* عشرون حالة سرطان غلاف الرئة في أقل من ستة أشهر * 31 عاملا ماتوا بالسرطان منذ سنة 1990 * وزارة الصحة ورئاسة الحكومة تطالبان بغلق المصنع نهائيا تحقيق: ليلى مصلوب توفيت الشابة نصيرة من حي لمهادة ببلدية مفتاح ولاية البلدية في الفاتح من نوفمبر 1997 بنوع خبيث من السرطان، ثم لحقتها زوجة عمها حورية، ثم مزيان المدرب السابق لوداد مفتاح وبعده اللاعب تشوك والقائمة طويلة للموتى.. هؤلاء الأشخاص يقطنون منطقة واحدة، ظهرت عليهم نفس أعراض المرض الذي شخصه الأطباء فيما بعد بأنه سرطان غلاف الرئة، ويسمى ب "ميزوتيليوم" تسببه مباشرة مادة الأميونت التي تصنع في بلدية مفتاح شرق ولاية البليدة وتهدد المنطقة بإبادة بشرية إذا لم تصدر الجزائر قرارا بالتخلي نهائيا عن تصنيعها. بدأ الحديث عن مرض غريب تفشى بقوة في منطقة مفتاح شرق البليدة في بداية التسعينيات بعد تزايد عدد الإصابات بنوع خطير من السرطان، وظهرت أعراض المرض على المئات من المواطنين، لكن لم يجرؤ الأطباء على الجزم بأن السبب الوحيد والمباشر في تفشيه يعود إلى مادة الأميونت المصنعة من طرف شركة المواد المشتقة للوسط لأسباب سياسية واقتصادية، نظرا لثقل الملف، وبدأت الأنظار تشد الى وجود خطر حقيقي ينبعث من المصنع الموجود على بعد كيلومتر واحد فقط من قلب المدينة التي يسكنها حوالي 78 ألف ساكن تعد سقوط العشرات من الضحايا بنفس المرض وظهور نفس الأعراض عليهم، كما أن المصاب بمرض سرطان غلاف الرئة يموت بعد أقل من سنة فقط، وتظهر عليه أعراض من الألم وفقدان الشهية ونقص في الوزن وتساقط الشعر وغيرها من الأعراض. ويتساءل الجميع عن سبب تمسك الدولة بثلاثة مصانع للأميونت أكبرهم في مفتاح والثاني في برج بوعريريج والثالث في زهانة بمعسكر، في الوقت الذي حظرت فيه أوروبا الشرقية وبصفة نهائية كل عمليات تصنيع الأميونت وتبعتها دول إفريقية وهي أنغولا، زمبابوي، جنوب إفريقيا وأخيرا مصر نظرا للمخاطر الصحية المترتبة عن هذه الصناعة. قرى منكوبة بالسرطان وعائلات تحصي موتاها أول عائلة زرناها فقدت ابنة لها في مقتبل العمر هي عائلة "نصيرة. م" بحي "لمهادة" في بلدية مفتاح، وهو حي شعبي يقع على بعد 3 كيلومترات من مصنع الأميونت، لم نكن نعرف أن قضية موتها التي مرت عليه تسع سنوات تقريبا ستقلب الجراح في المنطقة وتثير زوبعة من الاحتجاجات، فالسكان والعائلة المتواضعة يحملون الدولة مسؤولية موتها وموت الآخرين، منهم زوجة عمها السيدة حورية البالغة من العمر 50 سنة حيث توفيت بعد سنة من مصارعة المرض سنة 2001. الملف الطبي الذي أطلعتنا عليه العائلة يقول إن مريضها بسبب سرطان غلاف الرئة المتسببة فيه مباشرة مادة الأميونت، ويقول أحد أخويها إنهم تفاجؤوا بمرضها، لأنها لم تكن تشتكي من أي ألم، ولكن في وقت قصير فقدت الكثير من الوزن، وكانت تشعر بالألم في البطن وأعلى الصدر ودوار حاد مع التقيؤ الشديد وتساقط الشعر، ومكثت لفترة في مستشفى مفتاح، لكن الأطباء لم يشخصوا المرض، لأن التحاليل كانت تطول وتستغرق وقتا طويلا، فتم نقلها إلى مستشفى الرويبة بالعاصمة، حيث مكثت لمدة شهرين حيث أجريت لها تحاليل أخرى أكدت إصابتها بسرطان غلاف الرئة، وحسب شهادة العائلة فإن أول سؤال طرحه الطبيب "أين تسكن المريضة؟" فأجاب شقيقها "في مفتاح وأجاب الطبيب "لهذا السبب..". وتأكد الجميع من أن الموت له علاقة مباشرة بمادة الأميونت التي تدخل في صناعة هياكل البنايات و"الترنيت" وقنوات صرف المياه القذرة والماء الشروب وغيرها، خاصة بعد وفاة شابة أخرى تدعى نادية ثالث ضحية في نفس الحي في فترة قصيرة. وليس بعيدا عن المكان، إقتادنا أحد المواطنين إلى قرية السرايجية الواقعة قبالة المصنع، ثم إلى قرية المرايجية وأولاد حناش في الجهة الشمالية لمفتاح، فوجدنا كارثة حقيقية.. أكثر من 10 أشخاص على الأقل توفوا بنفس المرض ممن تعرفنا على عائلاتهم وأسمائهم، وأكد لنا المواطنون أن أولى الإصابات بسرطان غلاف الرئة ظهرت بقرى "السواكرية" الواقعة في الجهة الشمالية، ثم تفشى المرض في مناطق أخرى وهي "البور" و"سيدي حماد" و"السواعدية" الواقعة في طريق المستشفى إلى الجبل، إضافة إلى ظهور حالات مماثلة للمرض في منطقة "المواطسة" بعد أن فتك بالمدرب السابق لوداد بوفاريك السيد مزيان عن عمر يناهز الخمسين سنة والذي فارق الحياة قبل ستة أشهر فقط. وحسب معلومات استقيناها من المستشفى ومن مصلحة الأمراض الصدرية تحديدا، فإن نسبة الإصابة بسرطان غلاف الرئة الخطير في تزايد مستمر، والمصابون به هم من المناطق المذكورة فعلا؛ ففي شهر جانفي تم تسجيل 3 حالات، وحالتين في شهر فيفري، ثم قفز الرقم إلى 7 حالات أكيدة من سرطان غلاف الرئة في شهر ماي الماضية ثم 8 حالات شهري جوان وجويلية. وحسب الدكتور "زنيش" من قسم الأمراض الصدرية، فإن الحالات المعلن عنها هي المدونة في السجل فقط، لكن هناك حالات أخرى لم تدون، لأن المصابين توفوا قبل ظهور نتائج التحاليل التي عادة ما تستغرق وقتا طويلا، وقال طبيب آخر من نفس المصلحة إن هذا النوع من السرطان عادة ما يصيب الشيوخ الذين يتعرضون لسنوات طويلة تفوق ال 20 سنة لمادة الأميونت، لكن الغريب أن هناك ثلاث وفيات من الشباب أصيبوا بالسرطان على الرغم من أنهم غير معرضين بصورة مستمرة أو مباشرة لمادة الأميونت، مما يعيد فتح الملف الصحي من جديد وإعادة النظر في مقاييس تصنيع هذه المادة المسرطنة. عمال متقاعدون أحيلوا على الموت! ونحن نقوم بهذا التحقيق في منطقة مفتاح، إكتشفنا "إبادة" أخرى لها علاقة مباشرة بالأميونت، قبل أن يفتك المرض بالسكان، كان العمال في المصنع أول المتضررين، حيث ظهرت أعراض المرض على عدد منهم بعد أن أحيلوا على التقاعد، أي بعد 25 سنة من تعرضهم للمادة المسرطنة، وجل المصابين هم عمال اشتغلوا في المصنع بين سنوات 1974 و1996، وهي المرحلة التي كانت الجزائر تصنع فيها الأميونت بطريقة متوحشة على حد تعبير المسؤولين في شركة المواد المشتقة للوسط، وقد تحصلنا على قائمة اسمية لكل العمال الذين توفوا منذ سنة 1990 بسرطان غلاف الرئة، ويبلغ عددهم 31 عاملا، أغلبهم من سكان مفتاح وضواحيها. وأكد لنا الدكتور زيتوني من مستشفى مفتاح بأن العمال هم أكثر عرضة للسرطان، كما أنه تم تسجيل حالات كبيرة من الإصابات بهذا النوع من المرض، وقال إن حجم المشكلة لا يمكن حصره لسبب واحد وهو انعدام الدراسات الميدانية حول تفشي المرض، كما أن طب العمل يشخص لكنه لا يعالج المشكل من الجذور، وبقيت المصالح الطبية تتعامل مع الأميونت من الناحية العاطفية فقط. 90 ألف طن من الأميونت سنويا في الجزائر إنتاج صرح لنا الرئيس المدير العام لشركة المواد المشتقة للوسط السيد "مرابط" بأن الجزائر حسنت كثيرا من شروط العمل وتصنيع الأميونت، لكنها لم تصل لمستوى ينعدم فيه الخطر، وهذا شيء طبيعي في كل الصناعات، ففي البدايات الأولى كانت الجزائر تصنع هذه المادة بطريقة متوحشة لعدم وجود أي قانون خاص ينظم استخدام الأميونت في العالم، وهو ما يفسر ظهور أمراض السرطان وسط عمال مصنع مفتاح بين سنتي 1974 و1996؛ أي الفترة التي كان يستعمل فيها الأميونت الأزرق الأكثر خطرا، وبالطريقة الجافة، مما يسمح بتصاعد غبار الأميونت، كما أنه لم تكن هناك إجراءات أمن حيث كان العامل يفتح أكياس الأمونت الخام بيديه ويستنشق الغبار مباشرة. لكن بعد سنة 1996 إستثمرت الجزائر قرابة 30 مليار سنتيم لتوفير الأمن للعمال، حيث حظرت استعمال الأميونت الأزرق الخطير وبدأت العمل بالطريقة المبللة حتى تمنع الغبار من التصاعد، فتم تقليص الغبار وتقليص الاحتكاك بين الشخص وهذه المادة عن طريق الفتح الأوتوماتيكي للأكياس، كما أن المجمع سنة 1998 إقتنى أول مخبر لقياس غبار الأميونت في الجو، وأكد الرئيس المدير العام أن المصنع يعمل وفق المعايير الدولية، ومع ذلك فإن الخطر ما يزال موجودا. ونظرا للاحتجاجات الناتجة عن مخاوف المواطنين والعمال، قام السيد مرابط بعقد اجتماع في بلدية مفتاح مع السلطات المحلية والقطاع الصحي وتم الاتفاق على مجموعة من القرارات حررت في شكل تقرير أرسل إلى وزارة الصحة وإدارة شركة تسيير مساهمات الدولة، وقال إن العمال يخضعون لفحص طبي دوري وتحاليل طبية في مستشفى بن عكنون، وعن الإصابات بسرطان غلاف الرئة قال "كلها سجلت وسط العمال المحالين على التقاعد قبل سنة 1996، لكن علينا أن ننتظر حتى سنة 2015 فمن المحتمل أن تظهر إصابات جديدة وسط العمال". وحسب الرئيس المدير العام الذي تحدث إلينا بكل شفافية عن مخاطر صناعة الأميونت بالموازاة مع مقاييس الوقاية، فإن الدولة اتخذت قرارا بعدم الاستثمار في أي مشروع جديد تدخل فيه الأميونت كمادة أولية، كما تم غلق مصنع جسر قسنطينة نظرا لمخاطره وقدم أجهزته. ولم يستبعد نفس المسؤول أن تتخلى الجزائر نهائيا عن هذه الصناعة بعد دراسة إمكانية تحويل نشاط المصنع وعقاراته لصالح مشاريع أخرى. وتستورد الجزائر سنويا حوالي 9 آلاف طن من المادة الأولية للأميونت من الصين وروسيا، يتم تصنيع أكثر من 40 ألف طن منها في مصنع مفتاح لوحده إضافة إلى حوالي 50 ألف طن في مصنعي برج بوعريريج وزهانة بمعسكر، في حين تنتج الجزائر سنويا أكثر من 90 ألف طن من الأميونت، وهي كمية كبيرة وتوسع دائرة الخطر. متى تتخلى الجزائر عن هذه الصناعة القاتلة؟ سؤال يبقى مطروحا رغم تصاعد الاحتجاجات منذ سنوات الثمانينيات، ففي سنة 1998 شلت منطقة مفتاح نهائيا بعد الإضراب الذي قام به التجار من أجل غلق المصنع، ورفعت فيه الجمعية الإيكولوجية تقارير وشكاوي لجميع الهيئات المعنية، لكن دون جدوى، فقد حاولت جمعية حماية البيئة لبلدية مفتاح وضع مخطط عمل لتحسيس السكان من مخاطر الأميونت والتلوث بصفة عامة، فعقدت اجتماعات مع الرئيس المدير العام لمجمع الأميونت وممثلين عن الدائرة والبلدية وتم اقتراح لجنة متابعة لقياس نسبة غبار الأميونت في الجو، وتم الاتفاق على لجنة مختلطة تضم ممثلين عن الجمعية والإدارة، لكن اللجنة لم تنصب لحد الآن لأسباب مجهولة، غير أن السلطات المحلية لولاية البليدة من جهتها، وتحت ضغط احتجاجات السكان ومخاطر السرطان، رفعت تقريرا مفصلا عن مصنع الأميونت تطالب فيه بصفة جادة بغلقه، وأرسلت نسخة منه إلى وزارة البيئة والتهيئة العمرانية ووزارة الصحة ورئاسة الحكومة. وحسب مصادر على صلة بالملف فإن وعودا شفوية فقط تلقتها السلطات المحلية ترجح أن تتخلى الجزائر نهائيا عن هذه الصناعة مطلع السنة القادمة، فيما يبقى هاجس الموت قائما لا يفارق ذهن المواطنين في بلدية مفتاح، ويتوقع كل واحد منهم أن يتفاجأ بين يوم وآخر بأعراض السرطان القاتل.