(تابع).. كنا إذاك عشرون جنديا ..انطلقنا نحو الفاجعة ..لطالما تمنيت الشهادة..أنا الآن نصفين ..نصفي التحتي شهيد في أرض المعركة و نصفي الأخر متبقي شهيد الذكريات خرجنا مع الفجر ..من جبل بُوطَالَب نحو موعد مع الحرية ..لا أدرى لماذا كنت ليلتها أقفز بين الصخور والأحراش ..أعانقها بعنف ..كنت أقبل كل شيء الحجر والشجر ..حتى السماء نظرت إليها من الزوايا.. قلبت فيها عيناي التي حصرهما القدر بين أربعة جدران تعودين باية و في يدك سنية القهوة ..تكسرين خلوتي.. كدت أحكي لك قصة فنائي ..لا أعلم لماذا أشعر بهذا الكبت المهيب ..؟ إلى الآن لا أجرؤ أن أقص حكاية فنائي تضعين سنية القهوة ..لأضع حدا لشرودي ..وبعض شعرك يغطي عينك الزرقاوين ..تنفضينه بعنف قلت لك تملكين شعرا كجدتك باية تقولين و ابتسامة حياء تداعب وجنتيك أكانت جميلة ...؟ قلت : هل تودين معرفة جمالها؟ قلت : نعم أشرت إليك برأسي جري الكرسي نحو قاعة النحت لم أتصوّر أنك يا حفيدتي أكثر جاذبية من والدك.. منذ أن عرفتني وأنت تحبين هذه المنحوتات.. وحدك وريثة جدك ..ووحدك من تفهمين معاناته قلت لي حين اقتربنا من الغرفة .. أتعرف جدي أشعر ببرودة تجتاح جسدي حين أدخل هذه الغرفة.. لها رهبة ..أحس لك مع كل تمثال تجربة من نوع العشق نظرت إليك وشعور بالغبطة يحرك فيَ تساؤلا.. لو أن والدك هو الذي يقول لي هذا الكلام ..؟ قلت لك ها هي جدتك ..تأمليها جيدا قلت و لكنها لا تشبه الصورة التي بحوزة والدي سويت جلست في الكرسي جيدا وقلت..الصورة يا ابنتي لا تعكس في كثير من الأحيان إلا ملامحنا..هذه الأقنعة التي يخدع بها بعضنا بعضا ..أما هذه المنحوتة فإنها تحكي جدتك من الداخل ..من العمق ..تحكي موسيقا أنوثتها ..أنظري هنا إلى ظفائرها..ذلك الشرف والعزة ..النحت يا ابنتي فلسفة الأولين ..حين نحب شيئا عزيزا ..ننحت له أجلََّ مشاعرنا وأنبل عواطفنا اعترتني لحظتها رغبة جامحة أن أفضح نفسي أمامك ..كلاما كثيرا كان يخالجني ..كدت أقول أن هذا التمثال ليس لجدتك وحدها بل هو لفرنشيسكا ..لم أكن أفرق بينهما ..كلاهما عنتا لي شيئا واحدا ..النبل هنا لم أملك نفسي على ستر الدمعة ..قلت لي ..أأحببتها..قلت لك..بل قولي أعشتها لأن كلمة حب بدت لي فارغة ..لا نستخدمها إلا للسيطرة أما حينما يسكننا شيء ما فإننا نعيشه قلت تمازحنني ..يا جدي يا شقي ..من أين تعلمت هذه الفلسفة ..؟ أمام التمثال ورقة ..قلبتها و بدأت تقرئين ..ذكرتني بذلك الزمن الجميل الذي راودني فيه الشعر ..استأذنت و همت في قراءة القصيدة أو الخاطرة قبل اليوم كنت أغسل/ثغر النساء بالابتسامة/قبل اليوم كنت أغسل/ثوب الروح بالاستقامة/قبل اليوم كنت أفهم/سر المغيب بالاستكانة/قبل اليوم لم يزل يبعثرني/يجعلني بدرا ، يشرق/كالشمس كعلي في الكنانة/يحملني هنا – في القلب تنهدت قليلا ..وقلت إيه يا ابنتي ..أخذتني إلى زمن جميل ..وجدتك واجمة و الورقة ترجف بين يدك ..وضعتها في مكانها على أفضل ما كانت ..وأطبق على كلانا صمت رهيب قلت ما بك يا ابنتي قلت في لهف ..أنت كنز يا جدي ..لماذا لا تنقل للناس هذه الذكريات حيث تجتمع الثورة والحب و النحت ..مسيرتك يا جدي ثرية من شاب لا يقرأ إلى شاعر ونحات ..أكيد أن هناك ألغازا ..كلما أكتشف فيك زاوية أجدني حيرى من زوايا كثيرة هنا أطرقت رأسي في الأرض لأذكرك فرنشيسكا ..ما زالت تلك الأمسية ماثلة بين ناظري..حين قلت لي قادر أريد أن أعود إلى غرفة النحت لأتعرف على نفسي جيدا..أريد أن أقاسمك الجهد هناك لم أفهم لحظتها ماذا أردت بدقة ..إنها حاجة النساء من دفعت بك إلي ..وحاجة الرجال من جعلتني أغرس رأسي في الرمل لأقول لك تعالي سرنا معا إلى طريق معلوم ..كم كانت تلك الغرفة واضحة ..بقدر ما كانت مظلمة ..كان يسكنها الوضوح ..كل ما فيها يلخص تجربتي كجزائري وجد نفسه وحيدا ..صنعت له الابتسامة أكثر من حاسد ..أكثر من عداء ..فأعدائنا ينبتون من سلوكاتنا دون أن ندري ..تلك الابتسامة قد تبني لك صديقا أو اثنين لكنها تصنع لك أعداء كذلك دخلت فرنشيسكا إلى غرفة النحت ..لا أعلم سر خوفي هذه المرة.. أكنت أعلم أنه آخر لقاء لي معك... أشممت القدر الذي سيبعد جسدانا عن الحركة...أكنت أدري أنك آخر النظرات لترحلين إلى باريس لم أحسب أنك ستبتعدين إلى الأبد ليبقى شبحك سر الحياة وبهجتها سكنني طيفك كالمبجلة تفوح منك دوما تلك الرائحة الزكية ...نفس العطر الباريسي الذي ملك أنفاسي على مدار خمسين سنة ..هل تراك لا زلت على قيد الحياة ...تذكرين رجل رسم على جسدك خريطة الجزائر كنت أعلم أن شيئا ما سيحدث ...ستتهاوي كل الأصنام التي بعثت أشواقي ...اليوم فرنشيسكا سأحطّم كبرياءك ..اليوم سأهزم فيك نصفك الآخر ..سأهدم اسمك الذي زرعك في الورق تابعة لفرنسا.. سأخلد على معالمك حريتي من تبدأ الحرية ..سأشعر بالانطلاق ...لن يأسرني الجسد بعد اليوم ..سيسلبني الطيف آخر معاقل الرجولة ..سأنصب خيمتي لأشق تفاصيل الزمن القادم بيدي سأحرك التاريخ القديم ..لأدفن سر الولاء المقدس لن يبق بعد اليوم شيئا اسمه جسدك ..سيرتسم خيالا يأخذا له ماكنا في قلب نجم بعيد كما الأساطير القديمة ..أنا لن أحنط جسدا بل سأنحت ذكرى شاهدة على زمن الرّجولة في تلك الأمسية ..ارتكبت لأول مرة الحرام كاملا دون نقصان ..اجتهدت فيه بكل التفاصيل، تفننت في تحريك الجسد ...أخذني الحنين إلى حرفتي الأولي ..للجسد أكثر من طريق لترويضه ...أكثر من مسافة لإضرام النار فيه ..أقسمت أنني لن أتركه اليوم حتى آخذ منه لسنوات الجفاف القادمة هكذا أجهدت نفسي ..حتى أنت لم تمانعي أبدا.. كنت على علم أن والدك يرتب قدر سفرك إلى الخارج...كنت تسمينها غربة ...لم أشعر أبدا بهذه الكلمة إلا بعد أن أصبح كل واقعي غريبا لا يشبهني، لا يشبه تاريخي ها أنت بين يداي ..أهديتك كل رسائل السلام..مارست ضدك كل الخطط الحربية الآتية في القدر القريب ..بدأت بسياسة الأرض المحروقة ..ليصبح الجسد كله نواة واحدة ..لم يصبح معني للشهقة هناك ..كانت سنفونية عميقة تداخلت الأصوات والشهقات على ربوة العشق إلى آخر الحدود إلى حد التخمة لن أنس لحظتها حين قلت لي تحت ضربات الحب العنيف قادر لك أن تشبع ..أنا أخذت حاجتي لأصبر وقلت لك إنني أتزود لأنسي مع أن الصبر والنسيان كليهما واحد..إلا أننا لم نفق على نهج الصراحة إلا بعد ساعات طويلة عدت بك إلى مزرعة والدك منهكة.. وقد قذفت داخلك عصارة عشقي وحبي.. وزرعت داخلي طيفك اقتربنا من منزلك وضعت رأسك على كتفي سقطت دموعك مددت يدك نحوي.. وقلت في هدوء غدا سأرحل وقلت لك: وغدا سأرحل بدأنا معا و رحلنا معا..قبلت يدك مرة أخرى وعدت ..ودخلتِ البيت كان لقاءنا الأخير..بهجتنا الأخيرة.. اضمحلالنا في قدر لا نعرفه منذ تلك اللحظة لا أعرف عنك شيئا.. بقي وحده الحزن يعذبني...يقهر أيامي القادمة ..حين تصبح الحيرة حبيسة القلب شعرت أن الدّنيا كلها تطبق على صدري الهزيل ...تجعله على شاكلة البكاء تارة و تسلخه إلى الوحدة تارات