الطاهر وطار أول من استعمل الكمبيوتر بالعربية في الجزائر الحلقة الثالثة * من الحلقة الماضية موقف آخر جلب للروائي الطاهر وطار هجمة شرسة لم يكن يتوقعها إطلاقا. هذه الهجمة جاءت كرد على موقفه من اللغة الأمازيغية بعد نشره في أسبوعية "الجزائر الأحداث" التي كانت تصدر باللغة الفرنسية موضوعا تحت عنوان "في الأمازيغية وأشياء أخرى" وكان لي شرف ترجمته. الصحف المعربة ولم تكن كثيرة آنذاك رفضت نشر الموضوع لكنها ردت عليه بقساوة وعنف وأحيانا بلهجة غير لائقة. * فتسارعت الأقلام التي لم تبرز قبل ذلك الحين لتكشّر عن أنياب أصحابها علهم ينالون شهرة من خلال تهجمهم على روائي بمستوى الطاهر وطار. حتى من لم يقرأ المقال مثل أحد الزملاء وقد عرفته في مدرسة الصحافة والذي لا يفقه شيئا في اللغة الفرنسية ولم يعمل يوما واحدا كصحفي فتحت له جريدة "الشعب" أعمدتها للهجوم على الطاهر وطار ولا أريد ذكر هذا الشخص حتى لا أشرفه وأنا أتحدث عن إيقونة الأدب الجزائري. تجاهل الطاهر وطار خصومه ورفض أن يعيرهم أدنى اهتمام إلى أن نشر محمد عباس مقالا لم أجد فيه شخصيا كلاما جارحا ولكن ما أزعج وطار جملة في المقال يصفه فيها محمد عباس بالصديق. عندئذ رد الطاهر وطار بمقال عنونه ب "لست صديقا لمحمد عباس". كان أول مقال ينزل على جريدة "الشعب" وهو مكتوب بآلة الحاسوب فكانت فرصة لخصومه ليكشفوا عن مستواهم الحقيقي لما راحوا يعايرونه في ردودهم باستعمال الكمبيوتر. مواكب الحداثة ومروّض الكمبيوتر اندهش وطار لما قرأ رد جريدة "الشعب" التي تعيب عليه مواكبته للعصرنة. هذه المواكبة التي كنت شاهدا عليها منذ لحظتها الأولى عند اقتنائه لأول حاسوب وكان ذلك في سنة 1986 إن لم تكن الذاكرة قد خانتني. بمجرد امتلاكه للآلة العجيبة اعترضه مشكل اللغة في ترويضها حيث كانت كل الوثائق باللغة الإنجليزية. تعاونّا على ترجمتها وفكّت العقدة في بدايتها. ولكن العائق الأكبر هو أن جهازه لا يكتب إلا بالحروف اللاتينية فلم يكن يوجد في ذلك الوقت لوحة مفاتيح باللغة العربية. فعمل جاهدا على تعريب الكمبيوتر واستنجد بأحد الأصدقاء الضالعين في الإعلام الآلي، وهو السيد سليماني الذي كان أستاذا بمركز الأبحاث للإعلام الآلي بواد السمار. وبمساعدة هذا الأستاذ الذي كان يتردد على بيت الكاتب بانتظام حتى تمكّن من تحقيق غايته. هذه الآلة العجيبة التي كانت تشغله صباحا ومساء وتبدي عنادا مستميتا في رفض التعريب استسلمت في نهاية الأمر ورسم بها الحرف العربي. إلا أن قراءة الحروف العربية تتم من اليسار إلى اليمين مثلما نقرأ الفرنسية. فيضع مرآة عاكسة ليقرأ الجمل القليلة التي يكتبها وهو يكاد يطير فرحا. ففي ظنّي أنه أول من استعمل الكمبيوتر بالعربية في الجزائر. رسم الحروف العربية وقراءتها من اليسار إلى اليمين كانت خطوة مشجعة للروائي في مواصلة ترويضه للكمبيوتر. وبعد قرابة الثلاثة أشهر توصل إلى كتابة العربية من اليمين إلى اليسار وهو في نشوة لا يمكن تخيلها أبدا. لم يكن الأمر بالسهولة التي نتصور. ففي ذلك الوقت لا توجد الأقراص المضغوطة ولا البرامج التي تمكن من استخدام الكمبيوتر كما تشاء. كان يتم تسجيل ما يكتب في الحاسوب على أشرطة مغناطيسية. ويستعمل جهاز الراديو المزدوج بقارئ الكاسيت لتسجيل الأعمال التي ندخلها فيه. والخلاصة هو أن الكمبيوتر في منتصف الثمانينات كان شيئا غريبا على جلّ الناس فالكثير يتصور أن كلمة "انفورماتيك" مادامت تنتهي ب "يك" فإنها مثل الميكانيك مما يعني أنها تشبه ميكانيك السيارات هذا ما رواه لي صديقي وزميلي أنور مالك عندما تمّ اختياره لدراسة الإعلام الآلي في المرحلة الثانوية. وحتى يرضي نفسه باستغلال هذه الآلة استغلالا حسنا والتي صعب تعريبها في البداية استعملها الطاهر وطار لبرمجة ميزانية البيت وتخزين عناوين أعماله ومقالتين نشرهما بالفرنسية وهي "في الأمازيغية وأشياء أخرى" التي سبق الحديث عنها، و"قسنطينة حبيبتي" التي نشرت بجريدة "لومانيتي" يومية الحزب الشيوعي الفرنسي. لم تمض سوى أشهر قليلة إلا وبالروائي الطاهر وطار قد تمكن من تعريب حاسوبه ليجعل منه رفيقا لا يفارقه إلى آخر أيامه. وهكذا أضاف إلى الصيد البحري هواية الإعلام الآلي. ولما تم تعيينه على رأس الإذاعة الوطنية سنة 1990 سارع إلى رقمنة تسيير الإدارة معطيا أهمية قصوى للإعلام الآلي وأصبحت الإذاعة الجزائرية أولى المؤسسات في البلاد التي يدخلها الإعلام الآلي بقوة. الجاحظية..البيت مقرا و منحة التقاعد لتسديد النفقات وبصدد الحديث عن تعيينه مديرا عاما للإذاعة الوطنية وكنت شاهدا على هذا الحدث الذي لم يكن ينتظره. حيث كان مشدودا بإنشاء جمعية الجاحظية فلم يكن يتوقع أن تسند له مسؤولية بهذا الحجم ويوم استشارني في العرض الذي تلقاه حتى وإن كنت أنا الآخر متفاجئا شجعته على قبول المهمة وأن يدخل معتركا جديدا وهو التسيير. ولكنه تردد كثيرا خشية من أن يفقد الجاحظية وإن لم يكن باستطاعته توفير الوقت اللازم للسهر عليها وهي لا تزال في المهد. فإذا كانت ابنته سليمة قرّة عينه التي يكن لها مقدار حب لا تضاهيه أي ثروة، أخذت الجاحظية في قلبه موقع البنت الثانية. وكيف لا وهي التي أنشأها لتسد عليه الفراغ الذي فرضه عليه التقاعد. فمهما حاول أن يشغل نفسه بمختلف النشاطات كان يشعر بالحاجة إلى أداء مهمة تكون في صالح المجتمع والوطن. وهكذا انصب تفكيره في إنشاء جمعية ثقافية منطلقا من نقطة الصفر ليخلق من اللاشيء شيئا. لم يكن من حوله رجال للاعتماد عليهم ولم يكن له إمكانيات مالية كافية ولا مقرا لإيواء هذه الجمعية. كان ذلك تحدّي عليه أن يرفعه ب "تغنّانت" الشاوي الذي عندما يصمم على إنجاز عمل يحققه ولو يقتضي الأمر هدم جبل فلن يتردد ولو كان لا يملك سوى مطرقة. بالنسبة للمقرّ حل المشكل بتسخير جزء من بيته في انتظار ما ستسفر عنه الطلبات التي قدمها للسلطات المحلية لولاية الجزائر. أما العون البشري فوجده كالعادة لدى زوجته الوفية والمتعودة على مشاطرته كل نشاطاته. وماليا سدد نفقات بداية المشوار من منحة التقاعد المتواضعة التي كان يتقاضاها. وشيئا فشيئا ومع التفاف بعض المثقفين حول مشروعه ومن ضمنهم المغفور له يوسف السبتي الذي شغل منصب الأمين العام للجمعية والأستاذ منور الذي كان أمين المال والأستاذ مخلوف بوكروح وغيرهم. بدأت الجاحظية تبرز للوجود ولكن من دون مقر رسمي. فبعد إرسال الطلبات للسلطات الولائية التي لم تعره أي اهتمام وهذا حال مدينة يحكمها الجهلة أو أعداء الثقافة والإبداع، اتصل برئيس الحكومة مولود حمروش الذي عيّن حديثا في منصبه. كان رد المسؤول جد مشجع حيث طلب مقابلته وفي خضم الحديث عرض عليه أن يشير بسبابته إلى أي محل شاغر حتى يمنحه للجمعية. بضعة أيام بعد لقائه برئيس الحكومة الذي أثر فيه كثيرا معتبرا أن الدولة أصبحت تولي أهمية للثقافة أشار الطاهر وطار إلى محلات مسرح الهواء الطلق الكائن بمحاذاة فندق الأوراسي والتي كانت شاغرة منذ أمد طويل. لكن تدخل بعض الناس من عشاق الركود والجمود وضع حدا لطموح الروائي. وفي نهاية المطاف لجأ الطاهر وطار إلى تأجير شقّة بنهج بيشون قرب ساحة موريس أودان بقلب العاصمة. بضعة أشهر من بعد استفادت الجاحظية من محلّ جعلته مقرّا لها. وعند زيارتنا له في المرة الأولى سألت الطاهر وطار: "كيف له أن يحول الخربة من مأوى للفئران والجرذان إلى مقرّ لجمعية ثقافية؟" كان ردها سريعا: "خليس، نحمد الله على التفاتة الولاية بمنحنا هذا المحل وسنجعل منه عن قريب منارة للثقافة في الجزائر". وهذا ما نلاحظه اليوم ويعرفه الجميع. قصة الخلاف مع الطاهر جاووت "عندما يسقط الثور تكثر السكاكين" يقول المثل الشعبي الذي ينطبق على بعض الأقزام الذين يجهلون الحديث الشريف القائل "واذكروا موتاكم بخير". وفاة الروائي الطاهر وطار أطلقت العنان لبعض المتطفلين الذين يسعون للشهرة من خلال التطاول على رجل هو اليوم بين أيادي مولاه العلي القدير . فمن دون حياء (وهل يعرفون الحياء؟) وبوجوه ملطّخة بمياه المستنقعات التي غطسوا فيها أقلامهم راح هؤلاء الأقزام ينبشون في قبر رجل كانوا يخشون رفع أعينهم أمامه. ذريعة هؤلاء الجبناء للتهجم عليه وهو في قبره قول الطاهر وطار أن رحيل الطاهر جاووت يعتبر خسارة لأصدقائه ولفرنسا. كلمة قالها الطاهر وطار بكل قناعة ولها أسبابها التي سأسردها كما عرفتها ولم تكن تنمّ عن حقد دفين أو غيرة أو اختلاف في الرأي كما ذهب البعض. حتى وإن كان من واجبي الدفاع عن صديق عزيز ربطتني به علاقات تجاوزت حد الصداقة إذ كنت فردا من أفراد عائلته، أرفض الرد على هؤلاء الأقزام لأن الانحناء إلى مستوى نعلي يسبب لي وجعا في الظهر. ولكن حتى يعرف عامة الناس ومن خلال هذه الجريدة الأكثر انتشارا عربيا ووطنيا أسرد الأسباب التي دفعت الطاهر وطار إلى ذلك الموقف من جاووت. كنت أشرف على أول جريدة جهوية مستقلة أنشأتها في شرق البلاد عندما اتصلت هاتفيا بالسيد الطاهر وطار لأطلب منه كلمة رثاء في الأديب الطاهر جاووت بمجرد أن بلغني نبأ الفاجعة. وإذا به يفاجئني بقوله: "أعفيني من هذا، خليس، ليس لي كلمة رثاء فيه" فسألته عن السبب أجابني: "الطاهر جاووت خسره أصدقاؤه وفرنسا وليس لي ما أعلق به" وهنا تذكرت ذلك اليوم الذي عاد فيه الطاهر وطار من فرنسا حيث شارك في ملتقى حول الرواية الجزائرية نظمه معهد العالم العربي بباريس. أثناء الملتقى وزّع كتيب يحتوي على مجموعة قصصية لروائيين جزائريين. والغريب في الأمر أن أصحاب القصص المنشورة كلّهم كتّاب باللغة الفرنسية. فاحتجّ الطاهر وطار لدى المنظمين مذكرهم أن الجزائر استقلت عن فرنسا منذ 1962 ولها روائيين يكتبون باللغة العربية وترجمت أعمالهم للغة الفرنسية. فما كان من المنظمين إلا أن اعتذروا شارحين له الموقف حيث أنهم فوضوا أمر إنجاز الكتيب للطاهر جاووت ومولود عاشور لانتقاء القصص التي نشرت. ولم يقدم الطاهر جاووت أدنى اعتذار للروائي وطار إلى درجة انه احتقره كونه يكتب بالعربية. ولا داعي أن أذكر ما جاء على لسان جاووت حتى لا أصبح من نباشي القبور. هذه الحادثة جعلت الطاهر وطار يصنف الطاهر جاووت في خانة أصدقاء فرنسا. وما العيب أن قال أن رحيل الطاهر جاووت خسارة لأصدقائه مثلما هو الحال بالنسبة إليه إذ نحن أصدقاء الطاهر وطار نعتبر رحيله خسارة لنا وأن يقول أن رحيل جاووت خسارة لفرنسا فما العيب أن كانت له صداقة مع فرنسا في زمن يتلهف فيه آلاف الجزائريين على الجنسية الفرنسية ومن ضمنهم من يتهجمون اليوم على الطاهر وطار بسبب هذه المقولة. أذكر أن الطاهر وطار لم ينزعج يوما لما شاع عنه أنه صديق الروس والاتحاد السوفيتي. بل اعتز بصداقته لهذا البلد الذي كان يستضيفه باستمرار وترجم أعماله للروسية والأوكرانية وغيرها من اللغات المتداولة فيه. وما يحزّ في نفسي أن من ينبش اليوم في قبر المرحوم لم تكن له خصومة معه لما كان على قيد الحياة ولا نزاع ولا أدنى مشاكسة. بالعكس لم أسمع كلمة سوء من الذين تناطحوا مع الطاهر وطار في حياته مثل واسيني لعرج، رشيد بوجدرة و الطاهر يحياوي و محمد عباس الذي أصبح فيما بعد صديقا له وعضو جمعية الجاحظيّة وهذا دليل على أن الطاهر وطار كان سبعا ولا ينازعه إلا السباع ولم يخاصم يوما الجرذان الذين خرجوا اليوم من جحورهم. نوافذ للمقال * لم يقدم الطاهر جاووت أدنى اعتذار للروائي وطار إلى درجة انه احتقره كونه يكتب بالعربية. ولا داعي أن أذكر ما جاء على لسان جاووت حتى لا أصبح من نباشي القبور * وفاة الروائي الطاهر وطار أطلقت العنان لبعض المتطفلين الذين يسعون للشهرة من خلال التطاول على رجل هو اليوم بين أيادي مولاه العلي القدير * إذا كانت ابنته سليمة قرّة عينه التي يكن لها مقدار حب لا تضاهيه أي ثروة، أخذت الجاحظية في قلبه موقع البنت الثانية. وكيف لا وهي التي أنشأها لتسد عليه الفراغ الذي فرضه عليه التقاعد