بقلم: محمد صباح الحواصلي/ واشنطن كانا جالسين على مقعد محفور من جذع شجرة صنوبر ، وكانت أمامهما بحيرة ، وأشجار كثيرة عالية شائخة ، وأخرى كبيرة يافعة ، وكان في مياه البحيرة الساكنة زوارق صغيرة تدفعها سواعد عازمة و تترك مع تحركها الوئيد علامات استمرار على سطح المياه ، وكان في سماء البحيرة نوارس بيضاء ، وهنا ، فوق مساحة العشب الخضراء الندية ، غربان تسعى وعصافير صغيرة تتقافز في بطون الأشجار حائرة كيف تهب ابتهاجها ، وكان الأفق يختبئ وراء تله عالية من الأشجار ينتظر هجعة شمس النهار.. وكان الكبير منهما يشير إلى المشهد كله ويقول: "وحدة جمالية متساوقة.." فقال الأصغر سناً: "لا ينقصها إلا أن تكون العين قريرة.." فقال الكبير: "أشعرُ بارتياح على الرغم من أنني أعلم أنه شعور لن يدوم لأنني لا محالة سأعود إلى الذي لن يُنسى." صمت الآخر واكتفى بأن تنهد.. ثم صمت كلاهما ، الكبير والاصغر سناً ، وكان الوجود صامتا من حولهما ، ثم تعاقبت رشفات الشاي المتأنية من كأسيهما حذر السخونة. قال الأصغر سناً: "أن تكون في حضرة أجمل مشاهد الطبيعة وذهنك مشعول بأبشع ما يمكن أن يقترفه الإنسان.. هذه مفارقة موجعة غير متكافئة تسكننا وتبحث دائما عن تفسير لها.." قال الكبير: "في لحظةِ قتلِ إنسانٍ لإنسان ألم تكن الطبيعة من حولهما جميلة أخاذة ؟ وكأني بها مستمرة بالقاء دروس الجمال والعبر.." رشف الآخر من كأس الشاي وكانت أنفاسه مسموعة متلاحقة. جلسا طويلا وهما يتحدثان ، ثم نزلا إلى البحيرة وسبحا ، وكان لون الغروب يتبدل على صفحة الماء ، وفي السماء ، وعلى الحشائش، وحتى على خطو الهدوء ولمسات البرودة التي لها لون الإنتعاش. أنتهى النهار وساد الظلام حول النار ووهن استعارها ، وشملهم صمت مزحوم بالمشاهد المؤسية. رمى الأصغر سناً بحطبة فوق النار ،عسعست ، وطارمنها شرر قصير الأمد. ثم قاما إلى خيمتهما الصغيرتين.. "تصبح على خير.." "وأنت من أهل الخير.." دخل كل منهما خيمته. الكبير في خيمته بين شجرتين عاليتين ، والأصغر في خيمته الأكثر قرباً من فسحة النار. وكانا يفكران.. يفكران بأوجاع الوطن ، وتجليات الموت ، وغياب الخلاص ، وسيادة اللامعقول ، وكيف أن لكل شئ نهاية ، وأن الأشياء كثيراً ما تكون نهايتها كرطم الأمواج لصخور الشطآن لها زبد ولها هدير.. وديمومة. قال الأكبر سناً من داخل خيمته: "نسينا أن نصب الماء فوق النار.." أجاب الأصغر سناً: "ستخمدُ من تلقاء نفسها بعد قليل." قال الكبير: "أخشى أن تهب الرياح في غفلة منا فتحمل النار إلينا وإلى الغابة." صمت الأصغر سناً ثم جاء صوته من خيمته فاتراً: "سأقوم.. وأخمدها." سمع الكبير حركة خروجه من خيمته ، وصوت الماء ، وعسيس الجمر ، وامتلأت الظلمة بدخان كثيف. "شكرا.. هكذا أفضل." قال الكبير ثم تنهد وعانق الغطاء وأسلم جفنيه لطبقة الظلام الكثيفة. وكان من المتعذر عليه أن ينام بسهولة. ومع حلول سكرات الغفوة عادت لمسامعه أصوات ذئاب تعوي على فترات متباعدة.. عواءُ جوع ووعيد ، منها بعيدٌ ومنها أكثر بعداً.. الأكثر بعداً كان أكثر إيحاءً ورهبة.. ولم يع جيداً وهو يلج الغفوة إن كان العواء من البراري القريبة ، أم أنه من الذاكرة البعيدة. "نمت؟" قال الأصغر سنا..ولم يسمع جواباً.