الحلقة الأولى إن عايشت أو لم تعايش فترة حكم الرئيس الهواري بومدين، فحتما تعرف عنه أنه كان رجلا قويا وزعيما محنّكا وقائدا رشيدا. شخصيته الفذّة الخارقة للعادة اعترف بها العدو قبل الصديق. هذه هي الصورة التي تتناقلها الأجيال بشكل استثنائي عن العقيد الهواري بومدين، بقيت ترمز إلى جزائر العصر الذهبي وأيام العزّة والكرامة، أيام العمل والصرامة، أيام كانت للجزائر شنبات ترتعد لها فرائص الدول العظمى. لأنها لا تشبهها إلا شنبات الرئيس الهواري بومدين الذي يلقبه الجزائريون ب"الموصطاش" تعبيرا عن مودّتهم وحبّهم له واعتزازهم بشخصيته القوية وبرجولته وشهامته ومروءته. * إن كنّا نعرف الرئيس والزعيم على هذه الصورة، فماذا نعرف عن الرجل كإنسان له أحاسيسه ومشاعره وميولاته، مثله مثل عامة الناس؟ ماذا نعرف عن تعامله مع أقربائه وعن حياته الشخصية التي كان حريصا كل الحرص على عدم الكشف عنها. فظلت من الأشياء المبهة والمجهولة في مسار زعيمنا؟ فحتى اسمه الحقيقي، محمد بوخروبة، لم يكن متداولا، دفعا لكل الأطماع التي قد تسري إلى بعض حاملي لقبه الذين قد تدفعهم الانتهازية أو حتى الغرور في استغلال صلة القرابة من أجل النفوذ وتحقيق المكاسب. وكان الكثيرون من الشعب يجهلون تاريخ ومكان ازدياده. وكان يجيب على كل من يسأله حول تاريخ ميلاده من أنه ولد مع الثورة. * ثلاثة وثلاثون حولا مرّت على رحيله الذي أبكى الملايين من الجزائريين وبقيت جوانب كثيرة من شخصيته خافية عنا إلى يومنا هذا. فمن باستطاعته أن يكشف عن هذه الجوانب غير أقرب المقربين منه، ومن هو الذي يعرف أكثر مما تعرفه زوجته التي كانت هي الأخرى تعتبر سرّا من أسراره. فكانت ولا زالت إلى يومنا هذا عرضة للدعايات المغرضة والأساطير الواهية من طرف أولئك الذين يحقدون على من أرسى بنيان الدولة الجزائرية المعاصرة ورفع هامتها خفّاقة في كل أرجاء الدنيا. * تنبّأ بومدين لظاهرة "الحرقة" في 1974 * ليس من السهل أن تفتح لك أنيسة بومدين قلبها لتكشف لك عن أسرار أعظم رجل عرفته الجزائر عبر التاريخ. فبحكم علاقتي بها منذ مطلع التسعينيات، اكتسبت خلالها باعتزاز ثقتها التي ليس من الهيّن أن تمنحها لكل من هبّ ودبّ. لذلك تجرّأت أن تأذن لي بالإبحار في عالمها الخفي الذي تقاسمته مع الراحل الهواري بومدين رحمه الله. لم تتردد سيدة الجزائر الأولى خلال السبعينيات في تلبية طلبي، خاصة على صفحات جريدة قوية مثل "الشروق" لتجيب على ما يدور بخاطري طيلة الحديث الذي جمعنا لمدة تجاوزت الخمس ساعات. وحديث ثاني دام أكثر من ثلاث ساعات سألتها خلالها عن كل صغيرة وكبيرة عن حياة المغفور له، بإذن الله، الهواري بومدين. بل عادت والمرارة تغص حلقها إلى سنوات السبعينيات التي لازالت خالدة في ذاكرتها فترسم معالم الحزن الذي لا يغادرها أبدا. كانت بدون شك أبهى وأعزّ فترة في حياتها. وكيف لا؟ فهي المرحلة التي عاشتها في ظلّ أحد كبار زعماء العالم، حيث صاحبته يوم وقف العالم برمّته ينصت في خشوع ورهبنة لخطاب تاريخي ألقاه أمام الدورة الاستثنائية بهيئة الأممالمتحدة، التي دعا لها هو شخصيا وانعقدت في شهر أفريل 1974 بنيويورك ليرفع على مسامع كبريات الدول أطروحة النظام الاقتصادي الدولي الجديد، مهددا الدول المصنّعة إن لم تقبل بإعادة النظر في النظام السائد آنذاك والقائم على استغلال الشمال للجنوب، سيأتي يوم يغزو فيه شباب الجنوب الفقير الشمال الغني على متن قوارب بحرية. وهذا ما نعيشه اليوم بعد مرور أكثر من 35 سنة على ذلك الخطاب التاريخي. * هكذا دخلت أنيسة قلب بومدين * إنها المرأة التي رافقت مسيرة الهواري بومدين وهو في أوج العطاء ولعبت بامتياز الدور المنوط برفيقة رجل عظيم. والكل يشهد بأن هذه المرأة الكبيرة ليست وصولية ولا جاهلة لعالم السياسة حتى وإن لم تكن شخصية سياسية معروفة على الساحة قبل عقد قرانها بأول رجل في البلاد. فهي كانت مناضلة في صفوف الإتحاد الوطني للنساء الجزائريات تعمل جاهدة على تطوّر المرأة الجزائرية، إذ كانت تقدم كل يوم سبت نصائح قانونية للنساء اللواتي يأتين إلى مقرّ الاتحاد الكائن بوسط العاصمة. * أنيسة المنصلي، البنت الوحيدة لوالديها، تنحدر من عائلة عاصمية عريقة، كانت تملك أكثر من نصف أراضي ديار المحصول بأعالي العاصمة، قبل أن يصادرها الاستعمار الفرنسي. جدّها امحمد المنصلي، كان من مؤسسي نادي الترقي بالجزائر العاصمة. ذلك النادي الذي يعتبر بمثابة رمز قوي للحفاظ على الشخصية الجزائرية وعلى التراث العربي والاسلامي اللذين كانا مهددين بالذوبان. ويذكر المرحوم توفيق المدني في الجزء الثاني من كتابه "حياة كفاح" الدور الذي لعبه امحمد المنصلي في تأسيس نادي الترقي وكان عمها محمد المنصلي من كتّاب المسرحيات ومن رجال ركحها إلى جانب رشيد قسنطيني ومحي الدين بشطارزي. أما والدها أحمد المنصلي، فكان صاحب مؤسسة لتوزيع الأفلام السينمائية في دول المغرب الكبير وكان العربي والمسلم الوحيد في وسط يعجّ باليهود، لكنه فرض نفسه وأتاح للجزائريين مشاهدة أفلام عربية ودينية. كان الوحيد من قام باستيرادها. فأفلام مثل "فجر الإسلام" و"بلال" وغيرهما تمكّن الجمهور الجزائري من مشاهدتهما بفضل أحمد المنصلي الذي جعل من قاعة سينما "دنيا زاد"، الكائنة بوسط العاصمة بشارع عبان رمضان، قطبا فنيا لعرض الأفلام العربية واستدعاء كبار الفنانين العرب من أمثال يوسف وهبي وأمينة رزق اللذين قدما رفقة فرقتهما المشهورة، كما كان هو من استدعى المطرب فريد الأطرش للغناء في الجزائر سنة 1952. * أنيسة كانت البنت المدللة التي تلبّى كل طلباتها ويسهر والداها على تلقينها تربية تمتاز بالأخلاق النبيلة والفاضلة وعلى مزاولة دراستها في أحسن الظروف. فبعد نيلها شهادة البكالوريا، التحقت بكلية الحقوق بجامعة الجزائر، حيث درست لغاية السنة الثالثة قبل أن تنتقل إلى جامعة "السوربون" بباريس لتكمل السنة الأخيرة المتبقية لنيل شهادة الليسانس في الحقوق. فبينما كانت تطمح إلى تحقيق حلمها في تحضير شهادة الدكتوراه، طلب منها والدها العودة إلى الجزائر، لأنه صار من الصعب عليه فراق فلذة كبده وقرّة عينيه لأكثر من سنة، كما أنه لا يطيق بُعد قرينته التي كانت هي الأخرى مقيمة بباريس حتى لا تبقى أنيسة وحيدة في العاصمة الفرنسية. * مع عودتها إلى الجزائر باشرت أنيسة المنصلي أداء واجب الخدمة المدنية بقصر العدالة بشارع عبان رمضان، حيث شغلت منصب نائب وكيل الجمهورية. وكانت من النساء القلائل في سلك القضاء حيث لم يكن يتجاوز عددهن الخمس عشرة إمرأة محامية. * الظلم الذي أوصلها إلى الرئيس * عائلة المنصلي، حتى وإن ساهمت ككثير من الجزائريين في ثورة التحرير، كانت بعيدة عن عالم السياسة غداة الاستقلال. فأحمد المنصلي، والد أنيسة، الذي تعرّض للتوقيف وللمتابعات القضائية من طرف السلطات الاستعمارية بعدما اكتشف أمر تحويله لقاعة سينما "دنيا زاد" ملجأ للفدائيين والمجاهدين، لم يكن ممن يتباهون بالواجب الذي قاموا به. وإن أرسل برقية مساندة وتأييد للرئيس الهواري بومدين إثر التصحيح الثوري في 19 جوان 1965 بصفته رئيس نقابة موزعي أفلام السينما، لم يكن ذلك الموقف نابعا من أي طموح سياسي أو تملّق أو طمع في الجاه. وإنما هو تعبير ناضج عن نوع من الانتقام الذي يعشعش في وجدانه تجاه الرئيس أحمد بن بلة الذي كان يكنّ عداوة مميتة للطبقة البرجوازية المتوسطة، حيث يتعرّض لها بالنقد اللاّذع والاستخفاف في خطاباته السياسية وبأسلوب متدني، وسعى إلى تأميم المؤسسات الصغيرة والمتاجر البسيطة كمحلات الجزارة ودكاكين البقالة وقاعات الحلاقة، مما أثار تذمر الطبقات الوسطى التي تعرّضت إلى ظلم بعض القرارات الجائرة. * ورغم الإطاحة بنظام أحمد بن بلة، لم تسلم عائلة المنصلي من الوقوع ضحية سوء تطبيق قانون تأميم مؤسسات توزيع الأفلام السينمائية. فهذا القانون الذي كان يعفي من التأميم الموزعين السينمائيين المساهمين في الإنتاج السينماتوغرافي. في حين أن المؤسسة التي كان يديرها والد أنيسة المنصلي طالتها إجراءات التأميم بسبب البيروقراطية التي تجاهلت صفتها الإنتاجية. * انتفضت أنيسة المنصلي لهذا القرار الجائر وطلبت مقابلة المرحوم محمد الصديق بن يحيى، وزير الثقافة والإعلام في تلك الفترة، بعدما فشلت جلّ محاولات والدها في إقناع السلطات بالعدول عن قرارهم الذي يعدّ ظلما في حق مواطن همّه الوحيد كسب قوت عائلته بعرق جبينه، فضلا عن ترقية الوعي الفني والثقافي. * لقاء أنيسة بالوزير لم يأت بالنتائج المرجوّة. بالعكس، أثار حفيظتها وتذمّرها لمّا قال لها الوزير: "بطاقة توزيع الأفلام هي امتياز ليس في متناول الجميع كجواز السفر"، فشعرت بأن الدولة تجاهلت الدور الذي لعبه والدها إبان ثورة التحرير وما قدمته عائلتها في إطار الحركة الوطنية. غادرت أنيسة مكتب الوزير وهي في حالة هيجان متجهة لتوّها نحو مقرّ جبهة التحرير الوطني بغية لقاء السيد قايد أحمد، رحمه الله، المسؤول عن جهاز الحزب، وذلك لأن هذا الأخير كان يشاع عنه أنه يصلح الأخطاء التي ترتكبها الإدارة. * بعدما أوقفت سيارتها في مرأب قريب من مقر الحزب، هرولت نحو المدخل الرئيسي وإذا بها تصادف السيد قايد أحمد أمام الباب. من دون تردد، اتجهت نحوه وخاطبته قائلة: "سيدي مسؤول جهاز الحزب، أنا أنيسة المنصلي نائب وكيل الجمهورية بمحكمة الجزائر، أرغب في مقابلتك بسبب ظلم ذهب ضحيته والدي". بمجرد أن انتهت من المقدمة طلب منها السيد قايد أحمد الانتظار لمدة ربع ساعة ريثما يستقبلها ويسمع منها. * استقبلها مسؤول جهاز الحزب استقبالا في مستوى يليق بمنصبها بسلك القضاء واستمع لها مطولا ثم وعدها بالنظر في مشكلتها قبل أن يخوض معها حول مواضيع مختلفة تتعلق بالحياة السياسية والاقتصادية للبلاد. أعجب بمستواها الثقافي وإلمامها بهذه المواضيع، فعرض عليها المشاركة في ورشات التفكير التي كان يعتمد عليها حزب جبهة التحرير الوطني لإيجاد حلول لمختلف المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي كانت تعيشها الجزائر وهي حديثة العهد بالاستقلال. * انضمت أنيسة المنصلي إلى إحدى الورشات وأبدت اهتماما بالغا بالقضايا التي كانت تتناولها وأبرزت مستوى متميزا في ما أوكل إليها من مهام، في إطار تحضير نصوص قانونية كميثاق التسيير الاشتراكي للمؤسسات وميثاق الثورة الزراعية. هذا ما أثار إعجاب المسؤولين وعلى رأسهم السيد قايد أحمد ،الذي امتنّ بما تقوم به وشكرها على مجهوداتها. وبعد مرور ما يقارب الشهرين سألت مجددا مسؤول جهاز الحزب: "هل من جديد في قضيتي؟". أقرّ لها بأنه لم يتمكن من إيجاد حلّ يرضيها، بالرغم من عدالة قضيتها. فوعدها برفع انشغالها إلى سيادة رئيس مجلس الثورة والحكومة. ولم تمرّ أيام قليلة عن هذا الوعد وإذا به يرفع سماعة الهاتف أمامها ويتصل بالسيد عبد المجيد علاهم، مدير التشريفات بالرئاسة، طالبا منه استقبال أنيسة المنصلي وتقديمها للرئيس الهواري بومدين للنظر في مظلمتها. * في يوم الموعد دخلت أنيسة مقرّ الرئاسة وهي كلها ثقة بنفسها. لم تمكث سوى لحظات بعد استقبالها من طرف مدير التشريفات وإذ بالباب يفتح ويستقبلها ذلك الرجل الطويل القامة النحيف الوجه الغليظ "الشنبات" الحاد النظرات وببساطة وتواضع يستدعيها للجلوس في زاوية في مكتبه، حيث توجد طاولة ومن حولها كراسي للاجتماعات. وهو يستمع إليها، غاصت به ذاكرته بملامح قاضية شابة جلبت اهتمامه في جلسة افتتاح السنة القضائية. هذا ما أسرّ به لها سنوات من بعد كما سمح له هذا اللقاء عن معرفة صاحبة المقالات التي نشرت بيومية المجاهد والتي أثارت انتباهه. * ...يتبع * * نوافذ * * لم تتردد سيدة الجزائر الأولى خلال السبعينيات في تلبية طلبي خاصة على صفحات جريدة قوية مثل "الشروق" لتجيب على ما يدور بخاطري طيلة الحديث الذي جمعنا لمدة تجاوزت الخمس ساعات. * * بومدين قال في خطاب ألقاه بنيويورك سنة 1974: إنْ لم تقبلوا بإعادة النظر في النظام السائد والقائم على استغلال الشمال للجنوب، سيأتي يوم يغزو فيه شباب الجنوب الفقير الشمال الغني على متن قوارب بحرية. * * أنيسة المنصلي البنت الوحيدة لوالديها، تنحدر من عائلة عاصمية عريقة كانت تملك أكثر من نصف أراضي ديار المحصول بأعالي العاصمة قبل أن يصادرها الاستعمار الفرنسي.