كان المشكل الأهم الذي واجهه الطالب محمد بو خروبة، أو هواري بو مدين بعد ذلك، بالقاهرة في بداية الخمسينيات هو إلقاء الشرطة المصرية القبض عليه. كنا آنذاك نتلقى من القنصلية الفرنسية جنيهين كل شهر )مائتي دينار( بصفتنا رعايا فرنسيين، وقررنا ذات يوم أن نعتصم في القنصلية مطالبين بزيادة المنحة، ومر الاعتصام بهدوء، لكن اعتصاما ثانيا جرى في سبتمبر 1954 لم ينته كذلك، حيث طلبت القنصلية من الشرطة المصرية التدخل، ولم أشارك أنا في هذا الاعتصام وكذلك الزميلان حمدادو )السفير السابق( وسعد الدين نويوات (المستشار حاليا برئاسة الجمهورية) حيث كنا في مهمة إلى الجزائر لإطلاع قيادة جمعية العلماء المسلمين على وضعية الطلبة في القاهرة، بينما شارك فيه عدد من الزملاء من بينهم بو خروبة، وكان الجدير بالذكر أنه شارك في عمليات الاعتصام رغم أنه لم يكن ممن يتلقون المنحة، وكان يتذكر ذلك ويذكرني به ضاحكا وهو يقول أن مشاركته لنا كانت لمجرد التضامن معنا. ومع وصول الشرطة المصرية، تفرق الجمع وراح كل يجري في اتجاه، لكن، وكالعادة في مصر عند محاولة القبض على شخص يجري، يصرخ أحدهم : »حرامي« (أي سارق) وهناك يلتف عشرات من »فاعلي الخير« لإيقاف الهارب، وهو مع حدث مع الرئيس الراحل، واقتيد إلى قسم الشرطة إلى أن تدخل الأستاذ الشاذلي المكي للإفراج عنه. وجرت مياه كثيرة تحت الجسور، وأصبح الطالب المتواضع رئيسا للجزائر، بعد مسيرة طويلة كانت تجسيدا للعصامية بكل معانيها، وكان هو نفسه الذي أنهى رئاسة رجل كان نجما ساطعا في ذاكرة الوطن العربي، وكانت مصر ترى فيها حليفها الإستراتيجي الخالد. وأتوقف لحظات لأقول لبعض من وجهوا لي اللوم على استطرادات، رأوها تخرج أحيانا بالحديث عن مساره، بأنني أسجل جزءا من تاريخ يجب ألا يُهمله التاريخ، وكان الغريب أن هؤلاء هم أنفسهم من انتقدوني لأنني لم أقم، كما يدّعون، بما يقوم به الأستاذ هيكل من استعراض لتاريخ مصر من خلال استعراضه لتاريخ حياته، وكنت أقول لهم أنني لست هيكل ولا أدعي أنني قادر على مجاراته لأسباب سبق أن أشرت لها، ولا تقتصر على المبلغ المالي الذي يحصل عليه ويمكنه من تجنيد الباحثين والمساعدين والحصول على الوثائق الدولية، بعد حصوله، بفضل التفهم الكبير في مصر لدور الكاتب، على حجم هائل من الوثائق المحلية، وهذا كله بغض النظر عن الوضعية السيادية للغة التي يستعملها، وهي اللغة التي يتعامل بها الجميع. وأعود إلى السياق لأقول بأن مصر تلقت تنحية أحمد بن بلة كصفعة أصابتها في الصميم، فقد فوجئت بما حدث وهي من كانت تتصور أنها تعرف دبيب النملة وحفيف أجنحة البعوضة الأنثى في الجزائر، ولأن من قاموا بعملية 19 جوان درسوا كل الاحتمالات وأعدوا العدة لكل شيء، خصوصا بعد أن وصلتهم الأنباء بأن الرئيس بن بله سوف يطيح بهم واحدا بعد الآخر، ليلحقوا بوزير الداخلية أحمد مدغري. وأتذكر أن سي عبد القادر )الرئيس بوتفليقة( قال لي حرفيا بأن بله كان يزمع أن »يتغدى بنا قبل أن نتعشى به«، لكنه لم يكن يتوقع أن يتم تحركنا قبل المؤتمر الإفريقي الآسيوي الذي كانت الجزائر تستعد لاحتضانه، وكان ذلك أمرا جرى استثماره على أحسن وجه. وكان الرئيس علي كافي من أول من لفتوا أنظار وزير الدفاع إلى ما يحاك للإطاحة به، وقد روى لي أنه كان في طريقه إلى بيروت كسفير للجزائر في لبنان، فالتقى على متن الطائرة بالأخ محمد بغدادي وهو أحد المقربين من المجموعة المحيطة بالرئيس بن بله، روى له ما سمعه منهم بأن أيام بو مدين أصبحت معدودة. آنذاك كان وزير الدفاع يقوم بزيارة رسمية لمصر، فاتصل به كافي ليقول له بأنه لديه ما يحدثه عنه، وهكذا التقى الاثنان في مطعم بعيد اختاره كافي، الذي روى لبومدين ما سمعه، ويبدو أنه كان لما سمعه بومدين دور في التعجيل بالعملية الانقلابية. ولا بد هنا من القول، للأمانة التاريخية، أن بن بله كان مثالا للوطنية وللتقشف والنزاهة، وبغض النظر عن الأحداث التي قادته إلى الاصطدام بالرئيس بو مدين وأنهت الرابطة الإستراتيجية بين اثنين من خيرة الوطنيين، وليس هناك دليل على ما ردَّدَتْه في مرحلة معينة قيادات جزائرية، حدث أنها هُمّشت في ظروف لا مجال للتوقف عندها اليوم، كانت تروّج الادعاء بأن عبد الناصر وضع ثقله وراء بن بله نكاية فيها، وهو المسؤول عن تهميشها، ووصلت بعض الأقوال إلى التشكيك في ولاء الرئيس الجزائري، وكان المثير للدهشة أن معظم من كانوا يجترّون ذلك بحماقة منقطعة النظير لم يُعرف عنهم أي إنجاز جدير بالتقدير في جزائر الاستقلال. والواقع أن المؤتمر الإفريقي الآسيوي كان فرصة التقت فيها الإرادة الجزائرية بالإرادة المصرية، حيث وضع جمال عبد الناصر ثقله وراء أحمد بن بله لإنجاز مركب معماري كبير في منطقة نادي الصنوبر غرب العاصمة الجزائرية، يخصص لاستضافة المؤتمر، ويُكلّفُ فيما بعد بإنجازات أخرى، وعهد عبد الناصر بالأمر إلى واحد من أشهر المهندسين في مصر وهو السيد مصطفى موسى، وتم تكوين شركة كان على رأسها الأخ لامين بشيشي، واصطحب المهندس المصري عشرات من المهندسين المعماريين وخبراء الاسمنت المسلح والتقنيين المصريين في شبكات الكهرباء والفنيين في الصناعات الخشبية وأعمال الطلاء وغيرها للقيام بالعمل المطلوب، وبوجه خاص للاستجابة لإرادة القيادة الجزائرية في تكوين مجموعات جزائرية تستطيع فيما بعد تحقيق إنجازات مماثلة. ولضمان البعد عن الإجراءات البيروقراطية التي كانت أهم ما ورثته الجزائر عن الإدارة الفرنسية ألحقت الشركة المعمارية في مرحلة تالية بأول شركة وطنية أقيمت في الجزائر بعد استرجاع الاستقلال وهي سوناطراك. وللتذكير فقد كانت تلك الشركة المعمارية ومن قامت بتكوينهم من الجزائريين هي من أنشأت مسجد وجامعة الأمير عبد القادر في قسنطينة، ومن تولت توسعة رئاسة الجمهورية وإقامة مبنى قصر الثقافة في الثمانينيات، وقبل ذلك فندق الأوراسي، قبل أن ينتهي بها الأمر إلى الاندثار، تحقيقا لإرادة من كان يزعجهم وجود كفاءات مصرية في ميدان المعمار. والواقع أن بعض من ورثتهم الجزائر المستقلة من المعماريين الجزائريين الذين تم تكوينهم خلال مرحلة الاستعمار وفي مدارسه وقفوا بكل قواهم ضد مصطفى موسى ومجموعته، وركزوا هجماتهم على أمرين، الأول التشكيك في إمكانية إقامة القبة الضخمة في مبنى قصر الأمم بدون أعمدة تحملها، وتوقعوا لها الانهيار بمجرد نزع الأخشاب من تحتها، وكان الأمر الثاني التشكيك في إمكانية إقامة فندق الأوراسي على أرض منطقة قالوا أنها تعرف بانزلاق تربتها التي لن تتحمل الفندق الضخم المزمع إنشاؤه في واجهة البحر وعلى أعلى مرتفعات العاصمة، وبلغ الأمر الرئيس بن بله، كما بلغه أن المهندس المصري قرر وضع كرسي تحت القبة ليجلس عليه خلال عملية رفع الأخشاب، ليسقط كل شيء على رأسه في حالة الانهيار، وعلى الفور أعطاه الرئيس تعليمات واضحة ومؤكدة بإبلاغه عن اليوم والساعة التي يتم فيها تعرية البناء كله من الأخشاب التي تدعم الاسمنت المسلح، وهو ما حدث بالفعل. وبعد غروب أحد الأيام يفاجأ المسؤولون السامون في الدولة بتعليمات بالتوجه فورا إلى مقر إقامة الرئيس في فيللا »جولي«، ويتولى رجال التشريفات في شارع فرانكلان وأمام قصر الشعب ترتيب السيارات في شكل موكب ينطلق بالوزراء إلى حيث لا يعرفون. وتنطلق سيارة بن بلة في مقدمة الموكب متجهة إلى نادي الصنوبر عبر ظلام دامس كان يتزايد لحظة بعد أخرى، إذ لم تكن المنطقة قد عرفت التهيئة العمرانية الحالية، طرقا فسيحة وإضاءة كافية. ويصل الموكب إلى المنطقة التي كانت يوما حرماً صيفيا مقصورا على المُعمّر الفرنسي )أو المدمّر على رأي مولود قاسم( بورجو، فوجدوها تسبح في أضواء كشافات عملاقة، وتتوقف سيارة الرئيس أمام البناء ويلتف حوله كبار المسؤولين، وتبدأ عملية إزالة الأخشاب كما كان مقررا لها، ويتم الأمر على أحسن وجه، ويوجه الرئيس التحية لمصطفى موسى وهو يقول لمن حوله بسرور واضح: القبة لم تسقط. وهذا جانب من قصة تشييد أول وأهم بناء عرفته جزائر الاستقلال، والذي كانت قبته التي لا تحملها أعمدة، وما زالت، متعة الأنظار ثابتة الأركان، ومكّن القصرُ الجزائرَ من احتضان كل المؤتمرات التي عقدت فيها منذ الستينات، وعلى رأسها أهم مؤتمرات عدم الانحياز. لكن بناء فندق »الأوراسي« شهد عراقيل كثيرة كانت وراءها مجموعات هندسية لم تكن تعترف إلا بعبقرية »بويون« وإبداع »ني مايير«، والثاني هو صاحب جريمة بناء جامعة باب الزوار الكارثي، وهو وصف لا يدركه إلا من زار الأبنية الإسمنتية الكئيبة التي تقترب من أبنية حصون خط ماجينو الفاشل(Bunkers)، وحملت فيما بعد اسم جامعة هواري بو مدين، وقيل عنها أن الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود. وهكذا، وبعد تأخيرات متتالية، لم يرتفع إلا نحو نصف البرنامج المسطّر لفندق الأوراسي، والذي كان من المنتظر أن يكون في أعلى أدواره العشرين مطعمٌ دوّار يمكن للجالس فيه، كما قيل آنذاك، أن يرى في سماء الأفق انعكاس أضواء مدينة مرسيليا، على الجانب الآخر من المتوسط. ويستطيع كل مواطن اليوم وحيثما وُجد رؤية شموخ »الأوراسي«، الذي لم يتحرك قيد أنملة منذ تشييده، وظل بارزا فوق كل المباني التي شيدت خلال العهد الاستعماري، تماما كما برزت هامة ثوار الأوراس فوق كل من تطاولوا على هذا الشعب الشجاع العظيم المعطاء.