من يتطلع إلى معرفة النهاية التي وضعها القذافي لحياته فما عليه إلا بقراءة القصص التي كتبها، ومن يقرأ مجموعة "القرية والأرض وانتحار رائد الفضاء" الصادرة عن "الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان" يكتشف أسرار النهايات التي قدمها له كبطل لهذه المجموعة القصصية، فما هي النهاية المفضلة له يا ترى؟ * الفرار إلى جهنم؟! * اختار الدكتور أحمد إبراهيم الفقيه قصتي (الموت) و(الفرار إلى جهنم) ليقدم قراءة أولية لهما، ويخلُص إلى أن القذافي في قصته الثانية أصبح يعتقد أن "(الفرار إلى جهنم) هو الطريق الوحيد للخلاص" (ص 135 - المجموعة). * وبالرغم من إعلانه أنه يحب "حرية الجموع وانطلاقها بلا سيد وقد كسرت أصفادها وزغردت وغنت بعد التأوه والعناء" إلا أنه يؤكد قائلا "ولكنني كم أخشاها وأتوجس خيفة منها". * والجموع التي كان يعتقد أنها مع "الكتاب الأخضر" وهو عقيدتها الأبدية، بمجرد ما انتفضت ضده وصفها بالجرذان، لأنه يعتقد صراحة أنه يصعب عليه أن "يناقش عقلا جماعيا غير مجسّد في أي فرد أو يمسك يد الملايين أو يسمع مليون كلمة في وقت واحد" (ص 43) فهو يفضل الاستماع إلى نفسه فقط، ولا يناقش إلا عائلته، ولا يمسك إلا ب (لجانه الثورية)، وكل من يتحزّب لغيره فهو خائن، وكل من يدّعي أنه يمثل الجماهير، باستثناء القذافي، فهو دجّال كبير فالتمثيل تدجيل. * ويشكك في قدرة الجماهير على التغيير بالرغم من تسمية مملكته الليبية ب (الجماهيرية) ويتساءل: "من في هذا الطغيان - الجماهيري- الشامل يتفاهم مع من؟ ومن يلوم من؟" ولا يرى في الجموع سوى "اللهب الذي يحرق ظهرك". * والقذافي لا يستطيع أن يستوعب كيف حملت هذه الجموع: "هانيبال وباركليز وسوفارولا وداونتون وروبسبير وموسيليني ونيكسون" في لحظة فرح، ثم تحولت في لحظة غضب ضدهم، فما هي النهاية المفضلة لديه من نهايات "هؤلاء الزعماء"؟ * يقول بالحرف الواحد "تآمرت الجموع على هانيبال وجرّعته السمّ، وأحرقت سافونارولا على السفود، وقدّمت بطلها داونتون للمقصلة، وحطّمت فكي روبسبير وجرجرت جثة موسيليني في الشوارع، وتفلت على وجه نيكسون وهو يغادر البيت الأبيض بعد أن أدخلته وهي تصفق له؟" * فما هو إحساسه وهو يطرد من "باب العزيزية" مثلما طرد نيكسون من البيت الأبيض. * يقول القذافي: "هذه الجموع التي لا ترحم حتى منقذيها إنها تلاحقني، لتحرقني" (ص 45). * فلماذا تمسك بتوجيه نداءاته إليها لإنقاذ "ليبيا من الحرب الصليبية" وما علاقته بالقرآن الكريم؟ * يعتقد الزعيم معمر القذافي أنك "القرآن يستخدم على يد كل المسلمين للوصول إلى السلطة، ويبرر الاستغلال والاغتيال والعمالة وحتى الانبطاح والانفتاح، فأنت مسلم ولك الحق في استغلال القرآن الكريم لأي غرض: * هل أنت أكثر تقوى من الإخوان المسلمين والتكفير والهجرة والسلطان عبد الحميد وعبد المجيد والشيخ عبد الرحمان وعبد نورمان وعبد ماك ميلان؟ ص 99". * أما الجمعة الأخيرة من شهر رمضان الكريم فقد سخر منها ومن أدعيتها من منطلق "إسأل مجرّبا ولا تسأل طبيبا". * أما قصة خروجه من "باب العزيزية" حصنه المنيع أو المدينة التي يكثر فيها الجرذان، فيقول: "إنها تقتل الحس الاجتماعي والمشاعر الإنسانية وتخلق التبلد واللامبالاة" (ص 12)، ولعل هذا هو الذي جعله يقيم فيها خيمة متنقلة. * خلع القذافي! * إذا كان للمطلقات الليبيات "عشبة الخلعة" التي يتحدث عنها القذافي على لسان الحاج حسن صاحب الدكان الذي أجرى مقابلة معه حين كان ملك الملوك والزعيم الوحيد في ليبيا، فما هي العشبة التي تصلح لمن يخلعه شعبه؟ * إذا كان خشبة الخلع لدى النساء هي "بلسم ودواء لهن" ص 57، فما هو بلسم ودواء القذافي؟ * الإجابة الوحيدة هي الموت على طريقة من الطرق التي تحدث عنها بالنسبة للزعماء سالفي الذكر. * والموت في نظر القذافي: خنثى" لأنه يقوم بدورين مختلفين: الأول وهو الدور الذكوري، كما ورد على لسان الشاعر الجاهلي: * "أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى عقيلة مال الفاحش المتشدّد" * وهو كذلك أنثى، كما قدمه الشاعر نزار قباني الذي يصفه ب (الشاعر الجاهلي الحديث) أثناء حديثه عن كيفية اختطاف الموت لابنه توفيق. * وإذا كان القذافي لا يؤمن بذكورية الموت، كما ورد على لسان طرفة بن العبد، ولا بأنوثة الموت كما جاء على لسان نزار قباني، فلماذا هو خنثى؟ * يزعم القذافي أنه خبر الموت في مصائبه وتأكد له أنه "ذكر ومهاجم دائم ولم يكن يوما في حالة دفاع حتى ولو هزم، وهو شرس وشجاع ومخادع وجبان في بعض الأحيان وهو غير منحاز.. ولكنه إذا أضعف الموت نفسه وتحول إلى أنثى غير جماهيرية وغير لاتينية جاء حريما مستسلما بلا سلاح" (ص 79). * وهو يتمسك بأن حقيقته ستكشف ذات جمعة، وفي هذا السياق يقول "أيها المؤمنون لا تتحسروا، ففي الجمعة الأخيرة من رمضان القادم أو الذي بعده قد نصل إلى معرفة الحقائق" (ص 124) فما هي حقيقة القذافي بالنسبة إلى ليبيا والشعب. وما هي حقيقته بالنسبة للجزائر والشعب الجزائري؟ * أولا: أول زعيم عربي يصف شعبه بالجرذان وب (المقمل)، ويزرع الألغام في الأراضي الليبية ويقصف بيوت الله، ويعلن الحرب على شعبه. ويتمسلك بالسلطة بدعوة الشباب إلى الرقص والغناء والمتعة بسقوط قنابل الناتو على المؤسسات الليبية، وكأنه يتلذذ بانهيار المدينة التي تمثل الجموع الغاضبة غير المستسلمة لسلطان القذافي وأبنائه. * ثانيا: ورط النظام الجزائري معه وهو يحارب شعبه، وها هو يورطه وهو يبحث عن ملجأ له ينقذه من براثن شعبه، ويدفع بعائلته إلى الجزائر لحمايتها ممن يسميهم الجرذان. وعوض أن تقضي عائلته العيد معه فضل أن تقضيه في الجزائر، وعوض أن يترك ابنته عائشة تلد في مستشفيات ليبيا، فضل أن تلد بعد يوم من دخولها في مستشفى جزائري. ولو كان يحب النظام الجزائري أو وفيا له لأوصى ابنته أن تسمي مولودها ب (الجزائر). * ثالثا: نهاية القذافي، كما يرويها في مجموعته القصصية هي الخوف من الأحزاب الإسلامية و"الجبهة الوطنية للإنقاذ" التي هاجمت "باب العزيزية" عام 1984 بقيادة الحاج "أحمد حواس"، والخوف الأكبر من "الجماعة الإسلامية المقاتلة". * والمفارقة أن من شاركوا في الهجوم على باب العزيزية بعد سقوط طرابلس يوم السبت 20 أوت 2011 كثير منهم ينتمي إلى أفراد هذين التنظيمين. * رابعا: سقوط نظام القذافي والنهاية التي وضعها لنفسه فتحت المجال أمام التغيير المسلح، كما فتحت المجال أمام الاعتماد على "العامل الخارجي" في التغيير. ولهذا ستبقى الثورة الليبية الاستثناء الوحيد في الثورات العربية السلمية ضد الأنظمة العربية. * القذافي والنظام الجزائري * مشكلة النظام الجزائري أنه راهن على الورقة الخاسرة في الثورات العربية، وهي احتمال فشل الثورة المسلحة في ليبيا وتداعيات ذلك على المنطقة. * وحين جاءت النتيجة عكس توقعات النظام وأحزاب الائتلاف، وقع ارتباك في الخطاب السياسي، ويستبعد أن يغادر القذافي ليبيا وإنما سيلجأ إلى "الطوارق" الذين قام بتسليحهم وشجعهم على إقامة "دولة الساحل الصحراوي". * وتخوفات السلطات الجزائرية من القذافي وهو في السلطة أقل من تخوفاتها منه وهو في "المعارضة" المسلحة، كما أن تخوفاتها من الثورة الليبية قبل انتصارها على القذافي أقل من تخوفاتها منها وهي تنتزع اعترافات العالم بها. * وبالنسبة للتخوفات من القذافي فهي أنه قادر على كشف "عملائه" في الجزائر، ولا يؤتمن جانبه في حفظ أسرار الدولة إلا ميتا. * أما تخوفات النظام من الثورة وتأجيل الاعتراف بها فيعود إلى قيادات الجماعة الإسلامية المقاتلة وعلاقاتهم السابقة ب "الجماعات الإسلامية المسلحة"، وهي تعتقد أن "المقاتلة" أخطر من "الجبهة الوطنية للإنقاذ"، الليبية التي فشلت في الهجوم على باب العزيزية وفشلها في تحقيق "مشروع الجزائر" للإطاحة بنظام القذافي عام 1985، وفشلت في تحقيق المشروع الأمريكي بتحريك "جيش الإنقاذ" في التشاد باتجاه ليبيا. * وبالرغم من أن مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي وضع حدا للقيل والقال حول ما يسمى ب (الجماعات الإرهابية) بين الثوار بإشراك أحد رموزهم في اجتماع مع حلف الناتو عقد بقطر، إلا أن النظام الجزائري ما يزال مترددا في الاعتراف رسميا، مراهنا على التحرير الكامل لليبيا، وعلى معرفة عناصر الحكومة القادمة. * ويبدو لي أن النظام الجزائري فشل في التعامل مع الثورات العربية، ووضع نفسه على رأس قائمة المستهدفين بعد طي ملف القذافي. * ويكشف هذا الفشل عن خوف السلطات من التغيير القادم في بعديه المغاربي والشرق أوسطي، ورهن البلاد وخيراتها إلى مستقبل مجهول لسبب بسيط وهو فقدان القدرة على اتخاذ المواقف في وقتها والرهان على تصريحات سفراء أمريكا وبريطانيا المطمئنة للنظام القائم فقط. * وبالمقابل، يراهن "السبتيون" على 17 سبتمبر الجاري، لإحداث التغيير دون أن يدركوا أن هذا التاريخ مرتبط بالحكومة الجزائرية المؤقتة حيث اجتمع قادة الثورة الثلاثة بوصوف وبن طوبال وكريم وحددوا تاريخ الإعلان عن ميلاد الحكومة الجزائرية المؤقتة. * وما دام القذافي مختفيا فإن نهايته تبقى مؤجلة والتغيير في الجزائر مرهون بالنهاية التي اختارها القذافي لنفسه.