من كان يصدق أن مغامرا من الاستخبارات البريطانية كان وراء تثوير قبائل العرب على سلطة الخلافة العثمانية مطلع القرن الماضي، فلا يستبعد أن يكون وراء هذه الثورات المخلقة من مضغة لم نشهد لها علقة نسخ من لورانس عربي جديد يوظف غضب الشعوب ليستبق بالثورات الموجهة ثورات حقيقية كانت ستحدث التغيير خارج سيطرة "الأخ الأكبر" * وردت علي رسائل كثيرة من القراء على موقع "الشروق"، وفي البريد الإلكتروني، تلتقي جميعها عند المطالبة بتوضيح الرؤية التي نظرت بها إلى انتفاضتي تونس ومصر، رسائل تقبلت مني في الجملة المنطق المتبع في التحليل، لكنها ظلت مشدودة إلى عقدتين كبيرتين، تمنعان عقل القارئ من التسليم بفرضية "الثورة المخلقة" أو"الثورة الاستباقية" كما عبر عنها أحد القراء: * * السهل الممتنع في تحريك الشعوب الساكنة * العقدة الأولى: تكمن في ذلك المشهد المهيب لحشود شعبية أكثر من مليونية خاصة في الحالة مصر، يرى القراء أنه لا يمكن لمجاميع الفيس بوك، أو لأي قوة تحريكها على النحو الذي رأيناه. والقراء هنا على حق بالنظر إلى تجارب سابقة، لم تكن القوى السياسية التقليدية بما في ذلك الإسلامية مثل الإخوان، لم تكن تقوى على تنظيم مظاهرة تزيد عن بضعة آلاف. * فما الذي حدث ليتحرك الشعب المصري بتلك الجموع التي لم تحرك في انتفاضة شعبية في العالم؟ وأنا أزعم أن ذلك ممكن في أي بلد، لو توفر لها ما توفر في تونس، وخاصة في مصر، شبهته بتركيب القنبلة الهيدروجينية، بتوفر صاعق أول يفجر قنبلة نووية بقوة الانشطار، تشكل بدورها صاعقا للقنبلة الهيدروجينية بقوة الالتحام، لتنتج قوة هائلة وموجة صدم هي التي نراها تنتقل بسرعة هائلة في معظم الدول العربية، وتعد بأحد الأمرين: إما استنساخ الحالة التونسية كثورة للطبقة الوسطى، تقف عند حدود ما حصل في دول أوروبا الوسطى، أو تدخل الدول العربية في حالة من الفوضى تفكك مؤسسات الدولة الهشة أصلا. * الصاعق التقليدي وفر في تونس بتلك الاحتجاجات الغاضبة التي انطلقت بعد حادث انتحار الشاب البوعزيزي، والتي انتهت باقتلاع رأس السلطة في تفجير أخير، تم بشارع بورقيبة يوم رحيل بن علي، تحت ضغط وتخويف من قيادة الجيش لبن علي سبقها تفكيك للمنظومة الأمنية وإخراجها من الساحة. مظاهرة من عشرة آلاف مواطن أمام وزارة الداخلية تقتلع بن على في ساعات في مشهد غريب للغاية لن يتوقف عنده الإعلام العربي والغربي بما يحتاجه من تحليل. * * ادخلوا شوارع مصر إن شاء الله آمنين * الانفجار النووي التونسي سوف يعمل كصاعق لانفجار أعظم بمصر، توفرت له كل الظروف، كانت ستنتهي بخروج الشعب المصري عن بكرة أبيه لو استمرت الاحتجاجات والاعتصامات لأسبوع أو أسبوعين آخرين: * العامل الأول: التفكيك المبكر والمنهجي للجهاز الأمني البوليسي الذي تم في الأيام الثلاثة الأولى، بتنظيم هجمات منظمة وفعالة من قبل مجاميع عسكرية وشبه عسكرية، أغلب الظن أنها تابعة للمخابرات المصرية، استطاعت أن تخرج مليونا ونصف مليون عون أمني من الساحة، حرر المتظاهرين من الخوف، وسمح باتساع ما أسميته ب "الديفرسوار" بميدان التحرير، على غرار الديفرسوار في حرب أكتوبر، ويبقى اختفاء الشرطة من مدن وقرى مصر في آن واحد لغزا محيرا، لم تحاول وسائل الإعلام تعقبه بالبحث والاستقصاء. * العامل الثاني: النزول المبكر للجيش بأعداد قليلة حتى لا تزرع الرعب، لكنها كافية لمنح الثقة للمتظاهرين، خاصة بعد إعلان الجيش في وقت مبكر أنه لن يتعرض للمتظاهرين، وأنه سوف يحمي حقهم في التظاهر السلمي، وقد أنجز وعده طوال الأسابيع الثلاثة. * * عين الإعصار لتفكيك دفاعات آل مبارك * العامل الثالث: تحقق بتنصيب ما أسميته ب "عين الإعصار" بميدان التحرير، الذي تحول مع البث المباشر على مدار الساعات، وإنزال عدد هائل من الدعاة، والمفكرين ورجال الدين، وخليط عجيب من المحرضين على الثورة، غطى الطيف الفكري والسياسي بالكلام، تحولت فيه نخبة من المفكرين والدعاة ورجال الدين والأكاديميين إلى ما يشبه "المحافظين السياسيين" في الثورة البلشفية والماوية. * ومع تفاعل العوامل الثلاثة التي وفرتها الجهة التي كانت تريد استعمال ورقة الشارع لتفكيك دفاعات الرئيس مبارك، وإضعاف القوى الرافضة للتغيير من حوله، وحمله على جملة من التنازلات. مع تفاعل هذه العوامل الثلاثة: إخراج الشرطة من الساحة، وحماية الجيش للتظاهر، وتنصيب بؤرة تحريض بميدان التحرير، تعمل بكفاءة وعلى مدار الساعة، فإن أي ملاحظ كان بوسعه أن يتوقع ذلك التدفق الشعبي الهائل الذي نقل احتجاج مجموعة الفيس بوك، إلى ما يشبه الثورة الشعبية، وأكاد أجزم أنه لو استطاعت جهة ما أن توفر نفس العوامل للشعب الصيني، لرأيت تدفق مئات الملايين من الصينيين لتفكيك النظام الشيوعي في بحر ساعة. * * خطاب الملالي في أشياع الموالي من السنة * العقدة الثانية التي منعت العقل العربي من أعمال أدوات النقد، والنظر في الاحتمالات الأخرى غير الاحتمال الثوري الذي فرض على الجميع، هو ذلك الإجماع والتوافق الذي حصل عند شريحة واسعة من المفكرين، ورجال الدين، والمحللين السياسيين، غطى الطيف بالكامل، من الشيخ القرضاوي وسليم العوا والهويدي، وجيل الدعاة الشباب مثل عمر خالد وخلانه، إلى المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، والسيد حسن نصر الله، مرورا ببقايا الفكر القومي والناصري، والشيوعيين، والعتاة من أقطاب الفكر العلماني مثل الدكتور حسن البنا حفيد وسمي مرشد الإخوان الأول، وزمرة من المفكرين العرب النورانيين المحترمين، من أمثال د. عزمي بشارة، ومحمد حسنين هيكل، وأقطاب أكاديميين عرب من مصر، ومن المهجر، حتى أني رأيت عزمي بشارة يتحول على المباشر بالجزيرة إلى مرشد للثورة أو على الأقل مستشار للثوار، ورأيت السيد حسن نصر الله يخاطبنا كما كان يخاطب بوش العالم بمعادلة "من ليس معنا فهو ضدنا" ويبشر السيد نصر الله من لا يقف مع الثورة بعذاب من الله شديد. * أسلم أن هذا الاجتماع قد أرجفني، وكاد يصرفني عن المنطقة الآمنة التي تحصنت داخلها منذ اندلاع أحدات تونس، وأتفهم قول القارئ "هل يعقل أن تكون الوحيد في هذا العالم الذي يدرك كل هذا الفيلم الخيالي... ويغيب عن كل المفكرين والمحللين والفضائيات والعلماء...؟ لا أعتقد... لقد خانتك أفكارك وذهبت بك بعيدا جدا". فمن أكون حتى أجالس هذه الصفوة من المفكرين والعلماء وكبار المحللين، ثم أتطاول عليهم بما تطاولت به في المقالات السابقة، فكان من حق القارئ أن يقول لي من تكون، وماذا تزن أمام من أسمته القارئة مريم من مصر بالشرفاء واستحلفتني بالله مع ذلك أن أوضح أكثر: "يا الله، يا ولي الصابرين، يا لها من فكرة رهيبة يا سيدي الفاضل، هل يمكن أن كل هؤلاء المفكرين والنقاد وبعض الساسة الشرفاء، ورجال نشهد لهم بالنزاهة والوطنية مغيبون، ولا يدرون ماذا يراد بنا في الخفاء، هلا أكدت فكرتك هذه أكثر، هلا أوضحت أكثر حقيقة ما يحدث، استحلفك بالله العلى العظيم". *
* توظيف بالجملة لغضب أعيان الأمة * ليتذكر القارئ أني لم أتطاول على هذا الجمع الفاضل، ولم أصف أحدا، لا بالخيانة ولا بالعمالة، واكتفيت بتوصيف الحالة على أن ما حدث كان أشبه بما تفعله الآبار السود التي تستقطب المادة، وتجرها، وتطحنها في صهارة متجانسة، تخضع لقانون فيزيائي واحد. لم أسفه أحدا، ولم أخون رجالا شرفاء، ومفكرين عربا إجلاء تتلمذت على أيديهم عن بعد، وما زلت أحترم عقولهم وسعة علمهم. كل ما في الأمر أني أرى أنهم كانوا ضحية عملية توظيف غير مسبوقة، مثلما وظف الشارع المصري والرأي العام العربي لعملية تتجاوز مطالب الشارع المصري والعربي. * لقد تعلمت مبكرا، أن فهم مواقف الآخر، والإحاطة بدوافعه تحتاج منك إلى أن تنجز "قطيعة ابستملوجية" مع مرجعياتك، ومع أهوائك وتطلعاتك، ثم تنتقل بعقلك إلى الموقع الذي يقف فيه الطرف الآخر، لترى الأشياء من نفس الزاوية التي يطل بها على المشهد، فماذا كان يرى الطرف الأمريكي الذي جعلت منه فاعلا رئيسيا في كل ما حدث... لقد رأى الطرف الأمريكي في وقت مبكر تهاوي النظام العربي الرسمي الذي استندت إليه الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة لعقود من الزمن، وكانت السفارات الأمريكية تتابع حالة التآكل من الداخل، والتفسخ المتلاحق، كما كانت ترى شوكة قوى الممانعة والمقاومة تتعاظم في مختلف الساحات، ومنها ساحة النخب الفكرية والإعلامية القومية والإسلامية، التي لم تعد تحتمل المهانات التي ألحقها النظام العربي بكرامة الإنسان العربي، كما كانت ترى في المقابل تراجع القوى الليبرالية والعلمانية، وما يمكن أن يوصف بالقوى غير الإسلامية والقومية، الذي ارتهن حراكها بخط دفاع هش، حملها على الدفاع رغم قناعاتها عن أنظمة مستبدة، معادية للقيم الليبرالية والعلمانية، لكنها تبقى في نظرهم حامية لقلاع العلمانية والليبرالية من تسونامي إسلامي متوقع، متى حصل أي انفتاح ديمقراطي حقيقي. *
* صراع "الدايات" على توليد المشرق الجديد * جميع هذه القوى، ومن منطلقات ودوافع مختلفة كانت متعطشة للتغيير، ولإسقاط هذه الأنظمة الفاسدة، وأنه كان متوقعا منها بالضرورة أنها سوف تتعاطف في الحد الأدنى مع أي حراك شعبي يرفع شعار "إسقاط النظام" وهو ما حصل، ليس من باب العمالة، ولكن من باب "التوظيف" وتقاطع المصالح، تماما كما وظف الغضب الشعبي في الأوساط الشيعية في العراق من النظام، ووظفت أحزاب وقوى المعارضة في عملية إسقاط النظام البعثي، ووظفت الأطماع الإيرانية المعلومة في العراق لدعم الغزو والاحتلال، ووظفت من قبل مخاوف إمارات وعروش الخليج من صدام بعد غزوه للكويت لتأمين الغزو والاحتلال . * لقد نشأ، منذ نجاح السيناريو التونسي، وهم لا يقاوم، وتطلع حقيقي إلى أن التغيير ممكن وبأقل الكلف، بل وأن ساعة الثورة الشعبية العربية التحريرية قد حانت، حتى أن المرشد الأعلى للثورة الإسلامية خاطب العالم العربي بلسان عربي مبين ليوصف ما يجري على أنه ميلاد مشرق إسلامي جديد، كانت مقدماته قد تحققت في التمكين لأحزاب إسلامية في العراق، والانتصار الساحق لفريق حزب الله في لبنان، والضربة القاضية التي وجهتها تسريبات الجزيرة لفريق سلطة أبو مازن. *
* إجماع مدني على مباركة انقلابات العسكر * والحال فإن أعظم إنجاز للطرف الأمريكي، لم يكن ترحيل بن علي، وتنحية مبارك، بل انجازه الأعظم هو أن تجمع الأمة العربية على هذا النحو، وبجميع أطيافها السياسية والدينية والفكرية، على مباركة انقلاب عسكري في تونس ومصر، ألبس رداء الثورة الشعبية، وأكاد أخترق جدران البيت الأبيض لأرى الرئيس أوباما وهو لا يصدق ما حدث وما يرى وما يسمع: مشايخ دين بحجم العلامة القرضاوي الذي بات مرجعا لأهل السنة، والمرجع الأعلى للثورة، وزعيم حزب الله، وتشكيلة ملونة بألوان الطيف الفكري والسياسي، يتوافقون على مباركة انقلابات عسكرية، أعادت تأهيل مؤسسة الجيش المصري، وغفرت لها قبولها بمعاهدة السلام، ومشاركتها في العدوان الثلاثيني على العراق، وسكوتها عن الحصار المتواصل لشعب غزة، وحمايتها لحدود الكيان الصهيوني، حتى أن المؤسسة العسكرية المصرية قد جددت في 18 يوميا عذريتها، وتحولت من كيان يحمي النظام، إلى مؤسسة تسوق للمصريين وللعالم كحامي لثورة الشعب. نتيجة مذهلة لا تقدر بثمن عند الطرف الآخر. * الآن وبعد أن اتضحت الصورة، وأحطنا -كما آمال- بخيوط الخدعة البصرية، وبالخطة البارعة التي جربت في تونس وتم تطويرها في مصر لإخراج الملايين إلى الشارع وقد أمنوا من البطش والقمع، وأدركنا سر ذلك الإجماع الحاصل بين قوى ومجاميع سياسية وفكرية ومذهبية كانت دوما متناحرة، لتتحد في تأييد غير مشروط لانقلابات عسكرية صرفة استعانت بغضب الشعوب، الآن يكون بوسع القارئ المشاهد أن يسترجع من الذاكرة مشاهد فيلم الأحداث، ويخضعها للنقد والمساءلة، وأنا على يقين أنه سوف ينتقل من مفاجأة إلى أخرى، ويكتشف كيف تم التلاعب بالعقل العربي في مناورة كبرى تفوق بكثير عبث "لورانس العرب" بالقومية العربية الناشئة مطلع القرن الماضي، وتوظيفها في استراتيجية الغرب لتفكيك الخلافة العثمانية. * لقد استوقفني حوار أجرته إحدى القنوات مع المستشار المصري البسطويسي، نائب رئيس المحكمة العليا، قال فيه إنه توقع، في مقال له نشر سنة 2008، سقوط نظام مبارك، واشترط له أن تسبقه انتفاضة بأحد الدول المغاربية تسقط رئيس الدولة، تجرر الشعب المصري من عقدته الأزلية مع زعمائه منذ العهد الفرعوني وتقديسه لهم. وما استنتجه هذا القاضي المصري يكون قد أخذ بعين الاعتبار عند كتابة سيناريو ما يجري اليوم في العالم العربي. *
* استدعاء الخيال لتقصي حقائق اليوم التالي * لقد آخذني الكثير من القراء بما اعتبروه غلوا في تحكيم الخيال، والركون إلى نظرية المؤامرة، وأنا أتهم نفسي بقصور فاضح في الخيال، لأني توقفت عند قراءة السيناريو المكتوب سلفا لتحريك المشهد، وأغفلت ما هو أهم، وأعني واجب الكشف عن دوافع الجريمة بدل البحث عن المجرم، والاستقصاء عن تداعيات اليوم التالي لهذه الفوضى المنظمة المسيرة والمتنقلة كالنار في الهشيم. وإني ممتن هنا للأستاذ رضوان بروسي، أستاذ العلوم السياسية بجامعة سعيدة الذي أرشدني إلى "أن التحليل الصارم والعلمي هو الذي يركز على اللحظة البعيدة، لا على اللحظة القريبة كما عبر عن ذلك "فرناند برودال" أي التحليل الذي يركز على الأسباب بكل متغيراتها ومآلات الأحداث طويلة الأمد" وهذا ما أدعو إليه القراء في المقال القادم لتدبره معا.