خبراء يؤكدون إمكانية شفائهم 5000 سرير لمليون مريض عقليا في الجزائر ! على الرغم من وجود نص قانوني أقرّه قانون الصحة لسنة 1985، إلا أن غياب نصوص تنظيمية في الوقت الراهن لحماية المصابين بالأمراض العقلية يحول دون حماية هذه الشريحة التي ما يفتأ حجمها يتوسع بنمو السكان، في ظل تراجع المنشآت المتخصصة باستقبالهم والتكفل بهم. وبينما كانت الجزائر تمتلك عشية الاستقلال مباشرة 6000 سرير مخصص للمرضى عقليا، هي اليوم لا تحصي سوى 5000 سرير، أي أنها فقدت 1000 سرير مما كانت عليه العام 1962 أمام تضاعف عدد السكان أربع مرات، في وقت لا يتجاوز عدد الأطباء المتخصصين 400 من بينهم خمسة فقط برتبة أستاذ. تحقيق: سليمة لبال تعرف الصحة العقلية في الجزائر تراجعا رهيبا تستطيع اكتشافه من ناحية طاقة الاستقبال المحدودة والعدد الرهيب الذي تعرفه شوارعنا لهؤلاء المرضى الذين يشكل انتشارهم خطرا عليهم بالدرجة الأولى وعلى المجتمع. المشكل يكمن في غياب مفهوم الصحة العمومية في وجود ثغرات قانونية لا تحدد المسؤوليات ولا الواجبات، وفيما كانت وزارة الصحة في وقت مضى تُعنى بالمشكل عن طريق مديرية فرعية، ها هي اليوم تغض الطرف عنه بعد أن حُلّت المديرية الفرعية نهائيا، وإذا ما كانت الوزارة الوصية تتجاهل الوضع وحقيقته، فما بالك بإدارات المستشفيات التي لا تولي أي اهتمام لهؤلاء المواطنين الذين يحق لهم قانونا العلاج، ما دام شفاؤهم ولو بنسب متفاوتة مضمونا حسب العديد من المتخصصين . القانون الجزائري لا يحدد المسؤوليات لنبدأ بطرح الإشكال، الذي يرتبط ارتباطا وثيقا بالواقع وبالقانون مباشرة؛ شوارعنا مملوءة عن آخرها بمواطنين مصابين بأمراض عقلية تتفاوت خطورتها من شخص لآخر، هناك من يبيتون في العراء، بعدما فضلوا الشارع على البيت، وهناك من يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى العامة، لكن ليس هناك هيئة عمومية بإمكانها نقلهم إلى المستشفى حيث بوسعهم الاستفادة من العلاج. وببساطة فإن استنجاد أي فرد منا بالشرطة لنقل احد أفراد عائلته المرضى عقليا للمستشفى فور اعتدائه على فرد آخر، يجابه بالرفض. وطالما لم تنفذ جريمة القتل ولم تسقط روح، فإن مصالح الأمن ليس بإمكانها التحرك، مثلما هو الحال بالنسبة لأعوان الحماية المدنية أو إدارة المستشفى أو عناصر الإسعاف التابعين "للسامو" أو المصلحة الجزائرية للطب الاستعجالي. إذن لا تقع المسؤولية على أي مؤسسة بالرغم من أن الحماية المدنية هي التي كانت تتكفل بنقلهم إلى المستشفيات أثناء الفترة الاستعمارية، ويقوم "السامو" الفرنسي حاليا بالدور في فرنسا، لكن في الجزائر وبعد أن تخلت الحماية المدنية عن ذلك لم يكلف المشرع أي مؤسسة أخرى به. طرق الإدخال إلى المستشفى في حالة الطب العقلي يحددها قانون الصحة المؤرخ في فيفري 1985، ضمن القانون رقم 55-05 المؤرخ في 15 فيفري 1985 المتعلق بحماية وترقية الصحة وذلك في الفصل الأول منه، مثلما تشرف ثلاث مصالح جهوية على إصدار الخبرة في مجال الطب العقلي الشرعي إذا ما تعلق الأمر بتجاوزات يفصل فيها قانون العقوبات. والمؤسسات المعنية هي مستشفى فرانز فانون بالبليدة بالنسبة لمنطقة الوسط ومستشفى واد العثمانية بالنسبة لمنطقة الشرق ومستشفى سيدي شامي بالنسبة لغرب البلاد، بينما لا تظهر منطقة الجنوب على الخارطة تماما. 5 أساتذة متخصصين في الجزائر كلها.. ونزيف الهجرة متواصل يقول البروفسيور كاشا فريد رئيس مصلحة الأمراض العقلية بالمؤسسة الاستشفائية المتخصصة في الأمراض العقلية للشراقة بأن الأرقام العالمية تشير إلى إصابة ثلاثة أشخاص بمرض عقلي بين كل مئة شخص، أي بنسبة 3 بالمئة، وهو ما يعني أن عدد المصابين في الجزائر يصل إلى قرابة المليون ويعانون سواء من داء البارانويا أو انفصام الشخصية أي السكيزوفرينيا أو الانهيار العصبي، وكلها أمراض عقلية خطيرة ومزمنة، تتطلب مرافقة صحية متخصصة وغاية في الانضباط في تناول الأدوية التي هي في غالب الأحيان مهدئات. وعن التكفل الصحي بالمرضى، قال البروفيسور ذاته أن الجزائر منذ 20 سنة خلت لم تقم بأي إنجاز في هذا المجال، في وقت تضاعف فيه عدد السكان وعدد المصابين كذلك بسبب المشاكل الكثيرة التي عرفتها البلاد خلال العشرية السابقة، ليضيف "الأخطر هو أننا نفتقد لبرنامج واضح المعالم ولسياسة مضبوطة، والخطير كذلك هو أن الجزائر تشهد يوميا إنشاء بنايات جديدة، لكنها لم تفكر في زيادة سرير واحد خاص بالمرضى عقليا حتى أن الإمكانيات المادية والبشرية لا تكفي للتكفل بهذه الأمراض المتعلقة بالصحة العمومية". وما ينقص حسب البروفيسور كاشا هو التخطيط، ذلك أن المرضى في غالبيتهم أناس معدمون بسبب بطالتهم والواجب هو إرادة سياسية للتكفل بهم. حتى إدارات المستشفيات يضيف البروفيسور يقلقها المرضى، فترفض إدماج مصلحة للأمراض العقلية داخل مستشفياتها والمطلوب هو الضغط عليها للتكفل بالمرضى وفق نقاط تواجدهم جغرافيا. تحتوي الجزائر كلها على 400 طبيب متخصص في الأمراض العقلية من بينهم خمسة أساتذة (بروفيسور)، اثنان منهم في العاصمة واثنان في البليدة بينما الخامس في ولاية عنابة. وحسب آخر المعطيات يكون قد توقف مؤخرا عن العمل مما يعني أن العدد قد انخفض إلى أربعة أساتذة فقط على الصعيد الوطني. يؤكد البروفيسور كاشا أن الطلبة كانوا قبل سنوات مضت لا يفضلون التوجه نحو تخصص الأمراض العقلية، لكن الأمور تطورت في الفترة الراهنة وصرنا نشهد تخرج من 30 إلى 40 متخصصا سنويا، لكن عشرة منهم يغادرون أرض الوطن بمجرد التخرج، فيما يكابد الباقون البطالة بسبب عدم توفر إمكانيات التوظيف، فيغادرون هم كذلك الوطن بسبب عدم الاهتمام بهم. وإلى جانب نقص الموارد البشرية سواء تعلق الأمر بالمتخصصين أو الممرضين المتمرسين والأكفاء، تعد الجزائر في الوقت الراهن منشآت متخصصة في كل من العاصمة وقسنطينة والبليدةوعنابة وسطيف ووهران وتيارت، وهي منشآت لا تكفي العدد الكبير للمصابين إذا ما علمنا بأن مستشفى فرانز فانون بالبليدة والذي كانت طاقة استيعابه تقدر ب2000 سرير قد تم تحويل 1000 سرير به إلى اختصاصات أخرى؛ الأمر دفع الوزارة من خلال مخطط أعدته في وقت سابق إلى تخطيط انجاز 6 مستشفيات خاصة بالطب العقلي في كل من ورقلة وسيدي بلعباس وغرداية وذلك في غضون سنة 2010، إلا أن الأمر ما يزال برنامجا فقط ويتطلب جهودا أكبر للاعتناء بهذه الشريحة خصوصا في المناطق الداخلية والجنوبية على الخصوص من الوطن. وإذا كان مرضى العاصمة على هذه الشاكلة، فإن الوضع أمرّ وأصعب في المناطق النائية. وعن الأدوية، قال البروفيسور كاشا أنها متوفرة على مستوى المستشفيات وبصفة مجانية، مؤكدا غلاءها حيث يتراوح ثمن القرص الواحد ما بين دينار واحد إلى 500 دينار، ليضيف بأن المطلوب حاليا هو خلق فضاءات لهؤلاء المرضى حتى يتمكنوا من استعادة هدوئهم خصوصا وأن الأمر ممكن عن طريق المتابعة الطبية، وذلك باللجوء إلى صيغ تعاون مع وزارة العمل والضمان الاجتماعي ووزارة التشغيل والتضامن الوطني، التي تلقى على عاتقها مهمة الاعتناء بهذه الشريحة التي هي في حاجة ماسة إلى تضامن وطني أكثر من أي فئة أخرى، ما دامت نسب نجاح اندماجها أكيدة، متى توفرت الإرادة السياسية لذلك. هل تنجز مستشفيات ورقلة وسيدي بلعباس وغرداية في 2010؟ يرجع البروفيسور كاشا المتخصص في الأمراض العقلية أهم الأسباب المؤدية إلى الإصابة بمرض عقلي إلى الاستعداد الوراثي ثم إلى الاضطرابات النفسية الصعبة التي يمر بها الإنسان في مرحلة الطفولة، لكنها سرعان ما تتحول إلى مرض عقلي بالخروج من مرحلة الطفولة والدخول في المراهقة وهناك تحدث الصدمة، عندما يبدأ الإنسان بالإحساس بجملة الفروقات الاجتماعية والنفسية بينه وبين الآخر، فيدرك مشاكله ولا يستطيع بالمقابل المقاومة، ليضيف بأن ثلث المصابين هم من النسوة، لكنهن في غالبية الأحوال هن مسالمات ولا يسببن أية مشاكل مقارنة بالرجال الذين يمثلون نسبة الثلثين المتبقية، ويسببون مشاكل عديدة كثيرا ما تنتهي باعتداءات على الآخرين سواء في الأماكن العامة أو على أفراد أسرهم. والمشكلة الأخرى أن العديد من الأسر لا يتوجهون إلى المتخصصين إلا بعد فوات الأوان، ذلك أن غالبيتهم يفضلون طرق أبواب الرقاة، بعد أن يتهيأ لهم إصابة المعني بالأمر بمس من الجن، لكنه في حقيقة الأمر مرض عقلي. البروفيسور ذهب أكثر من ذلك حينما أكد أن العقلية الجزائرية ما يزال يسيطر عليها أن كل ألم بالرأس يعني مسا بالجن، بينما لا يجد الجزائري مشكلة في الإسراع لطلب الطبيب مباشرة بعد أن يحس بألم في بطنه أو سائر جسده، وهو الأمر الذي يتطلب حسبه حملة توعية عامة من اجل إفهام العائلات بضرورة معالجة أفرادها. وأرجع البروفيسور كاشا أسباب عدم لجوء العائلات إلى الطب العقلي بعدم وعيهم من جهة وعدم إدراكهم بأن المرضى بإمكانهم التحسن متى عولجوا والتزموا بتناول الأدوية، وهو المشكل الذي يتلقاه الأطباء، ذلك أن العائلات لا تحرص على تمكين المريض من الدواء في الوقت المناسب حتى تعاوده النوبة العصبية وهو ما يعطل العلاج لفترة أخرى. ويلاحظ برأي الخبراء أن المرضى عقليا الذين ينتشرون عبر الشوارع والطرقات يموتون قبل المواطنين العاديين كما يصابون بأمراض أخرى ويتعرضون لحوادث قد تودي بحياتهم، ليشير إلى أن 70 بالمئة من محاولات الانتحار المسجلة يرتكبها مرضى عقليا في حق أنفسهم، وهي نسبة عالمية صالحة في الجزائر كما في غيرها، لكنها تتطلب تحركا سريعا من قبل الوصاية قبل وقوع الكارثة. يذكر أن المرضى عقليا يستفيدون من منحة شهرية، لكنها تظل رمزية مقارنة بالظرف الذي نعيشه، ذلك أن المطلوب من وزارة الصحة متابعة الملف عن طريق قرارات تنفيذية لتطبيق القانون والاهتمام بهذه الفئة التي تملك حق العلاج مادامت قادرة على الاستمرار في العيش.