ثورة مصر تقص "شارب السلطة" وتعفو عن "لحية النظام" صمود مبارك أمام فعاليات الثورة والانقلاب المتواصل للجيش، أفسد اللعبة على الجميع، وفضح الإدارة الأمريكية، ووضع الجيش والمنتفضين في مأزق. * حتى أن المخرج الوحيد الباقي لمنع قيام سيناريو الكارثة، هو صدور البيان رقم اثنين الذي يحول البيان رقم واحد إلى انقلاب عسكري فعلي، يجبر الإدارة الأمريكية على تأييده وهي كارهة، وتلتف حوله الثورة وهي شاكرة، لأن الجميع اختار من البداية قص "شوارب" رأس السلطة والعفو عن "لحية" النظام. * على هذا النحو انقلب السحر على الساحر. ثلاثة أسابيع من العبث بمشاعر شعب عربي آخر، أخرجت له -كما زعمت وأزعم- ثورة من مجاميع الفيس بوك، وبترتيبات بين قوة عظمى وجيش، تقاطعت رؤاهم ومصالحهم عند الحاجة إلى قطع رأس السلطة والعفو عن النظام، لولا أن الرأس كان هذه المرة أصلب من رأس التونسي بن علي، فقاوم بكل الطرق مسارا انقلابا أريد تغليفه بإرادة الشارع المصري، لتدخل مصر منذ ليلة الخميس الجمعة في المجهول. *
* "ثورة" حسني مصر على حسين أمريكا * ففي حدود الساعة الخامسة من يوم الخميس كنا أمام مشهد انقلاب عسكري بصدور البيان الأول عن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أنتج فورا حالة من الترقب، ورفع سقف توقعات الشارع المنتفض إلى الحد الأقصى، أعقبه بيان بقرب إذاعة خطاب للرئيس المصري، وتوالت تصريحات من مصادر مسؤولة، منها وكالة السي آي إي ومسؤولين مصريين من الحكومة والحزب الحاكم، تجمع على أن الرئيس سوف يتنحى. وخرج أوباما ليدعو العالم إلى ترقب حدث تاريخي من مصر، ويقول إن الولاياتالمتحدة تقف إلى جانب الشعب المصري في مطالبه. * الساعة الحادية عشر ليلا، يبدأ التلفزيون المصري في بث خطاب الرئيس المصري المسجل، كان واضحا للجميع أنه تركيب من تسجيلين، بدأ الأول بقراءة من "التيليبرومبتر" والثاني من نص مكتوب، جدد فيه الرئيس المصري ما سبق أن وعد به من قبل، وأضاف إليه قراره بتفويض صلاحياته لنائبه عمر سليمان، لينزل الخطاب على الجميع كالصاعقة، لأن الساعات الست بين البيان رقم واحد لقيادة الجيش وخطاب مبارك رفعت سقف التوقعات، واشتغلت طاحونة ميدان التحرير الموصولة بالعالم في تحرير بيانات "انتصرنا". فما الذي حدث في تلك الساعات الست، وما الذي سيحدث بعد أن أضاف البيان والخطاب عناصر تهييج جديدة للمشهد الدراماتيكي الذي شهد هذا الأسبوع تغييرا في تركيبة المنتفضين، ودخول مجاميع شعبية غير "منضبطة". *
* عين إعصار "التحرير" الذي طحن العقل العربي * صمود مبارك أمام العمل الانقلابي المبرمج منذ البداية ليكون نسخة مكررة لتونس، كان يفترض أن تنتهي في بحر ثلاثة أيام، يلتحق بعدها مبارك ببن علي، صموده غير المتوقع رغم "خيانة" الحليف الأمريكي، والمعوقات التي زرعتها المؤسسة العسكرية أمامه، أفسد اللعبة على السحرة، لأن عين الإعصار التي ركبت بميدان التحرير كانت تتضخم لتتحول إلى ما يشبه "الآبار السود" في الفضاء الكوني التي تسحب، وتستقطب، وتلتهم المادة من حولها، ليجد السحرة أنفسهم أمام شارع مصري يتزايد بوتيرة هندسية، وترتفع معه طلباته، ليفقد الجميع السيطرة، وينفلق فجر الجمعة على يوم مفتوح على أخطر السيناريوهات التي أرجو الله أن يسلم منها الشعب المصري، فيخرج من هذه المحنة بسلام، وأقوى من ذي قبل. * قبل تدافع هذه الأحداث، كنت قد أنهيت مقالة الأسبوع، وكنت قد أفردتها بالكامل، وعلى غير العادة لنقل عينة من ردود القراء على مقالة الأسبوع الماضي لأنها جاءت برأي آخر، فيه كثير من المآخذ على التحليل، واتهمت بمحاولة تشويه "الثورة" المصرية، وبمآخذ أخرى، أرى أن المضي فيها بعد هذه التطورات، وافتضاح اللعبة الأمريكية بالكامل، ودخول المؤسسة العسكرية في ورطة، حتى أنه لم يبق من أفق للثورة سوى الانقلاب الصريح، أرى أن المضي في الرد على مآخذ القراء على مقالتي السابقة هو أفضل تعليق على التطورات التي لم تنته بعد. *
* الخيال والمخيال الآخر * جملة ما جاء في ردود القراء ما يأتي: "لقد خانك التحليل هذه المرة يا أستاذ، هذا السيناريو لا وجود له إلا في خيالك، وكل ما تقوله عن مؤامرة تم حياكتها في البيت الأبيض مجرد هراء لا أساس له من الصحة"... "إخراج الشعب بهذا الحجم للشوارع لا يمكن أن يكون بالتخطيط الخارجي بقدر ما يكون نابعا من يأس الشعب من الحاضر والمستقبل"... "لم أخالك مثبطا هكذا أستاذ حبيب" ..."لو كان صحيحا أن الفايس بوك له كل هذه المقدرة لماذا لم ينجح في إيران" ... "علي أن اعترف لك بأنك ذو خيال واسع.. وتؤمن كثيرا بنظرية المؤامرة"... "ما جاء في مقالتك هو تماما كالذي جاء في فتوى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ من أن الثورة فتنة، والقنوات الناقلة للحقيقة قنوات منحرفة"... "لماذا تحاول تشويه ثورة شباب عربي غير مسبوقة في تاريخ الأمة سوف تضع حجر الأساس لسيادة الشعوب وتحررها من قهر العملاء الطغاة" ... "أستاذ حبيب ما عهدناك متشائما إلى هذا الحد، أخالك فقدت الثقة في إمكانية إحداث التغيير في الجزائر نتيجة الإرهاصات التي مرت بها البلاد، ومررت بها أنت شخصيا". * تلكم آراء القراء، وأكاد أجزم أنها تعبر تعبيرا صادقا عن الرأي العام السائد الآن في العالم العربي الإسلامي. وأعترف أنني لو قلت ما قلته بين أهل ميدان التحرير، لحصل لي ما حصل لذلك الفنان المصري الشاب الذي كاد يرجم داخل ميدان التحرير، وأسلم أن الاستجاعة الحاصلة في الشارع العربي للحرية، وتطلع الإنسان العربي إلى رؤية ثورة شعبية عربية أصيلة تنتصر، وتطيح بالطواغيت هو تطلع مشروع، وأن أي تحليل قد يشتم منه محاولة تشويه الفعل الثوري كما قال الأخ ميلود من قطر يكون مرفوضا، بل إن الأخ عبد الحميد من الجزائر يقول إن التحليل يتقاطع مع فتوى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ. وقد أتفهم منطق القارئ الذي يقول: هل يعقل أن تكون الوحيد في هذا العالم الذي يدرك كل هذا الفيلم الخيالي... ويغيب عن كل المفكرين والمحللين والفضائيات والعلماء...؟ لا أعتقد... لقد خانتك أفكارك وذهبت بك بعيدا جدا". *
* صحافة ما يطلبه المستمعون * لنحرر الموقف بوضوح، ونزيل كل لبس، فأنا لست داعية، ولا مفتي الديار المصرية، ولا ناصحا اجتماعيا، أو عضو في جماعة حزبية أو تبشيرية، ولا أنا ناطق رسمي باسم الثورة أو الثورة المضادة. وكنت أعتقد أن ما يتوقعه مني القارئ هو أن أسخر عقلي وخبرتي لأساعده على فهم الأحداث، وأجتهد له بأمانة قدر المستطاع بعيدا عن الأهواء ومتحررا مما أحب أو لا أحب. فالقارئ الذي يتابع كتاباتي منذ عقدين على الأقل يعرف أهوائي، ويعرف تحديدا رأيي في النظم العربية المستبدة والعميلة، وموقفي من فسطاط الممانعة والمقاومة، وفسطاط الاعتدال والعمالة، وأنه ليست المرة الأولى التي أجازف فيها بالسباحة ضد التيار، وأخرج عن الإجماع، وأمرق عن الفكر الواحد حين أراه يستبد. * فهلا ذكرت قراء أسبوعية "الصح - آفة" بخروجي عن الإجماع عشية إجراء الدور الأول من التشريعيات سنة 91، حين دعوت قيادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى صرف النظر عن المشاركة، والبناء على ما تحقق لها في المحليات، وحذرتها وقتها من كيد السلطة وما في جعبتها من مكر، فجاءني الرد من أسبوعية "المنقذ" لسان حال الجبهة يتهمني بالعمالة للسلطة، ويصف أسبوعية "الصح - آفة" بأنها تحولت إلى أداة بيد المخابرات للطعن في "المسيرة الإسلامية الظافرة"، فكان ما كان، وأضاع التيار الإسلامي فرصة لم تتهيأ من قبل ولا من بعد في بلد عربي حتى اليوم، وانتقلنا من عرس الديمقراطية القصير إلى مأتم دام عقدا من الزمن بالكلفة التي يعلمها الجميع. *
* ثقافة التآمر على تآمر الساسة * هل كان علي أن أصدق الأسطورة التي صنعتها آلة الدعاية الأمريكية حول 19 فتى عربيا يخترقون أجواء بلد، كان لا يزال يعيش في أجواء الحرب الباردة، أم كنت مجازفا وقتها بمصداقيتي حين كتبت بيومية "الرأي" في اليوم التالي لأحداث 11 سبتمبر، واصفا ما حدث بالانقلاب والتدبير الكيدي لقوة من داخل النظام الأمريكي، تريد الدفع بالحكومة الأمريكية والشعب الأمريكي لتلك المغامرة التي فتكت بشعب ودولة العراق؟ أم كان ينبغي لي أن أتبع القطيع من صناع الرأي العام، فلا أبصر ما تفعله لعبة الأمم، ومصالح الدول الإقليمية بالشعب العراقي، حتى لا أتهم بالتعصب المذهبي ضد إيران الشيعية. وبوسع القارئ أن يكتب اسمي في خانة بحث غوغل ليجده قد وضع بأحد المواقع مع قائمة متهمة بالعمالة لحزب البعث، ومن رشاهم الراحل صدام حسين؟ أم كان علي أن أكون مع الجمع الذي يقول كبنت الصدى ما تنقله آلة إدارة الشعوب بالرعب والتخويف بطيف واسع من الأوبئة، والجائحات المروجة لسلع مركبات الأدوية؟ أم أسلم كما سلم الكثيرون ببراءة تسريبات ويكيليكس؟ * أحد الإخوة قال: إني أعترف بأنك ذو خيال واسع.. وتؤمن كثيرا بنظرية المؤامرة. وهو صادق، وقد أفاجئه بالقول إنني من الذين يؤمنون أن "السياسة هي مؤامرة منهجية مستمرة للخاصة من المستكبرين ضد العامة من المستضعفين" وبوسعي أن أرافع عن هذا الرأي بألف شاهد وشاهد من التاريخ الحديث والقديم. وفي الحالة التونسية والمصرية فما زلت عند رأي إلى أن تكذبني الأحداث والمآلات، حين ينجلي الغبار، وتهدأ النفوس، ويبدأ العقلاء في حساب المغانم والمغارم، كما فعلنا نحن في الجزائر منذ عشرين سنة خلت. *
* الاستعانة بعبد الله الصياد لإعادة العفريت إلى القمقم * يسأل أحد القراء: إلى أين تذهب الأمور؟ ويقول آخر لماذا تحاول تشويه ثورة شباب عربي غير مسبوقة في تاريخ الأمة؟. * إلى أين تذهب الأمور؟ لا أدري فقد أصبحت منذ أمس الجمعة في حكم الغيب، وليس لي أو لغيري سوى المجازفة باستشراف مؤسس على ما نراه من حراك لقوى تركب شارعا غاضبا قد تحرر من عقد الخوف، لتقوده إلى واحد من المسارين لا ثالث لهما: إما الاستمرار في الضغط العقلاني المحسوب، المؤمن من المحاذير، ومن الصدام مع الجيش، لانتزاع أكبر قدر من التنازلات قبل الخروج من الانتفاضة إلى السياسة، والبناء على ما تحقق حتى الآن، أو أخذه إلى صدام مباشر مع المؤسسة العسكرية والأمنية التي أخرجت من الساحة ولم تفكك، وعصابات القوى الكمبرادورية التي لن تعدم جندا في جغرافية البؤس بالعشوائيات المصرية، وذلك مخرج أرجو الله أن يحمي مصر وشعب مصر من أهواله. * ليس لي أية مصلحة في تشويه هذه "الثورة" وإن كنت لست من الدعاة إلى الثورة إلا في حالة ما توجبه الشرائع السماوية والوضعية على الشعوب للتحرر من مستعمر أو دفع قوة غازية. وبإمكان القارئ أن يفتح كتب التاريخ، ويتدبر المآلات الدموية لأكبر الثورات في القرون الثلاثة الماضية، من الثورة الفرنسية إلى الثورة الأمريكية والبلشفية والماوية وثورة الخمير الحمر وغيرها، أو يعود إلى ما آلت إليه ثورة القرامطة والزنج، وثورة عبيد روما. *
* البحث عن رفيق ثالث لنجوى بين مظلومين * لقد سألني أحد القراء: "أنا مظلوم فهل علي أن أثور وأزيل ما بي من ظلم أم لا؟ وهل علي أن أرضى بالظلم إذا كانت الثورة على الظلم ستعود بالنفع على عدوي؟" وأقول: لا أدري يا أخي ما ينبغي عليك أن تفعله. فأنا مثلك قد ظلمت، وأقصيت، وحرمت من حق التعبير وصودرت لي صحيفتان، وتوبعت في قوت أولادي، وأنا عاطل عن العمل منذ 1992 بلا أجرة ثابتة، ولا معاش ولا ضمان اجتماعي، ولو أني استسلمت لليأس لكنت قد التحقت في وقت مبكر بالأحراش مع من التحق بها، لكني أرى من حولي الملايين من البؤساء ومن هم تحت سقف البؤس، وأتفهم هبات الشعوب الغاضبة حين تضيق بهم الأرض بما رحبت، لكني لا أجد في نفسي الميل إلى دعوتهم لحراك ثوري يأكل لحمهم، لتأتي زمرة من محترفي السياسة تركبهم، تريد ترحيل عصابة من الحكام الفاسدين، واستبدالها بعصابة جديدة من الفاسدين حتى لو لبست رداء الديمقراطية، ورفعت شعار سيادة الشعب. * ولأني كمسلم، أحاول أن استرشد دوما بعقيدتي، واستخلص العبر من تعامل الرعيل الأول مع خياري الإصلاح والتغيير الثوري. فقد اجتهد سبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحسن بن علي، رضي الله عنهما، فوأد الفتنة، وحقن دماء المسلمين في ما سمي بعام الجماعة. واجتهد سبط رسول الله، صلى الله عليه وسلم، الحسين بن علي، رضي الله عنهما، حين استجاب لدعوة التغيير بالقوة، فكانت الفتنة التي أنتجت شرخا في الأمة يقسمها حتى يومنا هذا إلى فسطاطين متخاصمين في الحد الأدنى. *
* فتح في القلوب قبل فتح مكة * ثم إني مثل أي مسلم، يتأسى وجوبا بسيرة نبيه، صلى الله عليه وسلم، في السلم والحرب، أتوقف عند النموذج المثالي لما ينبغي أن يكون عليه التغيير والإصلاح. فقد ظلت دعوة التغيير المسترشدة بالوحي تدعو بالتي هي أحسن لأكثر من عقدين من الزمن، ونال أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، من القمع والتعذيب، والتهجير والسطو على ممتلكاتهم، فوق ما ألحقه طغاة مصر وتونس بشعوبهم، وكانت بدر وأحد من معارك الدفاع عن النفس بنص الآية "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير" وجاء يوم الفتح، وقد تغيرت موازين القوة لصالح المستضعفين، وكان من بينهم بلال وما بقي من آل ياسر، ممن تعذب على يدي طواغيت قريش، وكان بوسعهم التنكيل بقريش، والمطالبة بدماء زهقت بالباطل، ويطالبون بأموال سلبت عنوة، وينادون بإقامة المحاكم وأخذ القصاص، واسترداد ما نهب، لكن الرسول الأعظم، صلى الله عليه وسلم، أمن روعة أعداء الأمس حتى قبل أن يدخل مكة، وقصد إلى مؤسسة الفساد الأولى، مؤسسة الحكم الوثني فهدم أصنامها، وقبل إسلام وتوبة هند التي لاكت كبد عم رسول الله، فكتب الله له الفتح المبين ليس مكة وحجارتها، ولا نوادي الحكم لسادة قريش، بل فتح الله له صدور الناس، وتألفت له قلوبهم. هذا ما لا أراه في "ثورة" تونس ولا في "ثورة" مصر حتى أدعوك وأدعو نفسي إلى مثلها.