(تابع) ... وأتبعت تقول : " اتجهت العربة التي كانت تحمل جسد حبيبي فيدال المصلوب تمثالا إلى الشّمال.. وكان جسدي على العربة المتجهة إلى الجنوب .." قال :"أسعيد " في نفسه: لأن قلب حبيبك أشد بياضا من الثلج..ولأن قلبك أنقى من رمال الصحراء الذهبية " واندهش لما قالت له حبيبته "سيغورني " ..أو تظن كذلك ؟ -قال لها متعجبا : أو علمت بما درا بيني و بين نفسي ؟ -لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تعمق من جراحكم ..وسارت بي العربة يا أسعيد ..حتى بانت لنا زرقة البحر تقبل زرقة السماء ..وجدنا ثمة قرب الشاطئ مركبا بحريا مزينا ..وشراعه ممتدة من المحيط إلى المحيط ..وكأن قائد المركب يعلم أن الرحلة على ظهر البحر ليست عادية .. ونزل من المركب رجل بهي الطلعة ..وسيم الوجه ..دنا من العربة ..حدق في جسدي العاري ..تقطرت العفة من عينيه ..سالت من عينيه دمعتان باردتان ..رجعت العربة من حيث أتت كان وحده يحس بفجيعتي وينظر إلى مساعديه وهم يحملون التمثال العاري ويضعونه على المركبة البحرية ..دوح رأسه ..ثم اعتلى المركبة هو الآخر ..سبعة أيام بلياليها ونحن في ضيافة البحر ..يقدم لنا أطباقا من هلع ورعب على يد أمواجه المتلاطمة حينا ويبسط بين أيدينا موائد الأمن و الراحة على أيدي الأمواج الساكنة النائمة التي غطاها زبده ..كان أغلب الوقت جاثما قرب التمثال ..صامتا ..حائرا..إلى أن طال به السهر ذات ليلة فحمل ريشة من أرياش الهدهد وأدخلها في محبرته الثملة بدم الحمام الأحمر القاني وبدأ يخط على قرطاس من جلد الأسود ..وينطق الكلمة قبل تدوينها فقال وكتب : حبيبتي "ليلى" بسم الحب الذي جمعنا شهورا .وبسم الكؤوس المترعة بالوفاء والتضحيات ...وبسم الجرح الذي مازال ولن يزول من قلبي إلى الأبد ..ها انا عائد إلى مدينتك "سيتيفيس" ثانية ..ولكن هذه المرة لست جنديا في الجيش الفرنسي المستعمر لوطنكم .. ولا حارسا في الثكنة التي تتوسط مدينتكم ..هذه الثكنة التي كانت مصدر رعب لكم ..لأنه كلما خرج منها جنودنا عم الرعب المدينة فيختفي الجميع ويأوون إلى حاراتهم ..ولأننا كنا نقتل كل من صادفنا دون تمييز ولم اعد مرافقا للضابط "ليزو" الذي خلا قلبه من الرحمة فيستحيي نساءكم و يحرق دياركم ..لا .. لم أعد من اجل هذا ..عدت إلى- سيثيفيس -..هذه المرة أحمل لك تمثالا نحتته أيادي الغدر فأتقنت ..وساقته الآلهة إلى هذا المكان ..تنكيلا به ..وعبرة كما ادعت ..ولكن إن كان ذلك هو ظنها فقد أخطأت لأن هذا التمثال الذي عدت به إلى مدينتك هو جسد لامرأة طاهرة فاضلة مثلك يا حبيبتي "ليلى" ولاقت ما لاقيته أنا من عائلتك ..إن كنت مازلت تذكرين ..أتذكرين أول مرة نرى فيها بعضنا قرب ذلك النبع المتدفق وأنت تحملين الدلاء و تستسقين ..عندما مرت دوريتنا قربكم ووقعت عيناي في عينيك و تكررت الصدفة ..ذات مساء ..حينها أدركت يا حبيبتي ". قاطع "أسعيد" حبيبته "سيغورني" وأكمل عليها نص الرسالة فقال:"حينها أدركت يا حبيبتي ان رجلا مثلي لا يصلح للحرب وحمل السلاح ..لان بين ضلوعي قلبا مليئا بالرقة و الرأفة والمحبة ..قلب ليس فيه من الحقد ذرة ..ولا من الشر خيط ..هذا هو القلب هو الذي تعلق بك يا"ليلى" ..ورحت انعزل عن أصحابي ..وأمقت بطشهم ..وأفعالهم الشنيعة ..وأظل أنتظر قرب النبع لعلك تأتين فأغسل عيني برؤياك ..وأتوضأ برائحة الطيب المنبعثة من ثغرك وأصلي بعدها في محراب هواك طول الليل ..مرت الأيام ..تجمعنا الصدفة ..ندنو من بعض ..أكلمك بلغتي التي تفهمين منها الكثير وتتكلمين بها القليل اليسير ولا أفهم من لغتك .في أول لقاء بيننا ..إلا كلمة واحدة بحثت عنها في قاموس ظل يرافقني منذ غادرت جيوشنا " ميناء طولون " إلى يومنا هذا ..إنها كلمة "أحبك " ..واستمرت لقاءاتنا خفية قرب النبع ..وكنت تجيئين بتلك الجبة المزركشة الجميلة التي استفزك كل مرة وأسألك عن اسمها .. فتقولين مفتخرة :"إنها "جبة الجيرزي " "يا حبيبي ميشال " .. وما شدني إليك أكثر هو حياؤك في الكلام وفي الملبس المستور ..يا"ليلى" وجاء اليوم الذي يبرهن على حسن نية كل ذي علاقة... وتقدمت من عائلتك ارتسمت في نظرها سفاحا مستدمرا وقد أحست أنه جنت علي دولتي ..مثلما جنت على وطنكم وأقابل بالرفض الممزوج بمرارة سخرية أبيك الذي لازلت أتذكر "قندورته" وشاشه "وسرواله العريض ".. وعدت خائبا محطما وأظنك كنت كذلك يومها .." وعدت إلى وطني ..وأصبح يفصلني عنك بحار لا نهاية لها وأنا الذي لم يكن يفصلني عنك إلا جدار ...هل تذكرين ؟ .. مرت الأعوام واعود إليك اليوم بتمثال امرأة أصبح يباعد بينها و بين حبيبها ووطنها وأهلها سبعة بحار ..لا نهاية لها ..أرجوك "ليلى" ..زوريها ..زوري تمثال "سيغورني" واذكريني عندها ..لأني سأضعها قرب بيتكم ..قرب ذلك النبع ..ولن يجف حبي لك ولن يتوقف حتى يتوقف ماء النبع ويجف.. ثم توقف اسعيد عن قراءة نص الرسالة وبكى .. قالت سيغورني : لحبيبها "أسعيد" وكيف عرفت ما جاء في مضمون الرسالة ؟لقد صرت تثير إستغرابي . -لا تعجبي وأتركي الجواب للأيام والآن حدثيني عن امر الرجل الذي كان جنبك وانتما على ظهر السفينة ؟ -تقصد" ميشال " ..انهى كتابة رسالته ولفها وربطها بخيط ناعم من حرير ..ووضعها في زجاجة خمر فارغة كان يحتسيه ورماها في عرض البحر ..وعاد إلى مكانه ومازلنا كذلك في رحلتنا حتى حلقت النوارس فوق رؤوسنا ..ولاحت لأعيننا شرفات البنايات الشامخة فأدركنا اننا وصلنا حيث كان يقصد البحار "ميشال" . -أنزلوني من المركبة البحرية ...وحملوني ثانية على ظهر عربة و ساروابي .. والبحّار يتفقدني من حين لآخر وصدقني يا أسعيد أنني شممت في هذا الوطن الطيب رائحة الحرية تفوح من كل مكان ..وآلمني ان ارى الصبية يلاحقون العربة في فضول كي يعرفوا ما تقله ( هنا كبرت "سيغورني " في عيون "أسعيد" لأنها أحبت وطنه "..وكل من يحب وطننا نحبه ومن يكرهه ويرض له الفتن و الخراب نمقته ونحاربه " هكذا قال أسعيد في نفسه ) ..ولم اكن أعرف حينها أين نحن .. لولا اني سمعت ميشال "يقول لمساعديه سنترك -لروسيكادا - بعضا من شرف المرور بها ولكن لن نستقر فيها ..سنرتاح في مدينة قريبة هي مدينة "الحروش " و نحن كذلك حتى ادركناها ..وتوقفت العربة في ساحة فسيحة تتوسطها ساعة كبيرة فملأت عيوني بجمالها وحسن موقعها .. قال" أسعيد " :مدينة "الحروش " ..اجل عرفتها من الساعة الكبيرة "أتعلمين يا سيغورني " ان تلك الساعة الكبيرة صارت معلما تاريخيا ؟ -وكيف ذلك وما السر فيها ..مجرد ساعة في وسط ساحة وفقط؟