سقوط تسعة شهداء من أبناء العثمانيين في أول معركة حقيقية وغير متوازنة لكسر الحصار الجائر على أهل عزة، عمد بالدماء صيغة جديدة للمقاومة الشعبية التي تستطيع تغيير موازين القوة ومجرى التاريخ، حين تيأس الشعوب من حكامها، وتقطع حبل الرجاء من مؤسسات الشرعية الدولية. وإلى أن تعمم هذه الثقافة فإن فك الحصار على عزة يحتاج إلى فك الارتباط وقطع التطبيع مع الولاياتالمتحدة الراعي الرسمي للمشروع الصهيوني الآثم. * المجزرة التي ارتكبها الكيان الصهيوني في حق الفرق الخيرية على متن أسطول الحرية، قد لا تكون الأخيرة في قائمة طويلة من الجرائم التي ارتكبها الصهاينة منذ أكثر من ستة عقود، لكنها يقينا هي الجريمة المجانية التي أفاضت الكأس، وجاءت نتائجها بالكامل على عكس ما تشتهيه سفن الصهيونية وحلفائها. ولعل الشهداء التسع الذين سقطوا تحت الرصاص الصهيوني الأعمى قد غيّروا بلا رجعة مجري التاريخ في المنطقة، وخلقوا موازين قوة جديدة، سوف تنقل القضية الفلسطينية من صراع عربي صهيوني، إلى صراع بين الصهيونية العالمية والعمق الإسلامي لفلسطين، بعد دخول تركيا المسلمة حلبة الصراع، لتضاف إلى إيران كقوتين إقليميتين معنيتين بالصراع. * * حق المجرم في الدفاع عن النفس الآثمة * ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الصهيوني، لم تجد إسرائيل جهة صديقة تلتمس لها الأعذار عن جرائمها، باستثناء الولاياتالمتحدةالأمريكية، التي اجتهدت كالعادة من أجل إفراغ بيان مجلس الأمن من محتواه، وأناب جون بيدن عن رئيسه المحرج أوباما، في البحث عن بعض المسوغات لهجوم بربري على قافلة إنسانية، ليس له في التاريخ المعاصر نظير. ومع أن الآلة الدعائية الصهيونية، المؤازرة بالإعلام الغربي المنحاز، قد اندفعت بقوة لتسويق كذبة "الدفاع عن النفس" واتهام النشطاء بإطلاق النار على قراصنة الجيش الإسرائيلي، فإن ردود الأفعال لدى الرأي العام الدولي كانت كارثية على الكيان الصهيوني، ففضحته ككيان إجرامي، وكدولة مارقة تسخر من القانون الدولي، أكثر من أي عدوان صهيوني سابق، بما في ذلك عدوان 2006 على لبنان، وعدوان 2009 على غزة. * وإذا كانت إسرائيل قد خسرت في العدوانيين على لبنان وغزة هيبة جيش، كان يرعب قادة الجيوش العربية، فإن عملية القرصنة والاعتداء الهمجي على سفن مدنية في المياه الدولية قد كان لهما تداعيات لا تحصى، لم يأخذها الكيان الصهيوني بالحسبان، علينا أن نحصيها ونبني عليها، ليس فقط في سياق الجهود التي ينبغي أن تتواصل لكسر الحصار، بل تحديدا في سياق إعادة توجيه إدارة الصراع مع هذه القاعدة المتقدمة للعدوان الغربي المتواصل على العالمين العربي والإسلامي، واستثمار حالة الضعف المتنامي التي لحقت بالمشروع الصهيوني الغربي، وهزائمه المتكررة منذ أن دخلت الشعوب ساحات المقاومات متعددة الأوجه، ومنها هذا النوع الجديد من المقاومة، الذي استخدمته فئة قليلة من متطوعي الإغاثة الإنسانية، معظمهم كان هذه المرة من العرب والمسلمين. * * "جيش الدفاع" الذي لا يخيف حتى المدنيين * الحقيقة التي تعرّت بالكامل في حادث القرصنة الصهيونية، هي أن الكيان الصهيوني قد أصبح عاجزا حتى عن إدارة اعتراض للناشطين من المجتمع المدني، ففشل في الأداء العسكري، بإجماع المحللين العسكريين الغربيين، الذين وصفوا العملية بالنعوت التي أطلقت من قبل على انكسار حملة نابليون عند نهر "بريزينا" في روسيا، كما فشلت في احتواء تداعياتها السياسية والأخلاقية، فضلا عن الشرخ الذي أحدثته في العلاقات مع تركيا، الدولة التي كانت تعد لعهد قريب من حلفاء إسرائيل. فقوات الكموندوس التي نفذت الهجوم ظهرت مرتبكة، غير قادرة على السيطرة على حفنة من المدنيين الذين تصدوا لها ببسالة، مسلحين فقط بشجاعتهم وإيمانهم بالقضية، فاحتاجت معهم إلى ساعات طوال من العراك، انتهى بقتل وجرح العشرات منهم، قبل أن تحكم السيطرة على القافلة. * والحال فإن إسرائيل، التي كانت تخيف وترهب جيوشا جرارة، لم تعد تخيف مدنيين عزل، بعد أن تآكلت قوتها في معارك جنوب لبنان وغزة على أيدي المقاومين، وبعد أن كانت تشكل رأس الحرب في الحروب الغربية المتواصلة على العالمين العربي والإسلامي، وصفها الاستراتيجيون بحاملة الطائرات لحلف الناتو في المنطقة، ها هي اليوم قد أصبحت عبئا على الحكومات الغربية، التي لم تعد قادرة على تحمّل الكلف السياسية لحماقات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، وقد بدأت هذه الرسالة تتكرر، ليس فقط في الإعلام الغربي، بل على لسان الساسة والدبلوماسيين الغربيين. * * الرعاية الأمريكية "السامية" للقرصنة الصهيونية * الحقيقة الثانية: هي أن الجريمة الصهيونية الأخيرة، ولأنها تمت في المياه الدولية، وضد مدنيين، من بينهم عدد من رعايا الدول الغربية، فإنها قد وضعت ما يسمى بالمجموعة الدولية في حرج عظيم، ظهر في التصريحات الرسمية للقادة الغربيين، ما بين مندد بحذر وهو محرج، وآسف على مضض لفشل العملية. كما ظهرت في الأداء السيّئ لمجلس الأمن، الذي آثر الخروج ببيان باهت أفرغ من محتواه، على الدخول في مواجهة مفتوحة مع الولاياتالمتحدة "الراعي الدائم" لجرائم الكيان الصهيوني. وقد جاء بيان مجلس الأمن كسابقة خطيرة ترفع الحرج عن الدول التي تريد أن تستنّ بسياسة إسرائيل، وتدخل في عملية القرصنة والاعتداء على الملاحة الدولية بحجة الدفاع عن أمنها. نفس المجموعة الدولية هي التي منحت سنة 2001 الضوء الأخضر لبوش لشنّ عدوان على أفغانستان، بحجة أنها تأوي قيادة القاعدة المتهمة بتفجيرات 11سبتمبر، هي ذاتها المجموعة الدولية التي وصفت حادثة قرصنة وإرهاب دولة على سفن، تحمل أعلام دول أعضاء في المجموعة الدولية، وصفتها "بالأحداث المؤسفة" وحرمت نفسها حتى من حق إخضاع "الحادث" لتحقيق دولي. * * شهادة عبرية على حصار العرب لغزة * تلكم هي المجموعة الدولية، والمؤسسات الشرعية الدولية التي هرول نحوها مجددا النظام العربي، ليتستر على إخفاقاتها وعجزه المرضي المزمن، وليتهرب من مسؤولياته المباشرة في الحصار المضروب على غزة. وربما علينا أن نذكر أن حصار غزة لم يكن نتيجة قرار من مجلس الأمن، لا تحت البند السابع ولا حتى السادس، بل هو قرار إسرائيلي صرف اتخذ سنة 2007 بعد فوز حركة حماس في الانتخابات، وهو ليس ملزما لأي دولة، وتحديدا لم يكن ملزما للدولة العربية التي لها حدود مع القطاع، حتى أن السفير الإسرائيلي في باريس احتج على مناظريه بإحدى القنوات الفرنسية بالقول: إن إسرائيل ليست وحدها من يفرض الحصار، ودعا إلى مطالبة مصر بفك الحصار عن غزة (هكذا؟). * والواقع أنه لا يوجد اليوم مواطن عربي واحد يلتمس العذر لهذا النظام العربي المتآكل، الذي يبدو اليوم أكثر حرصا على تجويع أهل غزة حتى تسقط حماس، كما اجتهد من قبل في تشجيع إسرائيل على مواصلة عدوانها على جنوب لبنان وعلى غزة حتى يستأصل حزب الله وحماس، ولأنه قد خابت آماله في المرات الثلاث، فإنه يظهر اليوم كأكبر خاسر إلى جانب إسرائيل، لأنه لم يفقد فقط ثقة مواطنيه واحترام الشرفاء في العالم، بل هو في طريقه إلى فقدان الإدارة الحصرية للنزاع العربي الإسرائيلي لصالح القوتين الإقليميتين الجارتين: إيران وتركيا. وربما يكون انزعاجه من الدور التركي أعظم، بحكم أن تركيا دولة سنية، غير متهمة دوليا بالمروق، يحكمها نظام ديمقراطي يحترم شعبه ورأيه العام، وهي فوق ذلك دولة عضو في حلف الناتو، وتربطها اتفاقية استراتيجية مع الولاياتالمتحدة وإسرائيل، لم تمنعها من مواجهة حلفائها بقوة، سواء أثناء العدوان الأمريكي على العراق، أو في العدوان الأخير على غزة، أو في العدوان الصهيوني على قافلة الحرية. * * القادة الجدد للبدائل عن سياسة الاستسلام * وسواء رضي بذلك الحكام العرب أم لا، فإن الرأي العام العربي والإسلامي ينظر اليوم إلى أردوغان، وحسن نصر الله، وخالد مشعل، وإسماعيل هنية كأبطال للأمة، وكقادة يمكن أن يأتمنهم على كرامته وسيادة بلده ومصالحها، ويرى فيهم، كلّ في موقعه، قادة للبدائل التي أعطاها النظام العربي بظهره. * فالمقاومة أثبتت إمكانية إلحاق الهزيمة بجيش العدو الصهيوني وحلفائه الغربيين، كما أثبت أردوغان، وأحمدي نجاد إمكانية إلحاق الهزيمة السياسية والدبلوماسية بإسرائيل بأقل كلفة، وأن العالم العربي لم يكن بحاجة إلى شن حرب، يدعي أنه لا يمتلك مقوماتها، بل كان يكفيه حسن إدارة المواجهة السياسية مع إسرائيل والغرب، وتفعيل أوراقه الرابحة التي لا تمتلكها، لا طهران ولا أنقرة. * لقد كان من السهل على النظام العربي تضليل رأيه العام حيال الدور الإقليمي لإيران، والتشويش عليه بدواعي مذهبية صرفة، فبرر مواقفه المخجلة من العدوان الصهيوني على لبنان بنفس الحجج المذهبية المقيتة، لكن العدوان على غزة "السنية" وانخراط تركية "السنية" في الصراع من بوابة مشرفة قد أطاح بتبريرات النظام العربي وأسقطها في أعين الشعوب، التي لم تعد تتحمل الاستماع إلى أمين جامعة الدول العربية وهو يحاول تسويق الخذلان العربي المستديم، والذي بدأ يتكشف يوما بعد يوم كتواطؤ مع الكيان الصهيوني، كما هو الحال في حصار قطاع غزة. * * محطة انكسار لمحور الشر والاعتدال * قافلة الحرية، لم تهزم إسرائيل وحلفاءها الغربيين، بل ألحقت هزيمة نكراء بمحور الاعتدال في النظام العربي، الذي سوف يخسر مع كسر الحصار على غزة آخر معاركه التي خاضها ضد مصالح شعوبه، وضد مسار التاريخ، لأن الاعتداء الصهيوني على القافلة سوف يؤرخ لبداية مرحلة جديدة في منطقة الشرق الأوسط، ووقوع انقلاب حقيقي في موازين القوة، فقدت معه إسرائيل آخر حلفائها في الطوق الثاني، وقد جاءتها الضربة مرتين على أيدي قوى إسلامية. فالثورة الإسلامية، التي قادها الخميني، نقلت إيران من حليف استراتيجي لإسرائيل، إلى خصم، استطاع أن يفتح معها جبهة متماسة في جنوب لبنان، كما أن وصول حزب إسلامي إلى السلطة في تركية بطرق ديمقراطية، هو في طريقه إلى فك الارتباط الاستراتيجي بين تركية وإسرائيل، والسعي إلى أداء دور إقليمي في الصراع العربي الصهيوني، حتى أن القادة الأتراك جعلوا من رفع الحصار على غزة شرطا غير قابل للنقاش، قبل البحث في إعادة تطبيع العلاقات، بما يعني أن تركية تكون قد اغتنمت هذه الخطيئة الصهيونية، لتتحرر بالكامل من تبعات علاقات ورثتها عن العهد الأتاتوركي العلماني، ولا يمكن أن تكون قد جازفت بهذه العلاقات، وتحديدا بعلاقاتها مع الولاياتالمتحدة، لو لم تكن قد حسمت خياراتها، وحسبت كلفة الدخول كلاعب إقليمي في الشرق الأوسط، سوف بضعها مجددا في خانة الخصومة مع الغرب. * * العثمانيون يعودون لقلب الخلافة الإسلامية * ليس بوسع أي ملاحظ، متابع للوضع في منطقة الشرق الأوسط، أن يحيط بكامل تداعيات عودة تركية، البلد المحتضن لدار آخر خلافة إسلامية، عودتها إلى قلب العالم الإسلامي على هذا النحو، وأن يكون أول المستفيدين من هذه العودة المحمودة هم الفلسطينيون، وأن يكون الخاسر الأكبر: إسرائيل ومعها محور الاعتدال العربي، الذي سوف يحسب ابتداء من اليوم ألف حساب لعودة العثمانيين للعب في ساحة العرب، وتقديم البديل الآخر لسياسة الاستسلام العربي الكامل خلف شعار "السلام خيار العرب الاستراتيجي"، لأن تركية، وهي التي لا تعطي ظهرها لخيار السلام، تقول للعرب إن السلام لا ينبغي أن يؤسس على حساب مظلومية الشعب الفلسطيني، ولا على حساب مصالح دول وشعوب الإقليم. * الآن وقد قدم الأتراك "الدفعة الأولى" من الشهداء لصالح القضية الفلسطينية، حتى وإن كانت لا تخلو من حسابات تبقى مشروعة ومبررة لدولة لها مصالح في الإقليم، فإنه ينبغي من الآن فصاعدا التعويل على مزيد من الحضور التركي في ملفات المنطقة، كان قد بدأ فعليا يوم أن فرض البرلمان التركي على حكومة بلاده منع القوات الأمريكية من العبور عبر الأراضي التركية لغزو العراق الجار، حين كان معظم القوات الأمريكية يتدفق على العراق من أرض عربية، رضيت أن تكون مغلوبة على أمرها، وتتخذ موطئ قدم وقاعدة إنزال لقوات، وصف قائدها العام بوش الصغير حملتها بالحملة الصليبية. * * المقاومة البديلة لمشاعر اليأس والإحباط * بعيدا عن لعبة الأمم هذه التي استوقفت المحللين، وأرقت قراءتها الكثير من العواصمالغربية والعربية، فإن ما أنجزته قافلة الحرية يفوق، في الحسابات السياسية والأخلاقية، ما حققته المقاومة الشعبية المسلحة في أكثر من ساحة عربية وإسلامية، لأنها كشفت للشعوب خيارا بديلا عن روح الاستسلام للأمر الواقع، ولمشاعر اليأس والإحباط الذي تولده حكومات بلدانهم بسياساتها الانهزامية. فكما أن المقاومة الشعبية استطاعت أن تحرر الأرض في لبنان وعزّة، وألزمت المحتل في العراق على تحديد تاريخ لجلاء قواته، وهي في طريقها إلى إلحاق الهزيمة بحلف النيتو في أفغانستان، فإن قافلة الحرية، التي هي شكل جديد من أشكال وصيغ مقاومة الشعوب لعبث الدول والساسة، سوف تنجح، لامحالة، في كسر الحصار الظالم على عزة من غير قيد أو شرط، وترسم الطريق للشعوب وللقوى الخيّرة في العالم، حين لا تستجيب الحكومات لنداءات العقل والحكمة. * وعلينا في العالم العربي، وقد غسلنا أيدينا من هذه الحكومات المنحطة الفاشلة، أن نتوقف عن تفعيل ظاهرتنا الصوتية وأسطوانتها المشروخة، ونبادر إلى تنظيم ألف قافلة وقافلة، ليس فقط لكسر الحصار على غزة، بل لكسر الحصار الذي تفرضه حكومات بلداننا على إرادتنا وحقنا في العيش بكرامة بين الأمم. * * مشاغلة العم صام قبل مشاغبة أبناء داوود * ربما يكون قد حان الوقت الذي نحتاج معه إلى لحظة مصارحة مع النفس، بدءاً بالتعرف على العدو الحقيقي المتستر خلف الكيان الصهيوني، وأن نتحرر كشعوب من هذا الوهم الذي يعبث بإدراكنا كما عبث بحكومات بلداننا؛ ذلك أن العدو والخصم الحقيقي ليس هذا الكيان البغيض الساقط لا محالة، بل إن العدو الذي ينبغي أن يواجه بكل أشكال المقاومة والممانعة هو الولاياتالمتحدةالأمريكية، والسفارات التي ينبغي أن تتوجه إليها حشود المتظاهرين هي السفارات الأمريكية، وأنها هي التي ينبغي أن تكون محل حملات المطالبة بوقف التطبيع. فهل أحتاج إلى التذكير أن المجرم نتنياهو الذي أمر بمداهمة قافلة الحرية، هو أصلا مواطن أمريكي مازال يحمل جواز السفر الأمريكي، مشمول بحق رعاية بلده التي لن تسلمه أبدا للقضاء الدولي، كما لن تتوقف عن رعاية الكيان المجرم إلا إذا توصلت المقاومة الشعبية لمحاصرتها وتهديد مصالحها في كامل ربوع العالم الإسلامي.