خلال الأيام التي قضاها الكاتب الطاهر وطار في بيت الصحافي محمد الزاوي في الضاحية الباريسية، عايش الزاوي عن قرب معاناة الرجل ومقاومته للمرض، مثلما صوّرت كاميرا الزاوي تفاصيل حياتية حميمية للطاهر وطار، هي مشروع فيلم وثائقي ستطعّم بشهادة شخصيات من باحثين ونقاد جزائريين وأجانب· وهذه شهادة لمحمد الزاوي عن الكاتب الطاهر وطار· حتى يرتاح من أتعاب المستشفى، وقبل أن أرافقه في سفره الأخير من باريس إلى الجزائر، وافق عمي الطاهر على فكرة أن يقضي أياما معنا في مونفرماي بالضاحية الباريسية، فكان الأسبوع الذي قضاه معنا فرصة لكي أتعرّف عن قرب على وطار الإنسان، وأن أقتحم جزءا من عالمه الشخصي الذي تبدو جليا فيه عصاه المنحوتة التي يلقبها باسم أوباما· لقد أصبحت العصا علامة مميزة تلازمه مثل ''البيري'' الذي لازمه لعقود فعلى رأس عصا عمي الطاهر المنحوتة، يبرز حيوان غريب يشبه القط أو الكلب الأسود، ويستعمل عمي الطاهر هذه العصا للمساعدة، ويبدو أن خلف هذا الاستعمال شغف وطار بملاحم وأساطير العصا قد يكون له علاقة بعصا موسى عليه السلام، أوعصا الجاحظ... عصا وطار ملفتة للنظر، لفتت نظر إبنتي ياسمين (6 سنوات) التي كانت كلما اقتربت من عمي الطاهر، بدأ كاتبنا في محاورة ''العصا أوباما'' ونسج قصة معها، وشيئا فشيئا تغيّرت نظرة ياسمين إلى العصا، فقد أصبحت بالنسبة لها عصا سحرية... بعد أسبوع من تواجد عمي الطاهر بين العائلة، ألفته إبنتي مثلما ألفت عصاه أوباما، بل إنها أصبحت تفرش للعصا فراشا على الأرض ثم تبدأ في محاورتها . كنت أراقب كل حركات إبنتي وأرى تلك العلاقة القوية التي بدأت تربطها بعمي الطاهر وبعكازه، أما عمي الطاهر فقبل مغادرته العائلة فإنه أهدى لياسمين هدية ثمينة بمناسبة احتفالها بعيد ميلادها، وقدمت له ياسمين قبلها رسومات جميلة مليئة بنبض الحياة... ولذلك يجب القول بأنه منذ دخوله المستشفى في باريس أظهر عمي الطاهر قوة في التشبث بالحياة بالرغم من المرض، بل كان لا يريد أن يفقد أي خيط يربطه بالحياة، مقاوما كل الأمراض التي أخذت مكانا لها في جسده بالقبول بذلك براحة بال... كان يتقاسم أفراح الناس داخل المستشفى، شهادة بسيطة ولافتة للنظر: أنه في يوم عيد الأم اشترى كعكعة كبيرة للعاملات والممرضات في المصلحة التي كان يتداوى بها، ما أثار غبطة العاملات... وكنت أنا أحيانا أتسلل بكاميرتي إلى الغرفة التي كان بها... بين الحين والحين الآخر أصوّر تلك اللحظات الإنسانية النادرة لكاتبنا، لن يكون بمقدوري التقاطها في الظروف العادية، إلتقطت بعض اللحظات التي تُظهر وطار في توحد مع ذاته ومع الكون، وفي كل ما يرجعه إلى الأشياء الخاصة بكل تفاصيلها، من ذكريات في الشاطئ المهجور إلى العودة إلى الطبيعة الأوراسية... في الأيام الأولى التي دخل فيها المستشفى، كان أول شيء طلبه مني هو أن أشتري له منبها، فالمنبه إصرار الكاتب للتحكم في الزمن، وقد برر لي ذلك بقوله ''حينما أكون في مكان لا زمن فيه أشعر بالانعدام، أشعر بغيابي حتى عن المكان، في بيتي أنا حوالي ست ساعات حائطية، وحينما كنت مديرا عاما للإذاعة الوطنية جعلت في كل مكتب ساعة وفي كل رواق ساعة''. لقد صوّرت في البيت كل تلك اللحظات التي تربطه بالوقت، بالماضي، كان يتحدث لي ممدودا على الأريكة وهو يستمع من جواله أحيانا إلى عيسى الجرموني، بفار حدة أو بورقعة ..تغرورق عيناه وتضطرب وجنتاه بسماعه إلى مغنيين صنعوا وهج عواطفه في طفولته. ايا بنت عمي الداء ساكن بين الكبدة والكلاوي، إذا أدواية عندك، إذا ما أداونيش أداني''. يردد وطار المقطع ثم يقول ''أنا دائي أيضا في الكبدة والكلاوي.. هناك تناصص مع التراث، ويضحك... وأعود هنا إلى موقف في الأيام الأولى التي دخل فيها عمي الطاهر المستشفى كنت أذهب فيها مع الصديق الشاعر عمار مرياش لزيارته، ومن بين ما قاله لنا وطار حول المرض والموت إنه يستقبل الأشياء براحة بال، يستقبل حتى فكرة الموت بحالة فنية ويعتبرها تجربة ديمقراطية يتم فيها التداول، يترك فيها جيل لجيل آخر المكان... ويستمر في الاستماع إلى مواويل ارتجالية يصحبها الناي والبندير مع عيسى الجرموني، كلمات بسيطة جدا لكنها عميقة وقوية ..ثم يستمع لسيدة الغناء عند الشاوية، بفار حدة، في أغنية ''جبل بوخضرة جاك الطاليان لكسر الحجرة''..لقد ماتت بفار حدة وهي في الدرك الأسفل من الفقر والميزيريا أغان رضعها وطار في طفولته في الفضاءات المخصصة للرجال.·· صمت طويل.. ولحظة بلحظة يتذكر عمي الطاهر طقوس الاحتفالات في نواحي مداوروش، عين البيضاء وسوق أهراس: الخيل والبارود، وأصوات القصبة والراقصة ..يعود وطار بذاكرته إلى الأماكن التي كانت أصلا مربضا للحيوانات، ثم تنظف وتغسل لتنظم فيها الأعراس: يبدأ عمي الطاهر في وصف خروج الراقصة: ''تخرج الراقصة كالمهرة، والعرق يتصبب منها، وهي خجولة بعض الشيء وتضرب الأرض بركبتيها، وتهز محزمها وتخفضه، ويتعالى البارود..·'' ترجع ذاكرته إلى عهد الصبى حينما التقت نظراته بشابة وسنه لا يتجاوز التسع سنوات: ''كانت تلبس مريولا ورديا، وهي في جناح الإناث وأنا في جناح الذكور، وكنا نتبادل النظرات'' ..تتوالى أغاني بفار حدة من جواله: من صابني برنوس وإلا خيط حرير في برنوسو ثم ينظر إلي وطار ويقول: ''هذا التراث هو أحد مراجعي الأساسية في صناعة لغة الرواية''، ولذلك فإن عالم وطار الروائي مفعم بهذه اللغة الشعرية العامية وبهذه العواطف التي نشأت وترعرت معه منذ الطفولة في مكان له أهميته الخاصة عند الكاتب، فهو جزء من وجدانه والوجدان عند وطار ''هو مكون الروح وخلايا الروح وإذا ما تجرد الكاتب عن وجدانه فقد كل شيء، فقد صلاته بنفسه وبالناس وبالحب''... في اليوم الرابع يخرج وطار إلى حديقة بيتنا، فنجري حوارا طويلا مصورا حول تجربته الروائية والإنسانية، ننطلق من سؤال: لماذا يكون المرء مبدعا وما هي الجينة التي يحملها في دمه حتى يصير مبدعا؟ وكيف يتجه نحو نوع من الإبداع فيكون مغنيا أو موسيقيا أو شاعرا أو يكون رساما أو ممثلاوفي هذا اللقاء المصوّر كشف الطاهر وطار أنه حاول شخصيا أن يغني، ولكن لم تكن أذناه موسيقية ولم يكن صوته جميلا، وأنه حاول العزف على القصبة، ولكنه لم يفلح وحاول أن يكون شاعرا ولم ينجح، ولكن نجح أن يكون كاتب رواية، وأن الكتابة تأتي عنده من انفجار بركاني داخلي، وهذا البركان يأتي بما تشكل منذ أن صرخ وخرج من بطن أمه، وعلى ذكر الأم قال لي وطار بأن عوامل تتدخل لتوجه عاطفة المرء فتجعلها حساسة أو تجعلها بليدة أو تجعلها مرهفة ومنها عامل الوراثة الذي -حسبه- يتدخل في تحديد هل بإمكان المرء أن يكون مبدعا أو لا يكون؟ فقد كانت والدته حساسة ومرهفة، ولها صوت جميل وأيضا في أسرته كان له خاله راقص بامتياز ''كان خالي يرقص في الأعراس، ويرحب في الأعراس، ترك له أبوه ثروة كبيرة فأهملها وأضاعها، وبقي يلف من عرس إلى عرس، يشتري حذاء في المساء وفي الصباح يرميه لأنه يمزقه من جراء ضربات رجله على الأرض''. يفتح عمي الطاهر جواله، يطلع صوت الفصبة، بيديه يضرب تعبيرا عن تأثره، تغرورق عيناه وتضطرب وجنتاه. يصمت طويلا ثم يقول لي: اهذا مديح ولكن يرقصون عليه، إيقاعه راقص''.. بعد صمت طوي لمن استماعه للأغنية، يقول عمي الطاهر: ''أنت تكون في حالة موت وتسمع إلى هذا الكلام.. إنها أغانٍ تصفي الروحب.. ذكريات وتصورات تعود بكاتبنا الطاهر وطار إلى قريته مداوروش وعواطف تعود مع ذكريات البارود والخيل والبرنوس مع أصوات عيسى الجرموني، بورقعة وبفار حدة ... هذه بعض اللحظات التي عشتها مع الطاهر وطار، وقد لفت انتباهي أنه قبل رحيله من بيتنا وهو مسافر إلى الجزائر، طلب مني قص جذور فاكهة لفتت انتباهه في حديقة منزلنا ألا وهي شجرة الشمش الأحمر groseille التي أراد تجريب غرسها في حديقته في الجزائر، فللون الأحمر مكانة وعلاقة رمزية خاصة عند صاحب رواية ''اللاز''.. وأنا وعائلتي سعداء باستقبال كاتب الجزائر الكبير الصديق الطاهر وطار··· رحمه الله... ------------------------------------------------------------------------ رحيل متنبي الرواية الجزائرية ·· وما عسانا نكتب الآن بعد رحيل متنبي الرواية الجزائرية، الأديب العالمي الطاهر وطار، رحمه الله وأسكنه فسيح جنانه·· القلب يحزن، والعين تدمع، والقلم تجمد حبره، في هذه اللحظة الحرجة الحزينة، أضطر إلى الاستنجاد بما كتبه منذ عام، ونشرته بجريدة صوت الأحرار، وبموقعي أصوات الشمال وديوان العرب، في أواخر سبتمبر من السنة المنصرمة تحت عنوان بارز ''وطار وجائز نوبل''· ·· ولماذا لا يطمح أديبنا القدير: الطاهر وطار عميد الرواية الجزائرية في نيل جائزة نوبل للأدب، خاصة بعد فراغ مقعدها العربي؟·· هكذا تساءل صاحبي العزيز المعزز وهو يرشف قهوته الساخنة، فرد مرافقنا الطيب الأمين: هذه الجائزة المحبوبة والمرغوبة والملعونة تعرف اسم صاحبها، ولون بشرته وفصيلة دمه وعرقه، ولذا، لا ننتظر هذه المرة حصول المفاجأة، ولكن يكفينا فخرا بأديبنا الطاهر وجهوده المثمرة المستمرة عبر نصف قرن في خدمة الأدب والصحافة والثقافة والنضال الوطني؟·· طويت صحيفتي اليومية المشرقة و المشرفة، بعد أن قرأت الحلقة العشرين من رواية أديبنا الطاهر وطار: قصيد في التذلل، واستوقفتني فقرتها الرابعة حيث يقول على لسان أحد أبطاله: أخبار الأدباء والكتاب والفنانين، وطرائفهم وذكرى وفاتهم، تتعلق كلها بالفرنسيين والفرنسيات·· ومن حين لآخر يظهر اسم كاتب ياسين أو محمد ديب··· وقتئذ، عاد بي شريط الذكريات إلى تلك الأيام الزاهية من الزمن الجميل، عندما أجريت أول حوار شامل مع أديبنا وطار، ضمن برنامج دنيا الأدب بإذاعتنا الوطنية في منتصف شهر جوان 1970 إثر صدور مجموعته القصصية ''الطعنات''، ثم كتابتي لأول مقالة نقدية مطولة بجريدة الشعب بتاريخ 4 سبتمبر 1970 بعنوان: الطعنات ونضال الكلمة، وقد نشرت كاملة بكتابي ''بصمات وتوقيعات''، الذي صدر ضمن منشورات وزارة الثقافة الجزائرية· وأتوقف لحظة عند تجربتي معه في جريدة الشعب الثقافي، التي كانت تمثل التيار الجديد المتقدم في الأدب والصحافة والثقافة، طوال سنتين، من جوان 1972 إلى مارس 1974 أنتجت 42 عددا متميزا ومختلفا في ظل هيمنة وثقافة الحزب الوحيد· أتذكر جيدا اللقاءات التي جمعتني به هنا وهناك، والحوارات التي أجريتها معه، على فترات متقاربة ومتباعدة، ونشرت بعضها خارج الوطن، بتفويض خاص منه لتعميم الفائدة· وعندما أعود إلى مكتبتي الخاصة، كثيرا ما أعيد قراءة أعماله القصصية والروائية، ومعظمها تحمل توقيعه الشخصي، أشعر بقيمته الأدبية الرفيعة· وكلما تتاح لي فرصة زيارة عمنا الطاهر في منزله أو في جاحظيته، أسترجع معه شريط الذكريات بحلاوتها وقساوتها، فالأيام تتغير، وما يبقى في الواد غير حجاره· أتجاذب معه أطراف الحديث عن مستجدات الأدب والصحافة، وعن هموم الساسة والسياسة، لتتأكد لديّ مواقفه الثابتة في الدفاع عن البعد الحضاري العربي الإسلامي لجزائرنا الخالدة· رحمك الله يا أديبنا الكبير الطاهر وطار، فكتاباتك الأدبية ونشاطاتك الثقافية، تظل منارة للأجيال الحاضرة واللاحقة· هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته