ليس غريبا أن تجد طفلا في العاشرة من عمره، وهو يحقق أفضل العلامات في اللغة الفرنسية، ويتربع على عرش أحسن تلميذ في قسمه أو في مدرسته بمجموع نقاط عال جدا، والسر في هذه الحالة بسيط ومعروف، فالتلميذ نجيب، يراجع دروسه، منتبه لما يقول المعلم، زائد شيئ من الاستعداد الفطري لتعلم هذه اللغة، وقد تلعب الثقافة العائلية دورها هي الأخرى في تكوين المحصلة اللغوية لهذا الطفل. ر.مختار لكن ما رأي القارئ في طفل لم يتجاوز السابعة من العمر، جزائري 100٪ ولد بوهران، وعاش بها فترة سنه الصغيرة هذه، وأبعد حدوده أن يأخذه والداه إلى غليزان لزيارة أجداده هناك، ومع هذا فالطفل نابغة في اللغة الألمانية لدرجة تشعر معها أنك أمام مواطن ألماني راشد، يقلب الحديث ببراعة ويبدع في إخراج الحروف على الطريقة الألمانية السليمة. لم نصدق في البداية ما كان يقول عادل بن دحة، فقط لأننا لا نفهم من الألمانية سوى تلك العبارة المشهورة والتي يعرفها كل الجزائريين، وظل عادل يضحك من جهلنا وراح يؤكد لنا ويقسم بأغلظ الأيمان بأن ما يقوله سليم، ثم بدأ يشرح لنا الجمل بالتفصيل وهو يشعر بشيء من الخيلاء، كيف لا وهو يترجم لرجال أكبر منه سنا بكثير ما تعسر عليهم فهمه. حكيم (والد عادل) أكد للشروق اليومي أنه اكتشف هذه الظاهرة فجأة. فقد جاءه عادل يوما ما وقال له أنه أصبح يعرف اللغة الألمانية وراح يلقي على سمعه مجموعة من الجمل، ولأن الوالد مثلنا لا يعرف من الألمانية إلا ما نعرف، فقد استبعد أن يكون ما يقوله ابنه الصغير صحيحا، إلى أن سنحت الفرصة حين اصطحبه معه إلى ملحقة معهد »غوته« بوهران، وهو معهد متخصص في تطوير وترقية الثقافة الألمانية، يومها فقط اقتنع الأب بأن ابنه لم يكن يهذي، فالقائمون على المعهد تفاجأوا بالقدرة الهائلة على الفهم والتعبير عند الصغير، لكنهم تأسفوا للوالد كون أن المعهد مغلق بسبب نقص التجهيزات وإلا كان عادل مدرسا معهم وليس متمدرسا. وحتى نقطع دابر الشك، اغتنمنا فرصة وجود أحد الأصدقاء المغتربين بألمانيا منذ سنة 1992 والذي جاء كغيره إلى الجزائر مغتنما فرصة عطلته السنوية، وقمنا بترتيب لقاء بين الطفل والمغترب بحضورنا طبعا، وكان أول ما طلبناه من هذا المغترب هو أن يحدث عادل باللغة الألمانية على أن يكون مستوى الخطاب ومضمونه راقيا بحيث يصعب على الصغار مجاراته، وهو ما حدث فعلا، لكن المفاجأة كانت كبيرة حين كان عادل يرد على الأسئلة ويحاكي صديقنا القادم من وراء البحر بطريقة توحي إليك أن المغترب المسكين وضع نفسه في ورطة. أما كيف تعلم عادل اللغة الألمانية، فالقصة تبدو عادية جدا، وهي أن الطفل مواضب على تتبع القنوات التلفزيونية الألمانية الخاصة بالصغار، ومع هذا يبدو السبب غير كاف إلا أن عادل يصر على أنه تعلم الألمانية في ظرف أسبوع واحد فقط »حين شاهدت أول برنامج تلفزيوني انتابني شعور غريب وأحسست أني أعرف اللغة الألمانية منذ مدة طويلة، لم أجد أية صعوبة في فهم ما كانت تقوله شخصيات الرسوم المتحركة التي كنت أشاهدها وفي ظرف أيام فقط، شعرت أن كل اللغة الألمانية صعدت إلى رأسي واستقرت بداخله«، أما كيف صعدت وكيف استقرت فهذا ما لم يستطع الصغير عادل تفسيره وبدا له الأمر سهلا وراح يحاول عبثا أن يفهمنا أن الأمر كذلك. والد عادل من جهته أكد أنه لا يشك في أن مصدر الثقافة الألمانية التي استقرت داخل رأس ابنه، هي القنوات التلفزيونية الألمانية فقط، متمنيا أن يجد ابنه المكان الخصب لتطوير ملكاته اللغوية الشفهية، باعتبار أنه (عادل) لا يزال عاجزا عن الكتابة والقراءة باللغة الألمانية، فكل قدراته في المشافهة وإلى أن تحقق أمنية الأب، لا يزال عادل يحلم باليوم الذي تطأ فيه قدماه الأراضي الألمانية، فمند أيام فقط حين كانت والدته تجمع كتبه التي أدى بها السنة الماضية بامتياز لتهديها إلى جارتها على سبيل استعارتها لابنها، وجدت أن عادل قد كتب على غلاف أحدها »أتمنى أن أزور ألمانيا« البلد الذي بكى عادل بحرقة من أجله وهو يراه يودع المونديال الأخير في الدور نصف النهائي أمام المنتخب الإيطالي، وينام على أمل أن يلتقي الألمان يوما ما ويؤكد لهم أن هذا الإقصاء مجرد عثرة وأن المستقبل سيكون أحلى. تبقى الإشارة فقط إلى أنه قد مرت سنتان منذ أن أصبح عادل على ما هو عليه اليوم، وهو ما يعني أنه لم يكن تجاوز الخامسة من العمر حين نبغ في وسطه الأسري بقدراته العالية في إتقان اللغة الألمانية ولذلك فهو المدرس في أسرته وقد وقفنا بأم أعيننا على أخته سارة ذات السنوات الخمس والتي بدورها تحاول أن تثبت أنها كانت تلميذة نجيبة لأخيها عادل.