قصة قصيدة 30 بعد إعلان فوزي بجائزة اللوتس الدولية للآداب وتحويل عرسها من قبل وطار وكتاب آخرين إلى مأتم بدلا من الفرح بها، واعتبارها مكسبا للجزائر وتشجيعا لموهبتي لكي تنمو وتتفتح، أدركت أنه لم يبق لي مكان في جزائر الحزب الواحد وبين كتابها المتذبذبين وذوي الأقنعة المختلفة. * لقد تعبت جملة وتفصيلا من الحصار الأمني الظالم ومن تعسف جهاز الانضباط في الأمانة الدائمة للجنة المركزية لجبهة التحرير الوطني. كنت أتألم كثيرا. فالشهداء لم يضحوا بأرواحهم ليكافأ أبناؤهم بالاستغلال والتعسف بدلا من الاستقلال والحريات. كانت حواسي تقول لي جميعا بأن الجزائر مقبلة على عاصفة وأن الوضع سينفجر وهذا ما حدث فعلا بعد مدة من مغادرتي للجزائر وكانت قصيدة »العودة إلى ثيزي راشد« قد حذرت من الكارثة. هكذا قررت أن أبدأ في إعداد أسباب الرحيل ومغادرة الوطن الذي صار وطنين قال عنهما صديقي الشاعر السوري الراحل يوما: »فالفقراء يموتون دفاعا عن وطنين: الفقر وأرض الساده والفقراء يسيرون جموعا تائهه خلف الفقر وكذب القاده«. قبل الرحيل كنت أريد أن أصفي ما كان يتعلق بالجانب المالي بالاتحاد، وأعني بذلك مصاريف قطاع العلاقات الخارجية الذي كنت مسؤولا عنه وكنت متأكدا أيضا بأن يدي نظيفتان تماما. كانت عهدتي قد انتهت ولم يتبق إلا شهر واحد لانعقاد المؤتمر لإجراء انتخابات جديدة لاختيار المسؤولين الجدد لاتحاد الكتاب الجزائريين. في هذه الأثناء انتبهت إلى أن جواز سفري الذي أعادته إلي وزارة الدفاع قد انتهت صلاحيته ولابد من تجديده ولكن التجديد أصبح من المستحيلات، لأن ملفي لدى مصالح الأمن لا يسمح بذلك. اتصلت بصديق لي كان يعمل بروتوكولا باللجنة المركزية للحزب وطلبت منه مساعدتي في الحصول على جواز سفر بطريقة سريعة وبدون أن أمر بطقوس إعداد الملف وتسليمه لمكاتب الدائرة، لأنني كنت على علم أن مثل هذا الإجراء سيجعل الأمن حتما طرفا وأنه سوف يطلب منه تقديم التقرير عني وسوف يشير فيه بدون أدنى شك إلى ما حدث في بسكرة وإلى المتابعة الأمنية التي كنت أخضع لها بلا توقف. قال لي هذا الصديق، الذي لن أنسى معروفه، بأنه قادر على مساعدتي. طلب مني أن أعد الملف ليسلمه بدوره إلى والي ولاية العاصمة الذي كانت له علاقة وطيدة به لكي يجهز جواز سفري في اليوم نفسه. أوضح لي هذا الصديق بأنه يجب علي أن أغادر خلال يوم أو يومين بعد تسليمه لي جواز السفر أي قبل تسجيله لدى مصالح الأمن، الأمر حتى لا تفشل عملية خروجي إلى بريطانيا. أعددت الملف وعندما سلمته له قال لي: )اعتبر الأمر مقضيا(. انتظرت حتى بقي أقل من أسبوع على انعقاد مؤتمر الكتاب في قصر الأمم ثم هاتفت هذا الصديق والتمست منه أن يبدأ بعملية استخراج الجواز وأعلمته بأنني سأغادر البلاد في اليوم الثاني من انعقاد المؤتمر، أي بعد مصادقة المؤتمرين والمسؤولين في اللجنة المركزية على التقرير المالي، لأنني كنت حريصا أن أخرج نظيفا من الاتحاد. في هذه الأثناء رتبت أمتعتي واتصلت بالصديق الناقد المفكر السوري خلدون شمعة، الذي كان رئيس تحرير مجلة »الدستور« الدولية بالعاصمة البريطانية لندن، وأخبرته بموعد سفري خلال أقل من أسبوع لألتحق بهيئة تحرير المجلة التي وعدني بالعمل فيها بعد أن رويت له من قبل معاناتي والصعوبات التي كانت تدور حول عنقي. جاء يوم مؤتمر اتحاد الكتاب في قصر الصنوبر وتوجهت إلى هناك صباحا. ولما وصلت إلى هناك رأيت عددا كبيرا من الكتاب الجزائريين وبعض الضيوف الأجانب، ومجموعة من الأعضاء القياديين في المكتب السياسي والأمانة الدائمة للجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني، منهم السادة عبد الحميد مهري، مولود قاسم، بشير خلدون، محمد جغابة وغيرهم. في رواق قصر الصنوبر صافحت السيد الراحل مولود قاسم وتحدثنا لمدة قصيرة ومن ثمة تحدثت إلى الدكتور بشير خلدون وشجعني أن أترشح مرة أخرى واكتفيت برسم الابتسامة ثم دلفت إلى قاعة المؤتمرات. بدأت أشغال المؤتمر العادية وألقيت فيه خطب تتحدث عن حرية التعبير، وعن مكانة الأديب في المجتمع باعتباره ضمير الأمة والناطق باسم الذين لا لسان لهم أو لنقل باسم الذين كممت وتكمم ألسنتهم. بدأت أشعر بالاشمئزاز والحسرة. قلت في نفسي: أين هؤلاء من الحريات التي تهدر؟ وأين مواقفهم من الحزب الذي كان يطارد ما كان يدعى بأحزاب تحت الطاولة (السرية)؟ ولماذا لم يتحدث أي واحد منهم عمّا حدث لمولود معمري وللتهميش الذي حوصر به محمد أركون وآخرون؟ ولماذا لم يرفع أحد منه صوته ليقول كلمة الحق في حقي أنا؟ في اليوم الثاني من أشغال المؤتمر، قرأت لجنة المالية تقريرها وصودق عليه بالإجماع عندئذ قلت لنفسي: »قد حان الآن وقت الرحيل يا أزراج«: لنرحل بعيدا فكل الشجر يعيش بداخل عينيك، يغرب حلمي، ويكبر وهمي. بداخل عينيك يعرى القمر وهذه السماء الجمليه ستنزل يوما إلى البحر عارية تستحمَ أظل أسير وبين يداي عصاي ومن شفتي تسقط الأسئله لنرحل معا يا ظلال النخيل فزادي قليل ودربي طويل طويل سأمشي إلى جزر الوهم، أجلس بين جناحي الملاك ومخلب جنية لا تحبَ وأقرأ من دفتر الاغتراب حكايا فؤادي البعيد لساعي البريد ليرجعني خلسة للمدينه فأسكن في سلة المهملات على باب قصر الحكومه وأقرأ عنك بقايا جريده. سأرسم وجهك فوق المياه نخيلا يعيد الصبا للحياه وقد يرحل النخل يوما إلى قلبها.
خرجت بهدوء من قاعة المؤتمر والحزن يحفر جبهتي وقلبي معا وبالصدفة أبصرت الراحل مولود قاسم أمامي مرة أخرى يتحدث مع شخص لم أكن أعرفه. أسرعت الخطى باتجاه البوابة الأساسية للخروج من قصر الصنوبر. بذلت أقصى جهدي كي لا يدرك أحد أنني انسحبت من المؤتمر، لأنني كنت أعرف أن بعضهم سيحاول إقناعي بالبقاء وهيهات. استأجرت سيارة واتجهت مباشرة إلى شقتي الصغيرة بشارع »طرولار« بجانب الجامعة المركزية. بعد دخولي إليها اتصلت هاتفيا بصديقي »البروتوكول« وأجابني وقال لي: »الباسبور جاهز«. ذهبت إليه فورا وسلمت عليه بحرارة. سلم لي الجواز الجديد. كدت أن أفقد وعيي من الفرح. أكدّ علي أن لا أذكره أبدا في حالة خضوعي للمساءلة بخصوص استخراج جواز سفر بدون أن يخضع ملفي للتحقيق مسبقا وفقا للإجراءات المعمول بها من طرف مصالح الأمن. طمأنت صديقي ووعدته بكتمان السر إلى يوم الدين. في نفس اليوم اشتريت بطاقة السفر إلى لندن ذهابا وإيابا عن قصد، كما اتصلت بالروائي »رشيد بوجدرة« وطلبت منه أن يقرضني مبلغ ستمائة دينار جزائري فأجاب بنعم وأخبرته أيضا بأنني قاب قوسين من المغادرة إلى بريطانيا للالتحاق بمجلة الدستور. التقينا بعد وقت قصير وسلم لي المبلغ مشكورا وكذلك نسخة من روايته »معركة الزقاق« وأوصاني بنشرها له في حلقات على صفحات المجلة المذكورة، ومن ثمة افترقنا واتجهت على عجل إلى شقتي وشرعت في ترتيب حقيبتي استعدادا للسفر في الغد إلى بلاد الضباب. لم أنم في ذلك الليل الذي كان أطول من الأبدية، لأنني كنت مستغرقا في رسم عدة سيناريوهات تمكنني من تجاوز عقبة شرطة المطار. بينما كنت أصارع الأرق خطرت علي فكرة في منتهى المعقولية والجاذبية وتتمثل في أن أتجه إلى القاعة الشرفية، لأن المسؤولين عليها يعرفونني بحكم كوني إذاك أمينا وطنيا للعلاقات الخارجية باتحاد الكتاب، وأنني قد سبق لي أيضا أن سافرت إلى الخارج عن طريق هذه القاعة مع الدكتور العربي الزبيري الذي كان عضوا في اللجنة المركزية، كما أنني قد استقبلت عشرات وفود اتحادات الكتاب الأجانب عدة مرات في تلك القاعة بالذات. خمنت بأنهم لا يدركون كذلك أن عهدتي في هذا المنصب قد انتهت. نعم قد كانت الفكرة صائبة مئة بالمائة، لأن الخروج عن طريق القاعة الشرفية تضمن لي عدم المرور على شرطة الجمارك وعدم النظر في المعلومات المسجلة بخصوصي في الكومبيوتر، خاصة وأنني مطالب أن أوقع كل صباح في مركز الشرطة الواقع قرب مقر ولاية الجزائر العاصمة. في الصباح توجهت إلى القاعة الشرفية بالمطار ومعي حقيبة صغيرة فرحبوا بي هناك كثيرا. أخبرتهم بأنني متوجه إلى لندن لأوقع برتوكول تعاون مع اتحاد الكتاب البريطانيين، فصدقوا أمري وقاموا بالإجراءات اللازمة بسرعة ثم قادني مسؤول القاعة الشرفية مباشرة إلى الطائرة، فصعدت سلمها وأخيرا وجدت نفسي في جوفها إلى جانب الركاب. في تلك اللحظات الحرجة كنت قلقا وخائفا من أن يكتشف أمري وأخرج من الطائرة. بعد دقائق قليلة جدا تحركت الطائرة وبدأت تسرع وتخترق الممرات رويدا رويدا وأنا كنت أشد على قلبي وأنظر يمينا ويسارا إلى أن دوّى هديرها ومخرت الفضاء وارتفعت فوق اليابسة. نظرت بعمق، من خلال النافذة الصغيرة، فرأيت البحر المتوسط يحضن زرقته، وجبال »بزقزقة« تبتعد قليلا قليلا حتى تلاشت نهائيا ولم يبق منها سوى خيالها يسرح في المدى الكوني المغلف بالغيوم الرمادية. وجهت الطائرة خرطومها إلى الشمال باتجاه أوروبا وتنفست الصعداء وأحسست بأن جبلا من الرماد راح يسقط عن كاهلي ويخرج من مسام جلدي. هكذا بدأت مرحلة أخرى في حياتي في بلاد الإنجليز التي كانت يوما إمبراطورية لا تغرب عنها الشمس وأصبحت لي مرآة كبيرة أرى فيها تضاريس تاريخ بلادي، وتاريخ ذاتي القديمة، وملامح هويتي الجديدة التي كان عليّ أن أبدأ في صنعها.