بقلم: محمد صباح الحواصلي/ سوريا “أنظر الحوت !" هتفت بدهشة. ما أن نظرتُ حتى ظهر حوت آخر. الأول أضخم من الثاني.. رأينا امتداد ذيليهما فوق الماء.. ذيل أكبر من الآخر. كانا قريبين من اللسان الأخضر الداخل إلى المياه المالحة ، المسكون بالبيوت المطوقة بفئ الشجر في النهار ، والأنوار الصفراء في الليل. “أنا لم أر حوتا في البحيرة المالحة (سالت ليك).. هل رأيت أنت؟" قلت لها: “رأيت واحدا هناك ، بعيدا.. منذ سنين ، لم يستوقفني كثيرا بسبب بعده.." وأشرت إلى هناك.. إلى المياه المسترخية تحت التماع شمس العصاري ، بعيدا عند نهاية مشهد الماء. غاص الذيلان في المياه ، وبدا انحناء ظهر الحوتين فوق سطح الماء ، عند اللسان الأخضر. قالت: “لا بد أن تكون المياه هناك عميقة." “لا بد.." “لكنها قريبة من الشاطئ.." “تبدو قريبة.. لكنها على شئ من البعد.." وعاد وظهر الذيلان في مكان آخر من المياه قريب.. محاط بالتماع نور الشمس على سطح البحيرة الذي أخذ يتموج من حولهما إثر تحركهما. قالت: “سعداء الذين يسكنون في تلك البيوت مع مشاهد المياه المتنوعة.. عيونهم تلاقي الأفق المفتوح كل صباح ، والسفن المسافرة وزوارق الصيد والغواصين.. والحيتان وغيرها من الأسماك.." قلت لها: “ماذا يريد الإنسان أكثر من مكان يأويه ، مظلل آمن هادئ ، يطل على مشهد من مشاهد الطبيعة. هل خلقنا لغير ذلك؟" قالت: “نحن نسعى إلى هذا لكننا نضل الطريق.." مشينا على طول الممشى الخشبي والبحيرة على يميننا ، وكان مشهد الحوتين معنا.. قلت لها لو نذهب إلى اللسان الأخضر فهناك ستكون الرؤية أكثر وضوحا.. قالت لي لكن اللسان الأخضر أكثر بعدا مما يبدو. ثم صمتنا وكانت معالم المكان صامته أيضا: الأفق ، والسفن والزوارق البعيدة ، والقوارب التي يدفعها أصحابها نحو ممر نازل موصول بالمياه لربطها بسياراتهم وسحبها إلى اليابسة.. وحتى النوارس كانت راكنة فوق الرمال المكشوفة شبه نائمة. “بماذا توحي لكِ الحيتان؟" قلتُ لها. نظرتْ إلى الحوتين.. لكنها استمدت كل معانيها من خيالها عن ذلك المخلوق الهائل: “توحي إليّ بالقوة والعظمة.. لا شئ يستوقفك من مخلوقات البحار مثل الحيتان.. الحوت أكبر مخلوقات الوجود حجما.." قلت: “الحوت مسالم لا يؤذي.. على الرغم من حجمه وقوته فهو غير مؤذ.. وكأنه يعلمنا أن القوة ليست للإعتداء. قارنيه بسمك القرش الأصغر حجما ستدهشين من نزعة الإعتداء عنده.. إنه مؤذ بامتياز.. من حركته تدركين تأهبه للأذى والإفتراس.. القرش يؤذي حتى وإن كان غير جائع.. هو في حالة عدوان مستمرة.. تبدو المياه كلها مستعمرته يهاجم في أي بقعة فيها.. في حين أن الحوت ، على الرغم من قوته وحجمه اللذان يؤهلانه على هزيمة المخلوقات الاخرى، يعيش بسلام معها دون حدود.. حتى النوارس تستأنس التقاط رزقها من على سطح ظهره المنكشف للهواء.. ولا تعجبي من أنه يستأنس من وجودها فوق ظهره.." استندنا على حافة السور الخشبية الرطبة المشبعة بالمطر ، وقد غاب الحوتان تحت الماء. كنا ننظر إلى سطح المياه حيث كانا ، فبدا السطح أكثر تموجا مع خروج فقاعات الهواء من تحته. ربما ابتعد الحوتان ، والشمس خرجت من خلف غيوم رمادية لها أطراف بيضاء.. وغابت السفن البعيدة ، حتى الزوارق غابت.. والنوارس طارت على مستويات منخفضة.. وصعدنا الطريق حتى آخره ، وعدنا أدراجنا والبحيرة على يسارنا.. وكنا مانزال نحكي عن الحيتان وسمك القرش.