تسلطت على الوطن العربي منذ أمد طويل أنظمة فاسدة وفاشلة انكفأت على نفسها وانغلقت وسط وطنية غير صادقة فرطت باسمها في مشاريع الوحدة بين الأقطار العربية بكل أنواعها... * وأدارت الظهر لقضايا الأمة وعلى رأسها قضية فلسطين، وبعضها غدر القضية وتآمر عليها، ثم أَغلقت الوطن على أهله فمنعت الناس من التعبير عن آرائهم أو تنظيم الدفاع عن حقوقهم أو المشاركة في خدمة أوطانهم، ثم استأثرت بخيرات الوطن من خلال منظومة فساد ممتدة ومعقدة ومتشابكة جندت بها شبكة واسعة من الانتهازيين والنفعيين والمجرمين ضمن زمر متمركزة في دوائر أسرة الحاكم وفي أوساط المؤسسات الأمنية ويلحق بها أتباع وشركاء وأعوان في الإدارة، والأحزاب، والمنظمات ورجال الأعمال والإعلام يُسَخَّرون كلهم بسياسة الردع والإغراء، فابتعدت هذه الأنظمة عن منطق وثقافة الدولة وأخذت بدل ذلك أشكالا مافيوية تجاوزت في نفوذها وتأثيرها منظمات المافيا التقليدية. * وأضافت إلى هذا الفساد فشلا ذريعا في مشاريع التنمية فأنتجت مستويات من الفقر والحرمان أفقد معنى الكرامة الإنسانية لعدد كبير من المواطنين، خصوصا لدى الشباب المتعلمين وغير المتعلمين، وحينما وصلت هذه الأنظمة إلى هذا المستوى من الانحراف والفشل أصبح من الطبيعي أن ينادي الناسُ على المستوى المحلي والدولي بتغييرها، ولكن رغم كل هذا لم يستطع أحد تحريكها. * عوّل المواطنون كثيرا على الإسلاميين للتغيير ووضعوا عندهم ثقتهم كلها واعتقدوا بأن هؤلاء هم الأمل، غير أن هؤلاء لم يفلحوا في الانتقال من دال الدعوة إلى دال الدولة وجربوا لزحزحة الأنظمة كل الوسائل والطرق من مغالبة، إلى مهادنة، إلى مشاركة، إلى مقاطعة، إلى مخاصمة إلى معاونة، إلى غير ذلك من الطرائق الكثيرة العديدة دون جدوى ودون نتيجة لفرط الصد والمنع من قبل الأنظمة الحاكمة بكل الوسائل الخفية والعلنية من تزييف وتزوير وتضييق وتشويه وملاحقة ومتابعة وإغراء وتطميع، إلى أن بدأت الجماهير تيأس من تحقيق التغيير عن طريق الإسلاميين وقد تجلى هذا اليأس في عدم المشاركة في الانتخابات رغم محاولات تضخيم الأرقام كما رأيناه في مصر والجزائر على سبيل المثال. * بل ليس من المستغرب القول بأن طموح الإسلاميين ومحاولاتهم المتعددة للوصول للحكم هو الذي صار يُمكّن للأنظمة الفاسدة ويمدُّ في أعمارها، إذ أصبح يكفي لأي نظام فاسد في العالم أن يرفع فزَّاعة الإسلاميين ليحصل على المدد الممتد والمساندة بلا حد من القوى الغربية وعلى رأسها أمريكا خارجيا، ومن النخب العلمانية أو المتخوفة من التغيير الجذري داخليا. * ومع مرور الزمن أفلح هذا الابتزاز في تحقيق أهدافه، واقتنع الكثير في أوطاننا العربية بأن التغيير غير ممكن، واتجه أغلب القوم إلى مسالك الخلاص الشخصي، وتفرق اليائسون على سبل شتى، منهم من انزوى وانسحب وانغلق، ومنهم من تشدد وتطرف، ومنهم من ضاقت به الأرض بما رحبت فأجهز على نفسه في قوارب الموت أو نيران القنوط أو أي شكل من أشكال الانتحار، ومنهم من لحق بركب الانتهازيين وراح يبحث لنفسه عن مكان بين السابقين على طريق ذاك الشقاء ولو ببيع الضمير والتاريخ والمبادئ، وقلة قليلة بقيت ثابتة تؤمن بالمستقبل رغم كل الصعاب إلى أن انفجرت ثورة الشباب فغيرت العقول والنفوس والتاريخ. * لقد استطاع هؤلاء الشباب أن يفكوا اللغز ويكسروا تلك الحلقة الجهنمية بين الأنظمة العربية والأنظمة الغربية والحركات الإسلامية وأن يحرروا الأمة من حالة المراوحة العقيمة داخل هذه الحلقة التي طال مداها، لقد أسقطوا تِعِلَّة الحكام الفاسدين الذين نصبوا أنفسهم ضمانة منع الإسلاميين من الوصول للحكم لكي لا يحدث تغيير جذري تكرهه أمريكا وإسرائيل وتكرهه أقليات قوية ونافذة في الديار، وأراحوا ضمائر ونفوس من طال انتظارهم من الطيبين التواقين للإصلاح والتغيير. * إن هؤلاء الشباب جزء من هذه الأمة أصابهم ما أصاب الناس جميعا، قلوبهم مليئة بالحسرة والغضب وخيبات الأمل، وإنما الذي ميزهم أنهم استفادوا من تحكمهم في وسائل الاتصال الحديثة فاتجهوا إليها يعبرون عن آرائهم بلا رقيب، ويتكلمون ما يريدون بلا حسيب، ويفجرون غضبهم بألفاظ تخصهم بلا خوف من قريب أو بعيد، وفاء لأوطانهم وغيرة على أمتهم ، فبنوا لأنفسهم صروحا في الفضاء الافتراضي أخذت تنمو وتكبر بلا حدود والناس من حولهم بين غافل ومستهزئ، حتى إذا اشتد ساعدهم وقويت ثقتهم بأنفسهم وبكثرة عددهم قرروا النزول من فضاء الخيال إلى أرض الواقع فصنعوا المعجزة وصار الجميع يجتهد كيف يكون اللحاق بهم. * لقد حقق هؤلاء الشباب من المكاسب في بضعة أسابيع ما لم تحققه أحزاب عتيدة ومنظمات عتيقة، أسقطت نظاما كاملا في تونس، وفضحت وزلزلت نظاما عاتيا في مصر وجعلته يقدم تنازلات لم تكن تخطر على بال المصريين من قبل، وما هو آت أكبر بإذن الله، وجعلت كل الأنظمة العربية الأخرى تُقدمُ على خطوات في طريق الإصلاح كانت في حكم المستحيل في أذهان الحكام وأفهامهم. والأهم من ذلك كله هي الثورة الكبرى التي حدثت في عقول الناس بما يجعل الوطن العربي بعد هذه الأحداث غير الوطن العربي قبله، فلقد صار التغيير ممكنا والإقدام على صياغة البدائل للأنظمة الفاسدة متاحا بل واجبا. * إن واجب الأحزاب والحركات أمام ما قدّمه الشباب أن يحفظوا هذه المكاسب، أو على الأقل أن لا يخونوها بالدخول في مساومات مع الأنظمة الحاكمة لإنقاذها نظير مكاسب حزبية أو شخصية على حساب مكاسب الأمة والوطن، لا بد أن تفهم الأحزاب والجماعات والجمعيات بأن حتمية التغيير ماضية بهم أو بغيرهم، ولا بد أن تفهم بأنها يمكن أن تربح بالوفاء لموجة التغيير إذا استكمل مسار الانتقال الديمقراطي واستطاعت أن تطور نفسها في أجواء الحرية، لأن الكلمة ستكون عند ذاك للأكثر مصداقية والكفاءة والأكثر تنظيما وخبرة، ولتفهم الأحزاب والجماعات والجمعيات وخصوصا الإسلامية منها بأن الخصم الحقيقي لها وللأوطان إنما هي الأنظمة الحاكمة مهما أظهرت من لين ظرفي وتواضع مظهري، لأن عمق فسادها وطول انحرافها لا يسمح لها أن تصلح من ذاتها دون تدافع ولا ضغط ولا إكراه شعبي قوي متدفق. * إن التنازلات التي قدمتها الأنظمة العربية في مصر واليمن والأردن وليبيا والمغرب والجزائر وغيرها جيدة ومرحب بها، ولكنّ إنجاز التونسيين يجعلها نسبية وهي في كل الأحوال غير كافية وبعيدة عن السقف الذي يتيح إصلاح المنظومة السياسية العربية، فرفع حالة الطوارئ في الجزائر مثلا وما اتخذ من إجراءات في مجلس الوزراء السابق أمر مرحب به ولكنه بلا جدوى ما لم تتخذ الإجراءات الحقيقية لتحرير المجتمع المدني والعمل السياسي والفضاء الإعلامي بما يحقق فرصة حقيقية للتداول على السلطة والرقابة الفاعلة على المال العام والمكافحة الصارمة للفساد والمفسدين. * إن الجزائر ستكون حرة فيبرز فيها الإبداع الذي يحقق التنمية ويمنح العدل والمساواة حينما يصبح بالإمكان تأسيس الجمعيات والأحزاب بلا عراقيل، والتعبير عن الرأي بالمسيرات في العاصمة ذاتها مركز السلطة والقرار، وتحرير الجرائد من ابتزاز المطابع والوكالة الوطنية للإشهار، ومنع الحضر عن تأسيس الفضائيات وعدم تعطيل شبكات الإنترنت في كل الظروف والأحوال، واستقلالية القضاء والكف عن التدخل في شؤون الأحزاب والترجيح بينها والابتعاد عن كل أشكال التزوير الخفية والعلنية، ورفع اليد عن المنظمات العمالية وفسح مجال العمل والنشاط لمختلف النقابات، وإنهاء مرحلة مرشح الإجماع والتحالفات الصورية التي لا تقوم على البرامج والأفكار وتقاسم الأعباء، وفتح الأفق لبروز تنافس سلمي هادئ يتحمل فيه كل حزبي مسؤولية برامجه ورجاله حتى تصلح الطبقة السياسية فيصلح الوطن، فيعرف الناخبون من يحاسبون وعلى من ينتخبون وإذا سخطوا على من يسخطون. إن الانخراط في حتمية التغيير صارت مؤكدة، ومن الأفضل السير معها في هدوء وسلام وإلا فستكون الفوضى التي لن يسلم منها بلد، اليوم أو غدا، وهي فرصة تاريخية للنخب والأحزاب والمنظمات لإفهام الأنظمة ذلك لا يصح إغفالها ولا يجب تفويتها لمن عشق الحرية حقا وأحب الوطن صدقا وحلم بالنهضة فعلا.