إعراب الخيانة وصرف أفعال التآمر لابد من نحو جديد لأعراب جمل العرب المفككة، وتجديد قواعد صرف أفعال تآمر نخبهم الساقطة حتى نستوعب رطانة اللسان الذي ينطق به عرب هذا الزمن، الذي لم نعد نحتاج فيه إلى إسقاط نظم ساقطة أصلا بقدر ما نحتاج إلى إسقاط ثقافة الخيانة المستشرية، واستئصال أفعال تآمر العرب على العرب. * هكذا، تنفذ الشرعية الدولية الساقطة. قرار تصادق عليه عشر دول، وتمتنع خمس، منها الصين وروسيا والبرازيل والهند وألمانيا الغربية، قرار يمنع الدولة الليبية من استعمال طيرانها الحربي في التصدي لتمرد مسلح حقيقي تابعنا فصوله خلال شهر. هكذا تجسّد ما يسمّى بالشرعية الدولية التي اتخذت من مجلس الأمن أداة تكاد تكون متخصصة في تأديب "المارقين" من العرب. * قبل التصديق على القرار بساعات، كان الطيران الأمريكي في أفغانستان قد قتل 35 من شيوخ قبائل البشتون في وزيرستان، وكان الطيران الصهيوني يخترق أجواء لبنان الذي كان العراب العربي لقرار الحظر الجوي يداً بيد مع الدولة الاستعمارية الفرنسية وما بقي من الإمبراطورية البريطانية. *
* الأجوف والمعتل من الأفعال الناقصة * حتى الدول التي كانت تدّعي بعض الصداقة للعرب مثل الصين وروسيا اكتفت بالامتناع، حتى أني لا أكاد أتذكّر حالة واحدة استفاد منها أيّ قطر عربي أو إسلامي من لجوء إحدى الدول الخمس للفيتو، بل إن آخر فيتو شهده مجلس الأمن منذ أسابيع فقط كان أمريكيا ولصالح إسرائيل طبعا لحمايتها من مطلب الفلسطينيين بوقف الاستيطان. ويبقى امتناع الدول الخمس وتحفّظاتهم أفضل بكثير من تصويت لبنان لصاح القرار، في تعبير مقزّز عن ثقافة الحقد والثأر الشخصي التي يتعامل به الحكام العرب مع أشقائهم. * ليبيا استقبلت القرار بكثير من الاستهزاء، لأنه لن يغيّر شيئا من الواقع العسكري على الأرض، لولا أنه سوف يساعد على خلق واقع على الأرض سوف يساوم عليه الشعب الليبي بالتمكين لميلاد كيان بشرق ليبيا سوف تعمل القوى الغربية ومن يتآمر معهم من العرب على دعمه وتسليحه لإطالة الفتنة والتمكين لحرب أهلية طويلة المدى إذا لم يتمكن الشعب الليبي من حسم الصراع قبل أن يشتد عود الكيان ويتحول إلى كردستان جديد. *
* جمع التكسير على لسان جامعة العرب * واقع سريالي، عجيب، مقرف، وحزين ذلك الذي آل إليه العالم العربي. ممثل لبنان في مجلس الأمن، الدولة التي تعرّضت لعدد لا يحصى من الاعتداءات الصهيونية والغربية، ويتعرض مجاله الجوى يوميا لخروق سافرة من قبل الطيران الصهيوني، نراه اليوم يقود باسم الجامعة العربية مشروع فرض حظر للطيران والحصار البحري على بلد عربي شقيق، وكل ذلك في عهد سيطرة فريق حزب الله المقاوم على الحكومة الليبية. * كيف وصلنا إلى هذا الوضع المزري، الذي تستعد فيه دول عربية لتمويل عملية حظر للطيران الحربي الليبي، بكلفة تعادل مليار ونصف مليار دولار شهريا، كما أكد ذلك وزير الخارجية الفرنسي، قيل إن دولا خليجية على رأسها قطر والإمارات تعهدت بدفعه؟ وكيف سوف نشرح للشعب الليبي العربي المسلم، اليوم وغدا، هذا الغدر العربي بهم وبدولتهم، وكيف سنتعامل مع نتائج العدوان حين تبدأ طائرات وبوارج حلف النيتو تدك مدن ليبيا، بحجة تحييد منظومة الدفاع الصاروخي الليبي؟ وكيف سنتعامل مع قوافل النازحين من الحرب التي سوف تدمر ليبيا كما دمر العراق وأعيدت دولة الصومال إلى ما قبل التاريخ؟. *
* إعراب المستعجم من جملة العرب المفككة * خلال الشهرين الماضيين كنت ألحق بنفسي أذى حتى أتأكد أني لست تحت تأثير كابوس، وأن ما أراه وأسمعه هو أضغاث أحلام ليس إلا، سوف تتبدد بعد أن أخرج من الكابوس، لكن الحقيقة أن ما نراه وما نسمعه هو كوابيس حقيقية عن عالم عربي نراه يتفكك أمام أعيننا داخل فوضى عارمة، جعلته منكشفا بالكامل أمام المغامرين في الداخل والخارج. * فقبل أن نصدم بحراك ذلك السفير اللبناني، وهو يحرك كالدمية بأروقة مجلس الأمن لإقناع المترددين من أعضاء مجلس الأمن بنص المشروع الذي حرّر بجامعة عمر موسى العبرية، لضرب شعب عربي شقيق، كنا قد تعرّضنا لصدمات متلاحقة ونحن نكتشف، مذهولين، مقدار الخراب الذي لحق بدولنا العربية ومؤسساتها، وحجم الدمار الذي أصاب مجتمعاتنا التي فقدت البوصلة، والفلتان الحاصل في سلوك النخب العربية التي توحّدت أخيرا حول مشروع هدم ما بقي من العالم العربي، ونخضع على مدار الساعة لهجوم إعلامي مركز يعمل على قتل العقل، وتمريغ الوعي في الوحل. *
* الظاهر والباطن من سوءات العرب * لقد زعمت في مقال سابق منذ شهرين أو يزيد أني قد أحطت ببعض فصول هذا الخراب، وعليّ اليوم أن أعترف أني لم أكن قد استطلعت سوى الحواشي والأطراف، ولم أرَ من هذا الواقع إلا ما يراه المشاهد لقطعة الجليد العائمة في المحيط. * فقد كنت على وفاق مع من كان يرى في الدول العربية، مجموعة من الدول الفاشلة الهشة، التي تسقط قواتها المسلحة أمام عدوان أجنبي في بحر ثلاثة أسابيع، غير أنه لا أحد كان يتوقع أن يسقط نظام بوليسي مثل نظام بن على في بحر 24 ساعة، لأننا كنا نجهل أن هذه الأنظمة إنما كانت تنفق الملايين من أموال الشعب على أجهزة بوليسية قمعية مأمورة بقمع الشعوب حين كان الغرب يحتاج لقمع الشعوب، ولا تتردد في "خيانة" الحاكم حين يأتيها الأمر بذلك، وكأنها خلايا نائمة زرعت في قلب الدولة، حتى أن ما حدث للأجهزة الأمنية في تونس ومصر شبيه بما حدت للجيوش في نكسة 67، وكنت سأصفّق لهذا الانكسار لو أنه جاء بدافع التعاطف مع الشعوب، والعزوف المشرف عن الدفاع عن رؤساء فاسدين مستبدين، لكن الحقيقة التي تتكشف يوما بعد يوم في تونس ومصر، أننا كنا موبوئين بأنظمة أمنية فاسدة مخترقة، لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن نأتمنها مستقبلا على أمننا وأمن دولنا وشعوبنا، ولا يمكن للحكومات التي سوف تنشأ في مصر وتونس أن تثق في هذه الأجهزة إلا إذا أخضعتها لعملية تطهير واسعة، وتسهر على إعادة بنائها وفق عقيدة قتالية جديدة، تحولها إلى أجهزة تعول عليها الأوطان في الدفاع عنها من الاختراق والعبث الأجنبي. *
* المبني للمجهول من ثوار 19 مارس * الانكشاف والوهن طال معظم مؤسسات الدول العربية، فتعرّت مؤسسات الحكم بالكامل، وافتضح وهنها، من أحزاب حاكمة كرتونية، وإعلام قاصر يتقلب في ولائه في بحر ساعة من الزمن، وقيادات سياسية ومرجعيات فكرية ودينية تتعاطى النفاق والتقيّة، وتقفز من السفينة الغارقة إلى ميادين التحرير لتركب الموجة مع الراكبين، هم عندي أقرب إلى جيش 19 مارس في الجزائر، وفلول دفعات لاكوست التي سرقت ثورة التحرير من المجاهدين ومن الشعب الجزائري، كما سوف تسرق فلول 19 مارس التونسية والمصرية ثمار الحراك الشعبي. * الخراب كان أوضح في صفوف النخب بجميع مشاربها، وقد وجدت نفسها متجاوزة من قبل حراك نشأ في البعد الخامس الافتراضي الذي قوّض المؤسسات التقليدية السياسية والفكرية، وسرق إدارة الشعوب من الأنظمة والدول ومن مؤسسات إدارة الرأي العام التقليدية. * فقد انكشف ما كانت عليه هذه النخب من هزال وزمانة فكرية وسياسية، وترهّل أقبح من ترهل وزمانة نظم الحكم، ورأيناها تتهافت على شعارات خرقاء حمقاء عدمية، مثل شعار إسقاط النظام والترحيل السريع لرؤوس النظام، دون أن تقدم جملة واحدة مفيدة عن طبيعة النظام الذي سيخلف النظام الساقط، إذا صدقنا أن ما حدث في تونس ومصر هو إسقاط لنظم، وليس محض استبدال لأحصنة نافقة، حتى أن الجدل القائم اليوم في مصر عشية الاستفتاء على التعديل الدستوري هو بين مؤيدين للقبول بهذا التعديل، الذي سبق أن عرضه نظام مبارك قبل الرحيل، وبين من يدعون إلى إطالة مدة المرحلة الانتقالية بقيادة مؤسسة الجيش لسنة أو يزيد. وقد انقسم "الثوار" إلى فسطاطين: أحزاب تقليدية عمرها من عمر النظام تريد التعجيل بالمسارات الانتخابية قبل أن تزاحمها قوى التغيير من صفوف الشباب، وشباب فاجأه ما تحقق من سقوط سريع للنظام قبل أن ينضج أدوات الدخول في التنافس للمشاركة في بناء البديل، وليس له اليوم أية ضمانات من احتمال عودة نفس القوى الفاسدة لتتبوأ المقام المحمود وتعتليه من جديد. *
* ثورة ثورة حتى الانكسار * ومع كل ذلك، فقد يكون حظ التونسيين والمصريين أفضل بكثير من حظ اليمنيين، الغارقين في أوحال ميادين التغيير بلا أفق للتغيير، سوى ما تتوعّدهم به أحزاب المعارضة ونظام الحكم من تصعيد قاتل، قد ينتهي بالحراك السلمي إلى الاحتكام للبنادق في بلد قبلي تنتشر فيه ما يزيد عن 60 مليون قطعة سلاح. * وقد يكون حظ هؤلاء وأولئك أفضل بكثير من حظ الليبيين الذين قادهم المغامرون من الداخل، والقوى العابثة من الخارج إلى مواجهة، تقدمها اليوم الفضائيات تحت عنوان الحرب الأهلية، وقد تنتقل هذا الأسبوع بفضل "المساعي الحميدة" لجامعة عمرو موسى إلى عدوان غربي، وربما إلى حرب إقليمية تساق إليها بعض الدول العربية. * عند هذا الحد من الجرد لهذا الواقع العربي المفكك والمنكشف، يكون لزاما علينا أن نتوقف مطولا عند القرار الخطير الذي صدر عن الجامعة العربية، وما يشكله من سابقة خطيرة على مستقبل شعوب ودول المنطقة. علينا أن نتذكر أن جامعة الدول العربية ظلت تتفرج على الشعب العراقي وهو يذبح ويسحق بآلة التدمير الشامل الأمريكيةوالغربية، ولم تكلف نفسها حتى بنص بيان يصدر عن أحد قممها التآمرية يدين العدوان في الحد الأدنى، ولم يكن عربي واحد يتوقع منها أن تقترب من مجلس الأمن لرفع الغبن عن الشعب العراقي، كما وقفت تتفرج من قبل على الشعب اللبناني وهو يذبح، ولم تتحرك لتحميل المجموعة الدولية مسؤولياتها حين كان شعب غزة يقتل. *
* يد موسى التي تجلد عمير * هذه هي جامعة عمر موسى الخائنة، التي يحزّ في نفسي أن عضوية بلدي فيها، بلد المليون ونصف مليون شهيد، يسمح لها اليوم بالتآمر باسمنا جميعا على شعب عربي شقيق، سبق أن خذلناه وتركناه يحاصر ويجوع لعقد من الزمن، بينما تداعى إلى نجدته الشرفاء من القارة السمراء. * في هذه اللحظات أشعر بالخزي والعار والمهانة أكثر من أيّ وقت مضى وأنا أرى هذا الحجم من الخيانة والغدر والتآمر، ليس من الأنظمة التي يئسنا منها منذ عقود، ولكن من هذه القوى السياسية المعارضة التي كانت تشاركنا في الموقف من النظم، فإذا بها تسفر عن وجه قبيح قذر، قد دمغت الجباه فيه بسمة الخيانة والتآمر، وموالاة أعداء الأمة من الغرب الصليبي، وقد التحقت بها نخب توحد داخلها دعاة الحداثة بدعاة "الإسلام هو الحل" ليترافع الجميع بضراوة على واجب نصرة التمرد في ليبيا ولو بالاستعانة بالشيطان الفرنسي والبريطاني والدجال الأمريكي. *
* اشتقاق فعل الخيانة من مصدر الإخوان * كيف أمكن للإخوان المسلمين أن يلطخوا الحركة ومعها الإسلام في هذه الدعوة القذرة لجلب الأساطيل الفرنجية لضرب أرض عمر المختار؟ كيف سيتعاملون مع هذه السابقة الخطيرة حين تدور عليهم الدائرة، وسوف تدور لا محالة، وتحرك ضدهم الأساطيل الصليبية إن هم وصلوا للحكم، إلا إذا كانوا قد دخلوا في ما هو ألعن من الخيانة والتآمر على شعب عربي مسلم؟ ألم يكن بوسع هذه القوى الإسلامية من الإخوان وغير الإخوان أن تحذوَ حذو التركي أردوغان، فتسعى إلى إصلاح ذات البين كما يأمرهم ديننا الحنيف، وإقامة الحجة على النظام الليبي حقنا لدماء المسلمين؟ أم أن الجزرة الحقيرة التي ألقيت لهم في مصر وتونس بإفساح مجال المشاركة في التنافس على السلطة قد أعمت عندهم البصيرة إلى حد الارتماء في جنة الدجال الأعور الأمريكي؟ * لقد كنت دوما من دعاة التمكين للمسلمين بإقامة الدولة التي يرتضيها المسلم لنفسه، والاستخلاف الذي وعد به المؤمنون، لكني أرجو الله أن يتوفّاني قبل أن تقوم دولة إسلامية تؤسس على هذا الجرف الهاري يستعان على بنائها بالأساطيل الصليبية. *
* المتعدي من أفعال الخيانة وأخواتها * وحيث لا تزر وازرة إلا وزرها، فإني لا أملك، مثل الملايين من العرب، سوى واجب الاعتذار للشعب العربي الليبي المسلم عن هذا التآمر الذي نفّذته شلة عمرو موسى باسمنا، وعن جريمة الخيانة العظمى ضد الأمة التي تشترك فيها اليوم الأنظمة والنخب الطامعة في إسقاطها حتى تأخذ نصيبها من العمالة. أفلا يخيفكم هذا الحجم من الخيانة والعمالة التي هي عندي أعظم وأخطر من أي فساد سياسي أو مالي ابتلينا به مع الأنظمة النافقة، لأنه يمكن محاربة استشراء الفساد كيفما كان وتطهير الأمة منه مع الزمن وبقدر من الجدية والحزم، لكن كيف سنتعامل مع استشراء ثقافة الخيانة على هذا المستوى في جسد الأمة؟ * "الثوار" من شباب العرب توقفوا عند رفع شعار إسقاط النظام، وترحيل رؤوس التيوس النافقة، بينما يحتاج العالم العربي إلى ثورة مستدامة تلاحق وتستأصل ثقافة الخيانة والتآمر التي تهدد اليوم مستقبل الأمة أكثر من أيّ فساد داخلي سياسي ومالي، وهي أخطر من أيّ استعداء أجنبي لأن عكة لم تسقط إلا على يد خائن.