع الكتب التي قد لا يقرأها أحدٌ. وإذا احتفى بهذا الفيلسوف مفكرو الشرق والغرب، واقتربوا منه ومن كتبه ينهلون من معارفه ونظرياته، ويستفيدون منها خالفوها أم وافقوها، فإن بلده جار عليه مرتين.. مرة بتجاهله والتكتم عليه في الحياة، ومرة بمواصلة فرضه الحصار عليه حتى بعد الوفاة، فلم يستحقّ أن يُنعى في أي وسيلة إعلامية رسمية، وهو الذي أوصى أن يُدفن في الجزائر رغم أنها قاطعته وعادته، مُردّدًا شعار الحُكماء قبله: (بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ * وقومي وإن هانوا، عليّ كرامُ) انطفأت شمعة محمد أركون، وهو الفيلسوف الحر الذي حاول أن يجيب عن بعض الأسئلة المتعلقة بسؤالات النهضة وفق ما أداه إليه اجتهاده، فرثاه جمع من المثقفين، وتنكر له الباقون: في أبراج الساسة الذين فقد الناس إيمانهم بهم، وفي أوساط المتدينين الذين فرحوا بموته كما يفرح المؤمنون بنصر الله! وفوق كل هذا أجهزت عليه السلطة بحصار فرضته عليه.. من الحياة إلى الممات. أركون لم يكن المُخلّص الذي يدّعي امتلاك الحقيقة المطلقة، كان رجل التساؤلات الذي يستنطق العقل ليتدرج به من عالم الشك إلى برد اليقين، في حين أن الجزائر تفقد يقينها بنفسها كل يوم، وتنتقل إلى عوالم الشك المظلمة التي لا تبشر بخير.