أجدني اليوم في حاجة إلى مراجعة بعض أفكاري، في ظل تداعيات في الوطن العربي، تنهار فيها الدولة القطرية بالكامل تحت مسميات مختلفة، أبرزها عبارة الثورة، فكلّ من يقف في ميدان عام يعتبر ثائرا من أجل تغيير وضعه، بما في ذلك حقوق الراقصات في أن يتمتعن بمزيد من الحرية، وإذا نظرت إلى هذا الفعل الإنساني والحديث هنا لا يخص الحق من عدمه من زاوية مختلفة فاجأك الذين يطالبون بالحرية والديمقراطية والكرامة بديكتاتورية تشي بأنها ستكون أبشع مما عشناه في السنوات الماضية، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الثورة والثوار.. آه ما أشبه يوم الذاهبين بحاضر القادمين، وقد يكون شبيها بغدهم أيضا، وبما أن الأفكار تزرع إذا كانت كلمات طيبة، لتؤتي أكلها بعد حين بإذن ربها، فدعونا نميز بين الأباطيل والحقائق، فما أكثر ذكر الشيطان في القرآن مع أن مأواه جهنم وساءت مصيرا. * أتناول هذا الموضوع بهدف الدخول في حوار مباشر مع كثير من القراء الذين خالفوني الرأي، لدرجة أن بعضهم أعتبرني غير واعٍ بالأحداث الجارية، وبعضهم الآخر اتّهمني بالولاء للأنظمة، فلهؤلاء أقول: أنا سعيد بذلك، والحياة تقوم أساسا على التنوع والاختلاف، لتنتهي إلى التعارف، لتكون كرامة الإنسان في تقوى الله، لذا فإن الجنوح إلى الحماس أو حتى التفاعل الإيجابي مع الأحداث الجارية أو الانخراط فيها يحدد مبتغاه الخالق وحده، تماما كما أن رفضها أو التحفظ على بعض ممارساتها ستكون ضمن العرض الأكبر، وفي الحالتين فإن النوايا هي المحرك، ولكن الإيمان ما وقر في القلب وصدّقه العمل. * وبغض النظر عن تعدد الرؤى حول الأحداث الجارية في دولنا، أليس الأفضل هو التأسيس لأيّ عمل نقوم به، خاصة إذا تعلق الأمر بمصير الدول؟ لهذا علينا رفض ما يروّج هذه الأيام من مقولات أهمها: أن الانتفاضات المتتالية من تونس إلى البحرين أعمال عفوية، صحيح هي نتاج أنظمة فاشلة وشعوب مقهورة ومظلومة، ولكنها تتقاطع مع مصالح غربية في المنطقة، أي أنها ليست أعمالا وطنية خالصة، وهذا لا ينفي وطنية وصدقية وشجاعة كثير من القائمين بها. * ولتأكيد التأسيس النظري للتغيير في الشق الذي يخصّني أحيل القارئ إلى كتاب ألفته مع زوجي "شهرزاد العربي" صدر عن الزهراء للإعلام العربي سنة 1992 في القاهرة، بعنوان "الجهاد والثورة"، وبالرغم من أن الكتاب لم يوزّع في الجزائر، وكنت في ذلك الوقت (رئيس تحرير الشروق العربي)، فإن الأجهزة الأمنية الجزائرية أخضعتني للمساءلة بناء على تقرير وصلها من سفارتنا في القاهرة، اعتبر الكتاب رافدا ودعما ثقافيا ومعرفيا للجبهة الإسلامية للإنقاذ، بل أن بعضا من الأصدقاء الذين أهديتهم الكتاب تعرّض للمضايقات أيضا، وهي نفس الأجهزة التي سحبت كتابي "فصول من قصة الدم في الجزائر" ومنعت تداوله داخل الوطن في معرض الجزائر الدولي بعد أربع سنوت من طبعه في القاهرة. * كتاب "الجهاد والثورة" دراسة مقارنة، يخلص إلى أن الثورة ليست جهادا وعلى المسلمين أن يميزوا بوضوح بين الأمرين، ما يعني أن كل الثورات التي قام بها المسلمون في الماضي ضد المستعمِر، أو تلك التي يقومون بها اليوم، كما هي الحال في فلسطين والعراق وأفغانستان، هي جهاد، ولا يمكن اعتبارها بأي حال من الأحوال مجرد مقاومة، أو إرهاب.. وعلى الذين أخذتهم العزة بآرائهم أو أفعالهم، ويلبسون إيمانهم بظلم، أن يكونوا صادقين مع أنفسهم، إذ كيف لنا أن نناصر الليبيين اليوم ونؤيد حظرا جويا على بلادهم، يعيد قوات الغرب إلى الأرض العربية، ويجعل من ديار المسلمين ديار حرب، متخلين عن الواجب الشرعي المتمثل في الإصلاح بين طائفتين مؤمنتين بغت إحداهما على الأخرى في مرحلة، ثم مقاتلة التي تبغي بقواتنا نحن وليس قوات العدو في مرحلة ثانية؟ ثم نعتقد واهين أننا سنكون بمنأى عن ذلك في المستقبل القريب، بما في ذلك إشعال فتن من أجل تنحّي كل الحكام العرب. * لقد كنت ضد التوريث في الأنظمة الجمهورية منذ أن غيّر الدستور في سوريا من أجل وصول الدكتور بشار الأسد إلى سدة الحكم غداة وفاة والده، وبمباركة الحكومات الغربية، بما فيها الإدارة االأمريكية، جزاء لمشاركة سوريا بقيادة الرئيس حافظ الأسد في حرب الخليج الأولى من أجل تحرير الكويت.. آنذاك منعت مقالاتي في الصحف العربية الصادرة في لندن، مثلما منعت مقالاتي في الصحف المصرية حين كنت أشتغل هناك حين رفضت أن يطلق الإعلام والحكومة المصرية مصطلح البيعة للرئيس محمد حسني مبارك عند إعادة انتخابه، إذ اعتبرت مفهوم البيعة خاصا بالحاكم الذي يتبنّى شرع الله وليس حاكما لدولة مدنية. * وفي نفس السياق، كتبت ذات مرة في جريدة "الحياة اللندنية"، أن الجغرافيا، خاصة الجبال، كما هو الأمر في الجزائر واليمن، ستكون حامية للذين يرفضون ظلم الأنظمة وستؤدي إلى وقائع على الأرض، وبعدها بسنوات وبعد أن عزمت القيادة اليمنية على أن تقوم بحرب بالوكالة عن الولاياتالمتحدة ضد القاعدة، كتبت عن ما يعرف بالاستعمار الوطني، وذلك في سياق التأسيس لفكر تغييري هادف، وهو ما ذهبت إليه في مقال عن الإصلاح في الوطن العربي بناء على التجربة الجزائرية، فوجدت الأستاذ فهمي هويدي يتصل بي ليقول: إن الموضوع هام، فكان تعليقي بعد شكره: لماذا لا تتطرق في كتابتك للإصلاح في مصر؟.. وفي لقاء جمعني مع الدكتور عبد الصبور شاهين يرحمه الله في 1995وقد تعرفت عليه قبل ذلك ب12 عاما سألني: ماذا فعل بكم الجنرال محمد العماري، أجبته بسؤال: ماذا فعل بكم أنتم في مصر المشير حسين طنطاوي، واعتقد أنه اليوم وبعد 16 سنة سيفعل في مصر وشعبها الكثير. لا ندري إن كان يريد بهما خيرا أم شرّا. *
* وحتى لا يعتقد القارئ أنني أتحدث بعيدا عن التجربة الجزائرية، فإنني كنت مساهما فيها بكتاباتي في كل المواقع خارج الوطن، حيث كنت ولا أزال متحمّسا لتجربة الرئيس السابق اليمين زروال، وحين ترشح عبد العزيز بوتفليقة كنت مناصرا ومؤيّدا له سرّا وعلانية، على اعتقاد أنه خليفة شرعي للزعيم الراحل هواري بومدين، لكن بعد فترة حكمه الأولى غيّرت رأيي، ولم أمنحه صوتي وقلت هذا علانية وينطبق هذا على الفترة الحالية، حيث اعتبرته أنه قد أتى أمرا نُكرا، وصرحت بذلك في عدد من الفضائيات، خاصة بعد أن ألغى الانجاز الدستوري والسياسي الذي حققه زروال.. أقصد تحديد فترة ترشح الرئيس بفترتين فقط.. المدهش أن النواب في مجلسي الشعب والأمة، وكثير من المثقفين والإعلاميين، أيّدوا ترشحه لفترة ثالثة، وأصحاب المصالح يعملون من أجل بقائه في الحكم مدى الحياة. * لكن اليوم أقف في صفّ الشرعية في الجزائر، أي مع الرئيس بوتفليقة وذلك لثلاثة أسباب رئيسة، أولها: الوقوف إلى جانب الشرعية الدستورية، ثانيها الدرس الجزائري من سنوات الإرهاب بغض النظر عن المتسببين فيه والمستفيدين منه، وثالثها: التدخل الخارجي السافر في الشؤون الداخلية للدول العربية. * بناءً عليه، فأنا لا أودّ أن أكون متناقضا مع فكرة التأسيس للتغيير، فإما أن يكون إسقاط الأنظمة ظاهرة صحية حتى لو فقدنا الأمان، والجزائريون يعرفون هذا أكثر من إخوانهم العرب، وإما أن نسعى إلى إصلاحات تبقي الدول، ولا تنتهي بها إلى الاحتلال. * برؤية أكثر صراحة، لسنا على استعداد أن نفقد الأمان بعد أن عاد وما كنا نعتقد عودته، ويكفي أن مصر اليوم لم تعد آمنة وعليها أن تنتظر ذلك لسنوات. سيقول الذين يشعرون بسعادة اللحظة الراهنة، أن التغيير يستحق هذا ولا أحد يقول بعكسه، لكن عليهم ألا ينسوا أن للصبر حدود، وليحذروا الدخول في مزيد من شق الجبهة الداخلية، وهذا يتطلب الكف عن تقليد الفتنة المصرية. كما أن ليبيا ليست منّا ببعيد، فالدفع بها نحو مزيد من الفتنة، سيجعلها قنبلة تنفجر، وستصيب شظاياها عشيرتها الأقربين في مصر وتونسوالجزائر، وما يسري عليها يسري على الجميع، فإذا قال بعضنا إنها وصلت إلى ذلك، لأن فيها رجل مريض، فلينظروا حولهم ليروا في كل بلد عربي كم عدد المرضى الذين يحكموننا، والذين ينظّرون لنا، والذين أحلّونا دار البوار وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. * [email protected]