مملكة الفساد و العادات الغريبة و الحياة في عصورها البدائية والزواج ب 100 امرأة رغم أن زيارتنا للسودان في الفترة ما بين 10 و20 أفريل 2010 كانت تهدف بالأساس إلى تغطية الانتخابات العامة في هذا البلد القارة، لكني كنت شخصيا متحمسا أكثر لزيارة جنوب السودان الذي يواجه رهانا أكبر وأخطر يتعلق بتقسيم أكبر بلد عربي وإفريقي مساحة عندما يستفتي أبناؤه على تقرير مصير الجنوب، الوحدة أو الانفصال. * وقبيل الاستفتاء المنتظر الاحد القادم فضلت "الشروق" الغوص في تفاصيل وتضاريس الجنوب السوداني الذي يشكل هذه الايام اهتمام كل العالم، بالنظر الى خطورة الوضع داخله والتجاذبات الخارجية التي تنهش جسد الجنوب المترهل أصلا، وقد عادت "الشروق" بالكثير من الحقائق والمفاجآت التي تثير الدهشة حول الحياة اليومية لسكان الجنوب وما ينتظرهم في حال الانفصال الموعود. * ومع أن بعض الإخوة السودانيين من مجلس الإعلام الخارجي حاولوا إقناعنا بطريقة غير مباشرة بالعدول عن الذهاب إلى جوبا عاصمة جنوب السودان، بالحديث عن الوضع غير الآمن هناك، ووقوع العديد من القتلى يوميا بسبب صدامات بين القبائل الجنوبية فيما بينها، وعداء شديد لكل ما هو عربي ومسلم، فضلا عن انتشار الأمراض والأوبئة القاتلة وكذلك ذبابة "التسي تسي" المسببة للنوم، ودودة "فرنديد" التي تخترق الأقدام الحافية وتتوغل في شرايين الدم مسببة العمى.. إلا أن ذلك زادنا إصرارا على الذهاب لاكتشاف هذا الجنوب المجهول الذي يسعى ليصبح دولة قائمة بذاتها. * ذبابة "التسي تسي" عزلت الجنوب لعشرات القرون * ما أدهشني فعلا أن جنوب السودان لم يكن في يوم من الأيام دولة قائمة بذاتها، بل لم يكتشف إلا في 1840 خلال الفتح العثماني للسودان، وسكانه ليسوا أصليين بل منحدرين من مناطق أخرى كأوغندا وإثيوبيا وكينيا وإفريقيا الوسطى، حيث كان الجنوب أرضا مجهولة للعالم المتحضر، بل لم يسبق في تاريخ الإنسانية المتمدنة أن وصلت أي أمة أو امبراطورية أو جيش إلى هذه الأرض التي يقطنها الإنسان البدائي الذي لا يعرف سوى الغابة والكوخ والأبقار والرمح، ويعيش سكانه في شكل قبائل متفرقة يحكمها شيوخ القبائل وفق عرف قبلي، يختلف تماما عن النظام السياسي للدولة، إلا إذا استثنينا قبيلتي الشلك والنوير. * عند زيارتي للسودان بحثت كثير عن السر وراء عدم وجود أي احتكاك بين الممالك التي عاشت في شمال السودان والقبائل البدائية في أدغال الجنوب طيلة عشرات القرون، ووجدت أنه قبل 18 قرنا حاول "نيرو" اكتشاف منابع النيل الأبيض لكنه اصطدم بالمستنقعات والحواجز والعواصف الرعدية والأمطار المدارية الغزيرة والفيضانات والأعشاب الاستوائية العالية فعاد أدراجه، وكانت تلك أول وآخر محاولة لاكتشاف جنوب السودان قبل مجيء العثمانيين في القرن 19م. * فطبيعة الجنوب كانت الحاجز الأساسي الذي وقف بعناد أمام تغلغل الحضارة إلى هذه الأرض، فرغم أن معظم جنوب السودان عبارة عن سهول وغابات مدارية واستوائية إلا أن نهر النيل الذي يخترقه عموديا يمد عدة أذرع وفروع بشكل أفقي في المناطق الفاصلة بين الشمال والجنوب، كما أن جبال النوبة تشكل هي الأخرى حاجزا طبيعيا بين شمال السودان وجنوبه، بالإضافة إلى كثرة المستنقعات التي تنتشر بها الأوبئة والأمراض الفتاكة والحشرات الضارة، التي بإمكانها أن تقضي على جيش بأكمله إذا لم يؤخذ هذا العامل في الحسبان، وحتى الرعاة العرب الذين تمكنوا من القضاء على الممالك المسيحية في الشمال (نوباطية، مقرة وعلوة) ما بين القرنين 13 و16م وجدوا صعوبة في اختراق مستنقعات بحر الغزال، حيث تمكن ذباب "التسي تسي" وذباب "السرت" من نقل الأمراض بين قطعان الإبل فمات الكثير منها، فتحولت هذه القبائل العربية من رعي الإبل إلى رعي البقر التي بإمكانها العيش في الأماكن الرطبة، ولقبت هذه القبائل "بالبقارة" نسبة لرعي البقر، ومع ذلك لم تتمكن قبائل "البقارة" من تجاوز مستنقعات بحر الغزال رغم توغلهم جنوبا إلى غاية بحر العرب خلال موسم الجفاف لكنهم يرتدون شمالا في الخريف أمام جبروت هذه "الحشرة" الصغيرة. * وبسبب انتشار ذبابة التسي تسي في المناطق الغربيةوالجنوبيةالغربيةلجنوب السودان التي تقطنها قبائل الأزندي والمادي والبون، لم تنتشر حرفة رعي الماشية بما فيها الأبقار بهذه المناطق، لذلك يغلب النشاط الزراعي على سكان هذه المناطق الذين يدينون بالإسلام والمسيحية والوثنية، والذين أرغمتهم حشرة التسي تسي على تغيير نمط حياتهم. * * العثمانيون أول من اكتشف أدغال جنوب السودان * وفي 16 نوفمبر 1839 أمر محمد علي الحاكم العثماني لمصر (من أصول ألبانية) الرايس سليم بقيادة حملة قوامها 10 مراكب لاستكشاف منابع النيل الأبيض، وانطلقت حملة الاستكشاف من الخرطوم، واستطاع سليم أن يخترق لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية المستنقعات والحواجز التي تعوق سيران المجرى الرئيسي للنهر، وأن يصل إلى "كوندوكورو" التي تبعد ألف ميل عن الخرطوم. * وبهذا الاسكتشاف، بدأت عملية فتح جنوب السودان، التي استكملها مستكشفون مغامرون مثل ليفنغستون وغرانت وكذا حاكمي السودان الانجليزيين صامويل بيكر وشارل غوردون اللذين عينهما حاكم مصر الذي صار خاضعا للنفوذ الانجليزي خاصة بعد وفاة محمد علي. * ولكن سكان الجنوب عانوا من ظاهرة الاسترقاق والاستعباد حيث نشط تجار الرقيق خاصة العرب منهم في استرقاق سكان القبائل الجنوبية وبيعهم في الشمال، مما ولد لديهم حقدا غائرا ضد كل ما هو عربي، تجلى فيما بعد من خلال ثورات وتمردات أخذت أشكالا متعددة. * ورغم أن حاكم السودان صامويل بيكر أرسل تقريرا إلى الحكومة البريطانية يؤكد فيه أن جنوب السودان "منطقة لا تصلح لعيش الرجل الأبيض" بسبب كثرة الأوبئة والفيضانات والعواصف الاستوائية، إلا أن محاولة الجيوش الفرنسية السيطرة على جنوب السودان لتعويض خسارتها في مصر بعد تمكن بريطانيا من احتلالها في 1882 جعل هذه الأخيرة تعيد النظر في الأهمية الاستراتيجية لجنوب السودان، فقامت بريطانيا بمساعدة الجيش المصري بإعادة احتلال السودان في 1898 وتمكنت من طرد النفوذ الفرنسي من المنطقة، ورغم أن اللورد كرومر وصف الأقاليم الجنوبية بأنها "أراضي غير ذات فائدة، وأن إدارتها مكلفة جدا"، إلا أن بريطانيا احتفظت بجنوب السودان، لأن نهر النيل الأبيض يمر عبره، وهو الطريق الوحيد الذي يربط بين مصر والسودان في الشمال والمستعمرات البريطانية في شرق إفريقيا وبالأخص أوغندا. * * الزواج ب 100 امرأة * أغرب من سمعته قبل ذهابي إلى جنوب السودان أن سلطان الدنكا، وهي أكبر قبيلة في جنوب السودان (50 بالمئة من سكان الجنوب) مسلم ويدعى السلطان عبد الباقي ويلقب بنصير المسلمين، رغم أن قبيلة الدنكا تضم أبرز القيادات المسيحية في الحركة الشعبية، واكتشفنا أن سلطان الدنكا البالغ من العمر 90 سنة متزوج ب70 امرأة رغم أن الإسلام لا يبيح له الزواج بأكثر من أربع نساء فقط، إلا أن الأعراف والتقاليد تبيح له أكثر من ذلك. * وقيل لنا إن الأعراف القبلية تسمح للرجل في الجنوب أن يتزوج حتى 100 امرأة، ويمكن أن يتزوج ثلاث نساء في يوم واحد، ويرث الابن البكر زوجات أبيه باستثناء أمه، ونظرا لانتشار مهنة رعي الأبقار فإن مهر المرأة يقدر بعدد الأبقار. * وخلال لقائي بالجنرال عبد الله حسن البشير، شقيق الرئيس السوداني، في الخرطوم قبيل يوم من سفري إلى جنوب السودان أكد لي أن "الجنوبيون يتزوجون بعدد كبير من النساء وينجبون الكثير من الأطفال، ولولا الحروب والأوبئة التي تفتك بهم لفاق عددهم سكان الشمال". * الطريق إلى جوبا * ساورنا الشك بأن هناك من لا يريدنا أن نذهب إلى جنوب السودان، خاصة بعد تأجيل رحلتنا إلى مدينة جوبا عاصمة الجنوب مرات عديدة، وفي كل مرة يقال لنا نحن ننتظر موافقة حكومة الجنوب، وشعرنا حينها وكأن الحكومة الاتحادية لا تملك سلطة فعلية على حكومة الجنوب، وكدنا نفقد الأمل في إمكانية زيارة مدينة جوبا عاصمة جنوب السودان، خاصة بعد عودتنا من دارفور دون أن يذهب الوفد الجزائري الثاني إلى جنوب السودان كما كان مقررا. * وبعد يوم أو يومين، عاد جميع الوفد الجزائري إلى أرض الوطن، ولم يبق سواي وزميل آخر من الإذاعة الدولية، وكنا مصرين على الذهاب إلى جنوب السودان مهما كانت المخاطر التي قد تواجهنا، وتردد كل من مرافقينا السودانيين من مجلس الإعلام الخارجي في مرافقتنا إلى جوبا، وكان يظهر عليهما نوع من الخوف حتى أن أحدهما قال لي "نحن نحميكم في الخرطوم وإذا ذهبنا معكما إلى جوبا فأنتم تحموننا هناك"، وأوضح لي أن الجنوبيين يكرهونهم كرها شديدا، بل فيهم من يسخر حتى من بشرة الشماليين السمراء التي تختلف عن بشرتهم السوداء. * ورغم مرور يومين على عودة الوفد الجزائري إلى الوطن تاركا لنا فراغا مملا، إلا أن ذهابنا إلى جوبا كان محل تسويف إلى أن قررتُ حزم حقائبي والعودة إلى الجزائر بعدما يئست من إمكانية الذهاب إلى جوبا، لكن أحد السودانيين قال لي "جوبا جميلة وتستحق أن تذهب إليها"، كما أن مسؤولي في العمل "نبيه بوجمعة" طلب مني البقاء والذهاب إلى جنوب السودان، واستغربت منه، ذلك لأنه شدد علي قبل سفري إلى السودان أن لا أغامر كثيرا. * وفي اليوم الثالث، تم حجز تذكرتي سفر إلى جوبا لي ولزميلي من الإذاعة الدولية وثالثة لمرافقنا أبو بكر السوداني من مجلس الإعلام الخارجي، وكان من المفروض أن ترافقنا صحفية من جنوب السودان لتسهيل مهمتنا هناك لكنها لم تأت، وتقرر أن نعود إلى الخرطوم في نفس اليوم ربما خوفا من أن يصيبنا أي مكروه، وطلب منا أن نتكلم في جنوب السودان بالإنجليزية أو حتى بالفرنسية ولكن ليس بالعربية حتى لا يتعامل معنا الجنوبيون بعدائية. * الطائرة التي أقلتنا إلى مدينة جوبا كانت مصرية وطاقمها مصري لكنها مستأجرة من شركة طيران سودانية خاصة، وجلس إلى جانبي طالب جنوبي يدرس في الخرطوم لم يتجاوز 18 سنة لم يبلغ سن الانتخاب خلال انتخابات أفريل 2010، ولكنه أكد لي بأنه سينتخب في استفتاء السودان لصالح الوحدة لأن الحكومة في الشمال أكثر كفاءة من حكومة الجنوب في إنجاز مشاريع التنمية. * كل شيء في جوبا مختلف عن الخرطوم * على طول أزيد من 1500 كيلومتر من الخرطوم إلى جوبا تشعر وكأنك تنتقل من بلد إلى بلد آخر، فعندما تلقي نظرة من الطائرة تشاهد أراضي خضراء شاسعة وأكواخا دائرية الشكل بأسقف من القش، ولكنها متباعدة، ولكنك لا ترى لا خطوط كهرباء، ولا طرقات، ولا تهيئة عمرانية، ولا بنايات حديثة... باختصار.. لا تنمية. * وبمجرد أن وطئت قدمي مطار جوبا أول إحساس ساورني شعور باللا أمن، ففي الخرطوم أو حتى في دارفور أينما ذهبنا كنا نستقبل كالأمراء، لكن هناك شيئا مختلف في جوبا، فإرهاصات الحرب الأهلية التي دامت نصف قرن وقضت على مليوني شخص لا زالت تدوي في صمت في كل أرجاء جنوب السودان. * وحول المطار، كانت هناك سيارة عسكرية رباعية الدفع وفوقها مدفع رشاش ورجال مسلحون بلباس عسكري تابعون للجيش الشعبي لتحرير السودان الذي تحول من حركة تمرد إلى جيش نظامي يسيطر على الأمن في كامل جنوب السودان، ولا أثر للجيش السوداني ولا لشرطته. * نظرات الناس هناك لم تكن تبعث على الاطمئنان، تشعر وكأنك شعرة بيضاء وسط ثور أسود، لكن الشيء الوحيد الذي يبعث في النفس بعض الارتياح لحظتها وجود بعض المسافرين الأوروبيين وربما الأمريكيين ذوي البشرة البيضاء، مما ذكرنا بأننا لسنا الأجانب الوحيدين في هذه المنطقة. * وعلى عكس ما كنا نعتقد، وجدنا رجالا ونساء يلبسون آخر صيحات الموضةو ويركبون سيارات فارهة وفخمة الكثير منها رباعية الدفع، ومظاهر الغنى الفاحش تذكرك بأثرياء الحرب، خاصة وأن الجنوبيين استفادوا من حصة هامة من أموال البترول الذي يمثل 98 بالمئة من ميزانية حكومتهم، ولم نجد في محيط المطار آثارا للرجل البدائي الذي كنا نتصوره. * لوهلة تستبعد تماما أن تكون هذه الأرض وهذا الشعب جزءا من السودان، كل شيء هنا مختلف، فالانجليزية هنا هي اللغة السائدة في اليافطات والملصقات وما تبقى من الحملة الانتخابية كل شيء تقريبا مكتوب بالانجليزية على عكس شمال السودان، وتظهر يافطة كبيرة معلقة على مدخل المطار مكتوبة باللغة العربية على استحياء "مسلمو السودان مع حكومة الجنوب"، لكن اللغة العربية هي لغة التواصل الأولى بين المواطنين الجنوبيين بالنظر إلى وجود عشرات اللهجات المحلية. * والمناخ هنا مداري لطيف في الوقت الذي تركنا فيه الخرطوم تغلي تحت 37 درجة، وأشجار المانغا الاستوائية تنبهك إلى أنك غير بعيد عن خط الاستواء، وسكان الجنوب أطول قامة من الشماليين، وبشرتهم أكثر سوادا من الشماليين ذوي البشرة السمراء. * وحتى مقود السيارات على اليمين مثلما هو الحال في بريطانيا وليس على اليسار كما في السودان وأغلب بلدان العالم، وكأن الجنوبيون يريدون أن يتميزوا عن الشماليين في كل شيء ليثبتوا للعالم أحقيتهم بالانفصال عن الشمال. * سألنا أبو بكر السوداني إن كنا نرغب في المبيت ليلة في جوبا أم العودة إلى الخرطوم مساء، وكنت مع الرأي الأول، خاصة وأن الأمر صار أكثر إثارة، وبدت لي مدينة جوبا جديرة بالاستكشاف والمغامرة، فلا يمكن أخذ صورة شاملة عن المنطقة وعادات أهلها في بضع ساعات، لكن زميلي في الإذاعة الدولية أصر على العودة في نفس اليوم، فلم يكن يشعر بالطمأنينة البتة. * أول الجزائريين وصولا إلى جنوب السودان * جاءت سيارة جديدة يقودها شاب جنوبي أقلتنا إلى وزارة الاتصال بحكومة الجنوب، والتي كانت عبارة عن بيوت جاهزة واسعة ومنظمة وبدون طوابق، وحولها عدة سيارات بيضاء اللون أغلبها رباعية الدفع، وما إن دخلنا إلى مقر الوزارة من أجل الحصول على تراخيص العمل الصحفي في الجنوب حتى استقبلنا مدير الإعلام بالوزارة مصطفى بيونغ ماجيك بدهشة خاصة عندما علم أننا جزائريون، وأخبرنا أنه لم يسبق أن زار جنوب السودان جزائريون قبلنا باستثناء مراسل قناة "الجزيرة" القطرية عياش دراجي الذي وصل إلى جوبا قبلنا بأيام. * كان الحديث يجري بيننا بالانجليزية كما أوصانا بذلك أبو بكر السوداني، وتطرقنا فيه إلى الاتهامات الموجهة لحكومة الجنوب والجيش الشعبي بتزوير الانتخابات بشكل فاضح، كما تحدثنا عن جنوب السودان وإمكاناته المالية والاقتصادية والاستفتاء حول تقرير المصير في 2011، وكانت إجابات مصطفى بيونغ ماجيك سطحية وجافة، رغم أنني في البداية استبشرت خيرا عندما علمت أنه يحمل اسما عربيا وبالتالي فهو مسلم، لكن تعامله معنا كان باردا. * وتفاجأت عندما رأيت مصطفى بيونغ يتكلم مع موظف في الوزارة بالعربية، وكنت أحسبهم لا يجيدون لغتنا، فقلت لماذا نتحدث معهم بالانجليزية ما داموا يتكلمون العربية. * توجهنا بعدها إلى موظف سام بالوزارة للحصول على التراخيص اللازمة للتغطية الصحفية، وتعامل معنا هذا الموظف بأكثر جفاء، وتبادلت مع زميلي الجزائري نظرات الاستغراب حول هذه المعاملة، وسألت أبو بكر السوداني عن سر هذه المعاملة، فقال "الجنوبيون يرون أن الجزائر تساند حكومة الخرطوم لذلك يتعاملون معكم بتحفظ". * وظهر لنا العداء الشديد لكل ما يتعلق بالحكومة المركزية في الخرطوم عندما وضعت البطاقة التي سلمت لي والتي لم تكن تحمل اسمي ولا صورتي خلف البطاقة المهنية التي سلمتها لنا المفوضية العليا للانتخابات السودانية بالخرطوم بحيث لا يظهر منها سوى صورتي، فقام الموظف السوداني وهو يكظم استياءه بنزع البطاقة التي سلمها لي ووضعها فوق بطاقة المفوضية، مما أعطانا انطباعا أن حكومة الجنوب لا تعترف ولو شكليا بسلطة الخرطوم ولا حتى بالمفوضية العليا للانتخابات التي تعتبر الحركة الشعبية جزءا منها. * وفي تلك اللحظة دخلت علنيا صحفية أمريكية تدعى شانون جونسون من وكالة "بولنس إمايج" والتي غطت الانتخابات في جنوب السودان واعترفت لنا بأنها واجهت عدة صعوبات في تغطية هذه الانتخابات بالجنوب، وأخبرتنا أنها دخلت جنوب السودان من أوغندا وليس من الخرطوم، ورغم أن الولاياتالمتحدةالأمريكية تعتبر من أكثر الدول مساندة لانفصال الجنوب على عكس الجزائر، إلا أن الصحفية شانون جونسون عوملت بنفس البرودة التي عوملنا بها، وكأن حكومة الجنوب وافقت على استقبال الصحافة الدولية على مضض، خاصة بعد صدور عدة تقارير صحفية تتحدث عن تزوير شامل للانتخابات في الجنوب. * فساد وابتزاز * اندهشنا عندما طلب منا موظف بوزارة الاتصال في حكومة الجنوب رسوما ب200 دولار مقابل الترخيص لنا بالتغطية الإعلامية في الجنوب، وشخصيا انزعجت من ذلك واعتبرته أشبه بمن يطلب منك رشوة مقننة، خاصة وأن الحكومة الاتحادية في الخرطوم لم تطلب منا دفع رسوم لتغطية الانتخابات، وكذلك الحكومة الجزائرية لم تفعل مع المندوبين الإعلاميين الأجانب الذين يأتون للجزائر لتغطية الانتخابات، كما أن هذه الرسوم كانت مرتفعة جدا، ومع ذلك تطوع مرافقنا السوداني بدفع المبلغ كاملا ولكن بالعملة المحلية وبدون نقاش. * وكلف مسؤول بوزارة الاتصال الجنوبية سائقا من الحركة الشعبية بمرافقتنا في تناقلاتنا وسط مدينة جوبا، بينما توجه مرافقنا السوداني إلى المطار ليحجز لنا في طائرة العودة إلى الخرطوم، وتوجهت وزميلي الجزائري إلى مقر المفوضية العليا للانتخابات بجنوب السودان والتي يوجد مقرها في منزل جميل وجديد وحوله ثلاث سيارات رباعية الدفع، أين استقبلتنا مسؤولة في المفوضية تدعى جيرينا كيدي بترحاب أنسانا بعض الشيء البرودة التي عوملنا بها عند وصولنا إلى جوبا، ورغم أن رئيس مفوضية الجنوب كان حاضرا إلا أنه لم يدل لنا بأي تصريح واكتفى بأخذ صور تذكارية معنا. * ومن المؤسف حقا أننا كنا نرغب في إجراء لقاء مع رئيس حكومة الجنوب ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان سلفاكير ميارديت، لكنه كان حينها خارج مدينة جوبا ولم يكن بالإمكان انتظاره يوما أو يومين لارتباطنا بموعد العودة إلى الجزائر. * طلبت من السائق الذي يدعى جوزيف غواغ والذي يتكلم الانجليزية بشكل جيد أن يأخذنا إلى مكان شعبي لنلتقي بالمواطنين، لأني كنت أرغب في أخذ انطباع عام عن توجهات الناس حول استفتاء تقرير المصير، خاصة وأن مواقف السياسيين في الجنوب معلنة ومعروفة، لكن المواطن الجنوبي في النهاية هو من سيقرر مصير الجنوب إذا فرضنا أن الانتخابات ستجري في نزاهة، فاقترح علي السائق الذهاب إلى سوق كوناكونيو الشعبي. * توغل بنا السائق وسط أحياء شعبية فقيرة في طريق ترابية مهترئة، وراود الشك زميلي حول أين سيأخذنا وسط تلك الأكواخ البدائية، ولكن كانت فرصة لنا لالتقاط بعض الصور لهذا المشهد المختلف عن وسط جوبا التي يسكنها الأثرياء وطريقها معبدة وتنتشر بها البيوت الجاهزة والجديدة وكأنها بنيت في وقت قريب، وتتخللها أشجار كثيرة وكأنها مدينة ولدت وسط غابة. * لكن في منتصف الطريق إلى سوق كوناكونيو الشعبي فاجأنا السائق عندما طلب منا أن نقدم له مبلغا ماليا (100 دولار أو ما يعادل 7500 دينار جزائري) لأنه يستعمل سيارته الخاصة رغم أنه موظف في الوزارة، ونقلنا بأمر من مسؤوله المباشر، مما أعطانا صورة سيئة عن الفساد في حكومة الجنوب، ورفضنا أن ندفع له شيئا لأننا اعتبرنا ذلك ابتزازا، وحتى لا يتركنا وسط تلك الأحياء القصديرية المجهولة طلبنا منه أن يسوي هذه المسألة مع مرافقنا الشمالي بعد نهاية هذه الجولة. * الجنوبيون لم يتخلصوا بعد من هواجس الحرب * ما إن نزلت من السيارة عندما وصلنا إلى سوق كوناكونيو الشعبي الذي يبعد بضعة كيلومترات عن وسط المدينة حتى تلقفتنا نظرات عدائية تحمل الكثير من التوجس والخوف والتربص بالغريب، لا أنكر أن هذه النظرات صدمتني إلى درجة أنني عدت أدراجي وطلبت من السائق أن يرافقنا إلى داخل السوق فرفض، فأصررت عليه، فخرج من السيارة وقرر مرافقتنا، فسألته عن سبب هذه النظرات العدائية ضدنا، فقال لي: لو دخلتما السوق وحدكما لتعرضتما للأذى، ولكني ما دمت معكما فلن يجرأ أحد على الإساءة إليكما. * اقتربت من مجموعة من الشباب الذين كانوا ينظرون إلينا بتوجس وصافحتهم وعرفتهم بنفسي فاطمأنوا لي قليلا بعدما علموا أني صحفي، وكان معظمهم مسيحيين وتحدثوا معي عن الأوضاع الأمنية الصعبة التي عاشوها خلال الحرب الأهلية والتي قتل فيها الكثير منهم وفرض عليهم حظر التجول في ساعات معينة، لكنهم أشاروا إلى أن الأوضاع بدأت تتحسن على الصعيد الأمني بعد التوقيع على اتفاقية نيفاشا في 2005. * وكلما تحدثت أكثر إلى الناس في سوق كوناكونيو زاد إحساسي بالاطمئنان، وهو ما شجعنا على التوغل أكثر داخل هذا السوق الشعبي حتى بدون مرافقة السائق، رغم أن نظرات الفضوليين خاصة الأطفال منهم بقيت تلاحقنا، ولكن بأقل عدائية من الأول، وقد لمسنا طيبة الناس في كوناكونيو رغم أن بعضهم لم يتمكن من التخلص من هواجس الخوف من الأجنبي، وبعضهم كانت له مواقف عدائية ضدنا عندما قمنا بتصوير السوق وحركة الناس بداخله والمحلات التجارية، لكننا لم نتعرض إلى أي أذى، بل بالعكس كان هناك رجال ونساء لديهم الشجاعة الكافية للحديث معنا حول قضايا حساسة تتعلق بالدين والانتخابات والاستفتاء على تقرير المصير وعن الحرب الأهلية، بل فيهم من قدم اسمه الكامل وأخذ صورا معنا دون أن يخشى سطوة أحد عليه. * دخلت أحد المحلات التي تبيع تحفا وتماثيل خشبية، ظننتها آلهة الوثنيين في جنوب السودان، لكني وجدت أن التاجر الذي يبيعها مسلم من أصول صومالية، أكد لي أن التجارة تحسنت في الجنوب خلال السنوات الأخيرة، ونفى أن يكون تعرض إلى أي معاملة عنصرية من الجنوبيين ولا من الجيش الشعبي إلا في ما ندر وبشكل عارض. * وفي إحدى الوكالات السياحية بالسوق، التقيت بسيدة تدعى منال مرجان، مطلقة ومتزوجة للمرة الثانية، قالت لي "إن كان زوجي يريد الزواج بسبع نساء فلا مانع عندي"، فالمرأة الجنوبية تقدس الزوج ربما إلى درجة العبادة، وتضيف "لو كان زوجي مسلما لغيرت ديانتي المسيحية بدون نقاش، فالمرأة تتبع زوجها في كل شيء". * أحد الرجال الجنوبيين الذين التقيتهم بالسوق اشتكى لي من الفقر الذي يعانونه، فرغم أنه يعمل موظفا إداريا لكن مرتبه لا يكفيه لإعالة عائلته، لذلك يضطر للعمل بعد الدوام في نقل المسافرين، لكن على دراجة نارية حيث ينقل شخصا إلى شخصين خلفه مقابل أجر معين. * وقبل أن نغادر، التف حولنا مجموعة من الأطفال الفقراء للحصول على بقشيش، وكانوا سعداء عندما التقطت لهم صورة جماعية وودعتهم على أمل زيارة أخرى في ظروف أفضل، وكان انطباعنا ونحن نغادر السوق مختلفا تماما عندما دخلناه في البداية، فالناس مسالمون وطيبون، لكن هاجس عودة الحرب يؤرقهم. * مرفأ جوبا النهري * عندما كنت في دارفور قيل لي إن مدينة جوبا بها أشجار تنتج أجود ثمار المانغا وأكبرها حجما، فطلبت من السائق أن يأخذنا إلى مكان نشاهد فيه مثل هذه الأشجار فتوجهنا إلى ميناء جوبا على نهر النيل الأبيض أين تنتشر أشجار المانغا الكبيرة وعلى الضفة الأخرى مناظر طبيعية غاية في الروعة، وكان يحرس المرفأ عدد من جنود الجيش الشعبي لتحرير السودان، فدخلنا المرفأ بدون أن يستوقفنا أحد، والتقطنا بعض الصور لأشجار المانغا على ضفتي هذا المرفأ النهري الصغير. * وقابلت عاملين جنوبيين أحدهما مسلم والآخر مسيحي وانضم إليهما ثالث من شمال السودان وكانوا بصدد إفراغ حمولة قارب نهري كبير من البصل القادم من الشمال، لكنهم طلبوا مني أموالا مقابل تصويرهم فرفضت، وعندما أردت تصوير الميناء النهري طلب مني عامل آخر أخذ موافقة رسمية من المسؤول العسكري للمرفأ رغم أنني كنت أحمل ترخيصا رسميا من وزارة الاتصال في حكومة الجنوب ويرافقنا موظف حكومي جنوبي ومع ذلك لم يسمح لنا بالتصوير، وحاول اقتيادي للمسؤول العسكري بالمرفأ لطلب إذن بالتصوير لكننا كنا مرتبطين بموعد الطائرة العائدة إلى الخرطوم، لذلك غادرنا المكان بسرعة حتى لا نخضع لمزيد من المماطلة والابتزاز. * في طريق العودة، لاحظنا وجود عدة مستشفيات مثل مستشفى جوبا التعليمي الذي بني في 1927 في زمن الاحتلال الثنائي البريطاني المصري، كما صادفنا فندقين أحدهما مصري رغم أنه قيل لنا إنه لا توجد فنادق في جوبا وكل ما هو متوفر أكواخ بسيطة، ولكننا وجدنا جوبا أكثر تنمية من العديد من مناطق السودان خاصة دارفور، رغم أن الأوضاع في جوبا تزداد سوءا كلما ابتعدنا عن وسط المدينة. * الأمن الجنوبي يوقف صحفيا جزائريا * كدنا نقع في ورطة حقيقية قبل مغادرتنا جوبا عندما قام زميلي من الإذاعة الدولية بتصوير المطار رغم تحذيري له، خاصة وأنه سبق أن نبهني أحد المسافرين في مطار الخرطوم إلى أنه لا يسمح بالتصوير داخل المطارات وحتى خارجها، ولاحظت أن أحد الشباب الجنوبيين كان ينظر إلى زميلي شزرا ويرمقه بعين الشك والارتياب، وبمجرد أن جازف زميلي بتصوير المطار حتى كان ذلك الشاب واقفا عند رأسه، وعلى الأغلب أنه ضابط في مخابرات الجيش الجنوبي، حيث قام بتوقيفه وحذف الصورة التي التقطها للمطار، ورفض كل التدخلات من أجل إطلاق سراحه، بل أخذه إلى مسؤول كبير في أمن المطار للتحقيق معه. * وأخذت القضية أكثر من حقها بسبب تعنت ذلك الضابط إلى أن تدخل أحد أبناء نصير المسلمين وهو ضابط في الجيش الشعبي لتحرير السودان، وتم استدعائي رفقة مرافقنا أبو بكر السوداني من مجلس الإعلام الخارجي، ودخلنا غرفة ضيقة بها نحو خمسة ضباط من الجيش الشعبي لتحرير السودان وبينهم زميلنا من الإذاعة الدولية، وحاولت أن أقنع مسؤول أمن المطار بأن يطلق سراح زميلي وأن لا يعطي للقضية أكثر مما تستحق، لكنه رد علي بحدة وقال لي: زميلك خرق القانون وحتى الأمن الجزائري لا يمكنه أن يتغاضى عن مسألة كهذه لو وقعت في الجزائر، فأجبته أن الأمن الجزائري يحسن التصرف مع الصحافيين حتى ولو أخطؤوا. * لاحظت على ضابط المطار سرعة الغضب، وبعض الضباط الذين معه كانوا يستفزون بسرعة، فقلت في نفسي "ما داموا يغضبون بسرعة فإنهم طيبون ويمكن استرضاؤهم بسرعة أيضا"، والتفت إلى أحدهم وقلت له بود: نحن ضيوفكم، ويفترض أن نلقى استقبالا حسنا منكم، حتى نستطيع أن نكتب أشياء طيبة عنكم. * ويبدو أن الرسالة وصلت بسرعة، "فأي إساءة قد نتعرض لها لن تخدم الصورة التي تحاول حكومة الجنوب أن تسوقها عن نفسها في الخارج"، وتغيرت لهجة ضباط مطار جوبا معنا بشكل كلي، وسألني أحدهم عن أي مطار توقفنا قبل الوصول إلى السودان، فقلت له: مطار القاهرة، فضحك وقال: أنتم لا تحبون المصريين وأكيد أنهم خلقوا لكم مصاعب في المطار، فنفيت ذلك بشكل قطعي وأكدت لهم أن المصريين إخوتنا وأنهم عاملونا في المطار بشكل حسن. * وللحظة نسينا مشكل زميلي الموقوف لديهم ودخلنا في نقاش حول مشاركة المنتخب الجزائري في المونديال، وتفاجأت أن هذا الضابط من متابعي أخبار الفريق الوطني وأدق التفاصيل عن لاعبيه، وسألني بأسف "كيف ستواجهون انجلترا وأمريكا واللاعب مغني مصاب؟" وذكر لي لاعبين آخرين لم أكن أعلم حينها أنهم أصيبوا أيضا. * حديثنا عن الفريق الجزائري خفف نوعا ما البداية المتشنجة مع ضباط مطار جوبا، ويبدو أنهم اقتنعوا بوجهة نظرنا، لكنهم طلبوا منا أن نقنع مسؤولهم أولا، وكان هذا المسؤول شابا في منتصف الثلاثينات على ما يبدو، وكان يحمل آلة التصوير الخاصة بزميلي ويتابع بصمت مختلف الصور التي التقطها زميلي طيلة إقامتنا في السودان. * واستأذنه حينها أبو بكر السوداني بالكلام وكان هادئا وحكيما، وأشار إلى هذا الضابط بأننا منذ قدومنا إلى جوبا احترمنا كل الإجراءات القانونية وخاصة ما تعلق بالحصول على التراخيص من وزارة الاتصال الجنوبية. * طلب منا الضابط استظهار هذه التراخيص، فأخبرناه أننا أعدناها إلى موظف بالوزارة وهو موجود بالخارج، فأمر بإحضاره، فجاء سائق السيارة وقدم لمسؤول المطار جميع التراخيص وأشار إليه بأنه أراد أن يتدخل كموظف في الحكومة مع موظف آخر لتوضيح الأمر عند اعتقال مندوب الإذاعة الدولية الجزائرية وسرد له كيف تعامل معه ذلك الضابط بجفاء بل طلب من جنود من الجيش الشعبي توقيفه. * وبعد صمت طويل، سلم مسؤول المطار آلة التصوير لزميلي وفاجأنا بالقول إننا لم نمكث طويلا بجنوب السودان وأن بضعة ساعات لا تكفي للتعرف عليه، ووجه لنا دعوة للمكوث ثلاثة أيام إضافية قصد التعرف أكثر على الإقليم وسكانه، ولكننا اعتذرنا بأسف لأننا مرتبطون بموعد الطائرة المتوجهة إلى الخرطوم بعد دقائق، كما أننا سنعود بعد يومين إلى الجزائر. * تأسف مسؤول أمن المطار لعدم تلبيتنا لدعوته، واستغل أبو بكر السوداني حالة الود التي سادت بيننا بعد تشنج واقترح على هذا الضابط أن يلتقط لنا صورة تذكارية (صحافيان جزائريان وضباط من الجيش الشعبي لتحرير السودان) بمناسبة هذه الصدفة التي تعارفنا فيها، ولكن مسؤول المطار رد عليه وهو يضحك "فرصة أخرى... ليس الآن"، وخرجنا وودعناهم في جو مرح رغم البداية المتشنجة. * وقبل مغادرتنا مطار جوبا، لحق بنا الضابط الذي أوقف زميلي، فقلت في نفسي "خير إن شاء الله"، لكن هذا الضابط قدم لنا اعتذاراته، وكان يبدو عليه الندم الشديد على ما بدر منه، وأوضح بأن تشدده معنا كان بسبب استفزاز أحد زملائه له عندما تدخل لتسوية الأمر بطريقة غير لبقة، ولما أخبره أبو بكر السوداني أن نصير المسلمين صديق حميم لوالده، رد هذا الضابط متفاجئا أن السلطان عبد الباقي (نصير المسلمين) هو صهره. * وفي الطائرة المتجهة إلى الخرطوم، تعرفت على طالبتين جنوبيتين إحداهما مسلمة والأخرى المسيحية، من أنصار الدكتور لام أكول المساند لوحدة السودان، كانتا جالستين معا بشكل يعكس التسامح بين المسلمين والمسيحيين في الجنوب، وسألت الطالبة المسيحية عن سر انتشار المسيحية في جنوب السودان فردت أن ذلك راجع إلى التسامح، فقلت لها التسامح صفة مشتركة بين جميع الأديان وعلى رأسها الإسلام، فقالت: المسلمون يفرضون على زوجاتهم المسيحيات دخول الإسلام على عكس المسيحيين، فقلت لها: لدينا في القرآن آية تقول "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، فالإسلام يقر حرية الدين لكل شخص. * وبدا ظاهرا أن دراستهما في الخرطوم جعلتهما لا توافقان على العرف الذي يسمح للرجال في جنوب السودان بالزواج بعدد كبير من النساء، وقالت إحداهما إنها لن تقبل بالزواج برجل متزوج بعدد كبير من النساء. * وصلنا إلى الخرطوم ليلا، وكان مصطفى السوداني أكثرنا سعادة بوصولنا سالمين من جوبا، وقال: طيلة ذهابكم إلى جوبا كنا نخشى أن يصيبكم أذى، والحمد لله أن عدتم بخير.