العراق - سوريا- فلسطين إن ما يجري في سوريا الآن هو الحلقة الأخيرة من مخطط متراكب ومتراكم من قبل مراكز الفعل الغربية تجاه ما يسمى بالهلال الخصيب (العراق وبلاد الشام).. وأن كل الترتيبات التي قام بها الاستعمار الغربي منذ زمن طويل تقضي بتوفير الشروط الذاتية والموضوعية لجعل هذا الإقليم في عداد الموتى في دائرة الفعل المضاد.. حيث لن يكون منطقيا أن يستقر الأمر للوجود الصهيوني على أرض فلسطين في حين تكون بلاد الشام والعراق في حالة من العافية والاستقرار، فالموضوع كله مرتبط بأمن الكيان الصهيوني وتفوقه الاستراتيجي.. * فلسطين وإسرائيل: كلمتان متضادتان في المعنى والسياسة والجغرافيا والمشروع، فالأولى عنوان لمشروع الأمة والأخرى عنوان لمشروع الغرب في بلاد العرب والمسلمين، وكل واحدة منهما تعني نفي الأخرى بالضرورة، ورغم كل ما يبذل او على الأقل كل ما يعلن لجعلهما متجاورتين في المعنى متقاسمتين في الجغرافيا، إلا إن طبيعة كل منهما تظل نافية للأخرى وطاردة لها، بما تحويه من منظومة قيم وسلوك وأهداف نقيضه لما تحويه الأخرى.. وهكذا يصبح حديثنا عن فلسطين لما لها من حضور في الضمير والوجدان يعني أننا نزيح الغبار عن الباعث الروحي المتميز المتجدد الذي تطلقه محنة فلسطين، والذي يصوغ لنا منظومة قيم ناضجة وفاعلة وإيجابية تجعل من كل فكرة وكل حركة في سياق الفعل إضافة جديدة في مبررات ميلاد جديد للأمة.. وهذه هي أهمية فلسطين في صياغة مشروع نهوض الأمة.. أما الحديث عن إسرائيل فيعني استحضار الوعي بالمشروع الاستعماري الغربي ومخططاته نحو امتنا، ويعني كذلك إدراك آليات الهجوم الغربي وتوقعنا للخطوة القادمة التي سيعمل على تنفيذها.. الحديث عن إسرائيل هو حديث عن القاعدة الغربية العسكرية الأمنية الاستراتيجية المتقدمة والتي تتزود بحقائق واقعية، أولها التفوق الاستراتيجي على قوى المنطقة، وثانيها التطور الطبيعي الداخلي بالعمل للوصول إلى حالة دولة مستقرة متجانسة، وثالثها القيام بمهمات أمنية استراتيجية في المشرق العربي والمغرب العربي، بل لا بد أن يصل نشاطها الأمني التخريبي إلى إيران وباكستان وتركيا، أي إلى كل مراكز الوجود والفعل الإسلامي. سوريا- العراق: يقف رأس الهلال على الخليج العربي، ويقف رأسه الآخر على البحر المتوسط.. بين مصر والجزيرة وتركيا وإيران، أي مراكز الشرق الأربعة يقع الهلال الخصيب فهو المتوسط الحضاري والقلب المتدفق بالقيم والمعاني للجسد الكبير ..ولئن كان تقوسه الداخلي يحنو على بلاد العرب فإن تقوسه الخارجي يلاصق بلاد العجم مما جعل العروبة فيه مستفزة دوما لا سيما في مواجهة الشعوبية الفارسية أيام الصفويين وقبلهم وأيام الشاه وفي مواجهة التتريك والقومية التركية في أواخر عهد العثمانيين، وفي الهلال الخصيب دمشق وبغداد مركزان متلاحقان في حركة التاريخ الإسلامي متكاملتان في الفعل الحضاري، وهما عاصمتا حضارة العرب والمسلمين.. كل واحدة منهما تمتد في الأخرى حضاريا وإنسانيا، فضلا عن الصلات الواسعة العميقة من مصاهرة وتداخل عائلي بين سكان الإقليم، ولهما في التاريخ شهادة عظيمة تفيد بأن كلا منهما لا ينبض دمه إلا بالآخر، ولا تتنفس رئته إلا بالآخر.. وان تميزت بلاد الشام بالوسطية بين تطرف الاعتدال المصري وتطرف التطرف العراقي، فإن العراق تميز بحضوره العربي وانتخائه العزيز كلما أصيب العرب بكرب، وفي التاريخ المعاصر كنا دائما نجد أن أول إغاثة للشام تنطلق من بغداد، كما لاحظنا أن الشام ملجأ العراقيين كلما أصابتهم نوائب الدهر القاسية.. أهل العراق لا يكتملون إلا بالشام، وأهل الشام لا يطمئن روعهم إلا وسيف العراق مشهر يرد عنهم الضيم.. إن الكلام في هذا المقام ينحو إلى الشعر والأدب أكثر منه إلى لغة السياسة، ولكن متى كانت العلاقات المقدسة تقف عند حدود السياسة. وفي هذا الإقليم (الهلال الخصيب) ظلت بلاد الشام لكل العرب والمسلمين ملاذا لما تسكنه في قلوبهم من مودة وقداسة وأمن وكرامة، وهي تحوي في جوفها بيت المقدس الأرض المباركة فكانت مكان الطمأنينة للمطرود منهم والمهاجر المشرد ولكل من ضاقت عليه بلاده.. كما ظل العراق السيف القوي والعقل المبدع المتفتق عن عبقرية العرب التي لا تعرف الاستكانة والدعة.. فكان تواصل الجغرافيا مع توحد الناس وتوسط الإقليم -الهلال الخصيب- لبلاد العرب والمسلمين بمثابة القلب المتدفق عطاء وهداية للأمة، والصدر الحاني لكل اهتماماتها وهمومها والمتفاعل بجدية وتوازن وتوحد مع كل أجزائها. المشروع الغربي: بالعودة إلى المشروع الغربي وكيفية تحرك أجهزته في صنع الواقع الحالي على ضوء وعينا بالمكان وعلاقاته الروحية والحضارية نستطيع تفسير هذا الإصرار الغربي على إغراق الهلال الخصيب دوما بمعارك جانبية شرقا وغربا، وعدم تركه لنفسه يعيد أولوياته ويرتب أشياءه وإمكانياته في ما ينبغي أن يكون.. فبعد سقوط فلسطين بيد الاستعمار الانجليزي الصهيوني.. لم يكن أهل الهلال الخصيب وهم يتدافعون إلى القتال من اجل استرداد فلسطين يعتقدون ولو للحظة أنهم يدافعون عن بلد عربي مسلم او عن شعب عربي مسلم او عن مقدسات إنما كانوا يعتقدون أنهم يقومون بالدفاع عن أنفسهم وعن خاصة أعراضهم وبيوتهم.. وفي المقابل لاقت بلاد الشام والعراق من المؤامرات الشيء الكثير لكي تغرق في العجز والضعف.. ولم تستطع مناهج الأنظمة القومية فيها أن تحل المشكلة لأنه غاب عنها الوعي الحضاري وربط جملة الوعي بالقدس في مواجهة الكيان الصهيوني فاستبدلت الأنظمة القومية في البلدين الأولويات الضرورية بأولويات الحزب والشعارات النرجسية والشوفونية، وانشغل النظامان ببناء الأجهزة الأمنية بدل الانشغال بصياغة واقع حضاري إنساني يستطيع أن يكون قلب جسد الأمة الذي يضخ فيه الأفكار والقيم ليوحده في معركة الوجود.. ولكن للإنصاف لا بد من القول إن حزب البعث تصدى للنعرات الطائفية والجهوية والإقليمية وأجل الانفجار الطائفي عشرات السنين.. مزق الغرب بلاد الشام على أجزاء مبعثرة، احدها: لبنان بلد مكون من تركيب طائفي مقيت أصبح ملعبا لكل اللاعبين، وآخر: فلسطين بيد الاستعمار والصهيونية، والثالث: الأردن مقتطع من أكثر من جهة ليكون وطنا بديلا للفلسطينيين، والرابع: سوريا المحاطة بالحلف الأطلسي وإسرائيل والجيب اللبناني.. والعراق المحاط بالنظام الشهنشاهي سابقا وبالانفصاليين من الأكراد المتحالفين مع إسرائيل وبتركيا -الحلف الأطلسي وبقواعد الأمريكان في دول الخليج.. أما الآن فيضع الغرب العراق تحت وطأة الفوضى المسلحة، وسطوة الأفكار الهزيلة التي تتغطى بالطائفية من جهة والديمقراطية العبثية من جهة أخرى.. ويضع بلاد الشام كله في مهب الريح، وانتهوا بسوريا أن أغروا بعضها ببعضها.. حيث يلتقي النظام المتيبس العنيد الغارق في حمى المفاسد والمظالم التي لا ينبغي الصمت عنها ومعارضات ينضوي بعضها للأسف تحت بيارق الصليبية المقيتة ومخططها.. وهكذا نقف في الحلقة الأخيرة من المخطط الغربي، وسوريا هي الامتحان الذي ستكون نتائجه حقيقة مستقبلنا.. إن الطريق للنجاة هو انقلاب العراق على الطائفية، وانقلاب سوريا على فوضى الأفكار والانتماءات، ولكن من أين يبدأ السبيل؟ هذا ما سأحاول نقاشه مستقبلا إن شاء الله.