(تابع) ... لم يتمالك "أسعيد " نفسه ..وبكى بكاء شديدا ..وبكت عين الفوارة ..ليلتها ..فامتزجت دموعها المالحة بماء العيون الأربعة المتدفقة السائرة في مجاريها إلى بحور الأبدية والخلود ....لما طال بهما الصمت ..و البكاء المرير ..وسطيف ليلتها غارقة في سكون مخيف ..ولما بدأت تلوح أولى خيوط الفجر ..كان "أسعيد" وحبيبته خارج خارطة الزمن .. ..وقطع صمتهما أذان الفجر الذي انبعث من المسجد الجامع العتيق القريب جدا من مجلسهما ..فقام اسعيد ودنا من إحدى عيون "عين الفوارة " وتوضأ..وسار نحو المسجد كي يؤدي صلاته ..وهو يقول :"سبحان الله الذي حرم الظلم على نفسه ..العادل في قضائه الكريم في عطائه " وعادت سيغورني إلى حالتها الأولى ..جسد امرأة عارية ..أربع عيون لا تنضب ..زوار كثيرون..مصورون قربها...لا من رأى لا من سمع .. .. * * * كانت الأيام على صعبة "أسعيد" لا يفارق غرفته إلا عندما ينتصف الليل ..متجها إلى عين الفوارة ..يطيل الجلوس أمامها و التأمل في جسدها العاري ..جسدها المستور بعفة افتقدها في كثير من بنات مدينته ..وينسج من عرائها ما يستر به عورات واقعه المشين ..كاد يصيبه القنوط ..سبعة أيام مرت على تلك الليلة المشهودة...ولكنها لم تكلمه ثانية فيعود يائسا محبطا إلى بيته ..و الحيرة عن شماله والخوف يغرق مضجعه ..خوف لن يزول ..مادام رجال الأمن يطاردونه بتهمة أنه على علاقة برجال الجبل ورجال " الجبل" يطاردونه بتهمة أنه خائن أبى الانسياق لطلبهم بأن يصبح واحدا منهم ..و بين هؤلاء و هؤلاء .. يعيش غريبا في مدينته.. وبيته.. صار مشبوها ومصيره يبقى مجهولا .. وقد حرمته التهمتان الكاذبتان من التجوال نهارا في شوارع مدينة ولد بها.. وبها تربى..وصار رجلا ..حتى حاجاته الضرورية صار يصعب عليه قضاؤها.. حرمت عليه الجلسات مع الأصدقاء في المقاهي و النوادي ..وحتى الصلاة في المسجد صارت خطيئة بالنسبة إليه وحتف ..و يستحيل عليه في أحوال كهذه أن يكمل حياته في مسقط رأسه . * * * الساعة منتصف الليل و بضع ثوان .. القمر غدا بدرا مدورا في سماء صافية ..الحنين إلى عين الفوارة يزداد ..ينتفض من مكانه ..يغادر منزله ..يسارع نحوها يقتر ب منها في رهبة ..وخوف ..يجلس قبالتها يطيل النظر إليها ..يطأطئ رأسه ..يندب حظه ..وفجأة تبدأ الهالة الخضراء في التشكل والاتساع وتتحرك "سيغورني"..في مكانها ..عليها ثياب من سندس وإستبرق ..وبسمة شوق وحنين إلى حبيبها "أسعيد" قد ارتسمت على شفتيها .." يكاد يطير فرحا ..إنها تعود إلي بعد أن هجرتني أياما مرت كأعوام .. "إذا ما هجرتك يا أسعيد " يوما ..كنت في عيوني و قلبي ..دائما لا تنسى الأحبة بمجرد أنهم يبتعدون عنا ويودعون مرابعنا" -وأنا أيضا يا أسعيد ..ما فارق حنانك عيوني أبدا ..صدقني . -صدقتك يا عزيزي ..وهل لك غيري ..وهل لي غيرك ؟ -ولكن طال غيابك يا"سيغورني " حتى أصابني اليأس . -وهل كنت متشوقا إلي أم لحكايتي التي لم تكتمل ؟ -يا عزيزتي ..لا أظنك مثل نساء عصرنا هذا ..يعلمن الحقيقة ويدارينها بتساؤلهن الدائم ..ثم إنه لافرق بينك و بين حكايتك . -كي يطمئن قلبي .يا..رجل..وأسمعها من ثغرك . -حقا تشبهين حبيبتي وزوجتي "زوينة " كانت مثلك تماما ..تعلم ان الحب كله لها وفيها ..لكنها تسألني من حين لآخر إن كنت كذلك ..حتى يوم الزفاف ..سألتني وقد انحنت على كتفي الأيمن :أسعيد ..أتحبني حقا " . -وبم أجبتها ؟ -طبعا بصمت نطق على شفاهي ..ونظرة فتحت شباك عيوني وأطلت منها .. خيرا فعلت ..فلو أنك أجبتها بنعم ..لما بقي لحبكما معنى ..فكثير الحب ينوب عنه قليل الكلام .ويسير الحزن يترجمه عسير الصمت والكتمان ..وبكت حبيبتي "سيغورني" ..