تواصلت الندوات بوم الأحد مع دخول فصل الربيع ،على مستوى عال من الفكر والنقاش، وفي الساعة العاشرة صباحا انتقلتُ وصديقي العُماني د/ محمد المحروقي إلى جامعة الملك سعود حيث ألقيتُ محاضرة بقسم اللغة العربية وآدابها بعنوان (التمثيل والتخييل في الأجناس السردية العربية الصغرى) أمام أساتذة القسم ، وعلى بُعد عشرات الكلمترات وبتقنية عالة جدا في توصيل الصوت يوجد قسم الطالبات رفقة أستاذاتهن للاستماع والحوار نظرا لمنع الاختلاط· وتعتبر جامعة الملك سعود إحدى أهم المعالم العلمية في الوطن العربي وربما تفوق العديد من الدول الأوربية ·· ثلة من الأساتذة الباحثين بجامعة الملك سعود بالرياض ، من خيرة العلماء والأدباء الذين يحملون مشعل النقد الأدبي يؤسسون لتقاليد علمية رصينة ستُظهر آثارها في مستقبل الأيام · جامعة تتكامل فيها كل الشروط العلمية العالمية ، بحيث إن كل باحث جاد أو عالم مقتدر إلا ويتمنى قضاء ردح من عمره العلمي بين أساتذتها وباحثيها · ويوجد بهذه المنارة العلمية صديقي الناقد د/ مُعجب العدواني ود/ أحمد صبرة كما تعرفتُ إلى أصدقاء جدد منهم د/ صالح ود/ زياد وآخرين · lll عدتُ إلى الماريوت ·تناولتُ وجبة الغداء رفقة أصدقائي وقد صرت متبرما من موسى النمَّاسْ الذي تحول إلى شخصية مزعجة ومشبوهة ، فكرتُ لو كانت شخصية في إحدى رواياتي لتجرأتُ وقدمتها للمحاكمة بتهمة النصب والكذب والإدعاء · عدتُ بسرعة إلى خلوتي في قيلولة متأخرة ولما استفقتُ هبطتُ لمتابعة المناقشات الفكرية المتواصلة إلى غاية الثامنة لحظة جاء صديقي ثابت بن أوس العدواني وأخذني إلى خلوة امرئ القيس بالرمال ·في جو ليلي بارد دخلنا الخيمة السابعة ·هناك تمددنا نتسامر بالحديث الطيب ونأكل التوت والعنب مُغَمَّسًا في عسل حريف ، قبل أن يلتحق بنا كل من أحمد المصري وصديق ثالث ··وبقينا مواصلين سهرتنا والغلام ازْبير يخدمنا إلى أن أتانا بعشائنا ساخنا ولذيذا · رويتُ لهم حكاية موسى النماس الذي خدع دولتين بنصبة سريعة ، فضحكنا وبصري من حين لآخر يُراقب الباب في انتظار مرور طرفة بن العبد من هنا ··وكنت متأكدا من عبوره نحو حتفه· تخيَّلتُ أن أكتب إليه رسالة مني يحملها إلى المغرب الأقصى بافريقيا بدل البحرين ··ثم رأيتهما ،هو والمتلمس، يقفان بجوار تلك البحيرة المقابلة لنا وكل واحد منهما يحمل كتابه بيمينه · شاب أسمر اللون في العشرين من عمره كما أقدر ، هو طرفة وإلى جواره المتلمس ،شيخ شايْبْ ومهْلُوبْ·نادى المتلمس على الغلام ازبير وهو خارج من خيمتنا القريبة منهما،( وأنا أتابع كل شيء كما لو كنتُ واحدا منهما أو هما معا ) حتى إني تململتُ من مكاني هَامًّا بالقيام فسقطت بعدما خانت الركب حاملها لأقول له إن لي حقوقا في معلقته وإني مسافر يوم الثلاثاء إلى مكة وسأعلقها على أستار الكعبة · كنت أريد قول كل ذلك وارتخيت أحرك المشهد المتسمر أمامي خارج الخيمة ببضعة أمتار · قال المتلمس للغلام (ازْبير) أن يقرأ له الرسالة، فقال له هذا الأخير إنها تحمل أمرا بقتلك على عجل ( وكنت أعرف حق المعرفة أن ازبير لا يعرف القراءة ولا الكتابة ولكنه تنبأ وتوهم وقال ما قال لتكون الحكاية أمامي كلها لصالحي )·خرّقَ المتلمس الرسالة ورماها في البحيرة وهو يتطلع إليها والتيار يجول بها في كل جدول ·ولما رفض طرفة تقطيع صحيفته، دعوته أن يستبدلها بصحيفة كتبتُها له ويحملها إلى حبيبته مُزنة الشامية ذات الملامح الأندلسية ، ملكة الشمال الأشهل ، عوض عامل الملك على الحيرة · جاء في الصحيفة البديلة ما يلي : اهل يستطيع النهر تغيير مجراه حتى أُغير قدري عن الموت المحتوم؟لم يفكر أحدٌ ، من قبلُ ، كيف تشكلت تلك العلاقة أول مرة بين الماء والمجرى ··وليس بين النهر والنهاية · ليس عبورا أو انفلاتا وجدانيا ، بل دهشة ربانية · النهر ظمآن لثغرك العذب قل لي إلى أين المسير في ظلمة الدرب العسير طالت لياليه بنا والعمر لو تدري قصير أنا شاعر أحلمُ بحرث الأرض وبذرها بالكلمات·ولما أموت أحب أن أكون بذرة أخرى في بطن الأرض الرحيم ، قصيدة دالية تتدلى منها أيامي العذبة · التاريخ الذي يضرب في الجذور ، ليس عابرا لأني حينما أفكر فيك أشعر بالفرح (شعورا ومذاقا) في كل مكان لا يهمُّني والدك ابن الرقاني أو المتلمس خالي ·أنتِ من يترك حرارة في اللسان وعذوبة في الكلام · الشمس التي تطلع يوميا منذ أن رفع آدم نظراته الطاهرة بحثا عن نصفه الأزلي وسط زمان ومكان لا محدود ···ليس عابرا · المطر الذي يهبط منذ بدء العالم ويضرب الأرض حبا وغزلا ليس عابرا · كذلك أنتِ التي أوجدها الله في هذا الزمان لاختبار الوجدان ··لستِ عابرة أبدا · أخاف أن أمشي في غربتي وحدي آه من الأيام آه لم تعط من يهوى مناه ما لي أحس أنني روح غريب في الحياة أخاف أن أمشي في غربتي وحدي lll أتمنى لو ينامُ العالم لجزء من الثانية ، توازي رمشة عين بها كحلٌ وبراءة الشفق ، وحينما تنقضي تلك المدة الزمنية التي هي ذرة لامرئية ، يكون ربيَّ اللهُ قد عدَّل في الزمان بقدرته، وهو القادر المانح العزيز المدرك والمستجيب ، بعد رمشة العين تلك، سنجد أنفسينا - أنا وأنتِ - وقد صرنا مثل سفينة عائمة ·· ألا يا ثاني الظبي * * الذي يبرُقُ شنفاهُ ولَولا الملكُ القاعد * * قد ألثَمَني فاهُ· lll حينما التفتتُ إلى صديقي ثابت بن أوس العدواني وجدته منهمكا في قراءة رقعة جلد قديم، له لون مثل لون جلدي ، كُتِب عليه الجزء الضائع من رحلتنا إلى الشام وقصائد مجهولة لطرفة بن العبد · قال لي : - لقد ضللنا أعمارنا وراء الملك الضليل ، ثم عُدنا نرافقُ طرفة في رحلته الأخيرة ؟ قلتُ له : -بل لبسنا جبة امرئ القيس التي هي علينا حتى الآن ·وركبنا فرس طرفة للقفز فوق ظل الزمن· * أنا والفجر ونوار اللوز وصلتُ مكَّةَ قبل الفجر بوقت معلوم عبر رحلة مِعراجية من الرياض إلى جدة، ثم برا في حوالي ساعة وقليل إلى مكة ·وكان الظلام مرفوعا غير عاقل ·رتبتُ بسرعة حقيبتي في فندق قريب من الحرم ثم خرجتُ في إحرامي حافيا عاري الرأس كأني ذاهب إلى نبع حياتي لتفقُّد دهشاتي الأولي ودفاتري التي دوَّنَ فيها ملاكي ، بإذن ربي مالك الروح ، كل آثامي وخطايايَ الخفيفة منها والثقيلة · دخلتُ دربا سرتُ فيه وحدي ، متعجلا بمهل·عقلي يتأمل وأنا أمشي على خطوات الأنبياء منذ سيدنا إبراهيم الذي مرَّ شامخا ووحيدا قبل أن يملأ العالم بذريته الصالحة ·· من هنا كان محمد (ص) يُجالس أصحابه ورآني منذ ذلك التاريخ في هذا المكان · أتقدم مثلما تتقدم الأمطار من السماء نحو الأرض ··المطر هو الأشد عطشا للاندساس والذوبان في التراب · بيني وبين باب الملك عبد العزيز خطوات فقط ·استبدَّ بي شوق الأطفال لأثداء أمهاتهم ···للحليب الساخن ··لحبات الرمان بلذة البراءة ، بمذاق القرنفل وورق البسباس البري وصوت الوحيش المختلي منذ زمان ، بحنين الشفق الشفيق إلى مخابئه السرية · هكذا كان إحساسي ، سخونة في هويتي تجتاح كل جسمي ، فلم أعد أتحكم فيه ؛ فقط خطواتي تقودني وأنا لا أبصر سوايَ في خط مستقيم أهش على روحي التي تسبقني ثم تلتفتُ نحوي تستعجلني ·· تستعجلني أن أفتح قلبي وقد صرتُ على درج الباب أرى الكعبة شامخة فترتعد فرائصي ويملأ الدمع عينيَّ والعرق يتصبب مني مدرارا وقد فاضت دموع العين مني صبابة حتى بلَّ دمعي روحي · اندفعتُ بعدما جدّدتُ النية في الاعتمار ،ودخلت وسط جموع أحباب الله والرسول من كل الجنسيات ، أطوف طواف العبد المستغفر ·أطوف كأنني في أول حياتي خلف سيدنا إبراهيم نرسم الخطوات التوحيدية الأولى لعقيدتنا · كأنني في أول حياتي خلف سيدنا محمد في وداعه لنا·· أردد ما يردده وأتمنى ما يتمناه· سبع دورات كنتُ فيها ملفوفا بسبع لفَّاتٍ ثقيلات بالآثام والذنوب وفي كل طوفة أستغفر ربي وأدعوه أن يغفر لي سهوي وانشغالي عن حقوقه كما يغفر لي سوء تقديراتي وشططي عن قصد أو غيره · في كل طوفاتي السبع حضرتني سبعة واجبات بترتيب عفوي بدءا بحقوق ربي عليَّ، وحقوق والديّ ثم أبنائي ، يليهم أساتذتي الذين علموني وأخرجوني من الجهل إلى النور ومكنوني من تعبيراتي وربُّوني على القيم وعزة النفس ·وكذلك حقوق وطني بدءا من القبيلة إلى المجتمع، وأخيرا استغفرتُ ربي مما اقترفتُ في حق أصدقائي وحق كل الذين أعرفهم أو لا أعرفهم · أحسستُ وأنا أُنهي دوراتي كمن دخلت في البدء وعلى كتفي جبالا رواسي، وخرجت رشيقا ··كمن صرت شجرة لوز في جبل عال بنوار أبيض أو غيمة حرة تحملُ روحها وتسبحُ في كون الله· اقتربتُ من الكعبة ، تلمستُها وقبلتُها في المكان الذي تلمَّسَها وقبَّلَهَا صاحبي ، ولم أشأ أن أخبر أحدا أنني شعرتُ خلال طوافي بارتفاعي عن الأرض مثل نبي يأخذه الله إلى جواره أو كنوَّار أبيض مشبع بعسل ·لم أصدق ما أنا فيه ، لذلك كنتُ منقطعا عن كل ما هو زائل ومتصلا بما عرفَته روحي من مكمنها وكأن أياد أبوية لا مرئية تشدُّني وتحملني من إبطي · ثم أعلنَ المؤذن قيام صلاة الفجر المكي لكل العالمين فأقمنا راكعين ساجدين خاشعين بشموخ لا محدود للرب الواحد الأوحد ، وسط غبش الفجر المتسلل من جبال وشعاب كل الجزيرة· وبعد انتهائنا من الصلاة أتممتُ السعي وباقي الفروض · كنتُ في حالة انتشاء مُفرطة ·ذهني خال من كل ما أفسدته الأيام ···فقط أفكر في ما كان يفكر فيه سيدنا إبراهيم لحظة انتهى وطاف وفي كل ما كان يفكر فيه سيدنا محمد يوم هبوطه من غار حراء ·بل راقني رؤية أن طوافي في تلك اللحظات الجليلة قبل انبلاج أولى نوَّارات الفجر الأبيض قد أشعرني أن من كانوا حولي هم أصحابي على مر العصور ··وجميعا كنا خلف صاحبي· lll أحس بدبيب قوي يضخُّ الحياة في ذاكرتي ، فأشعر، ولأول مرة، أنها بثلاث طبقات تَسَعُ أرشيفا بألوان مختلفة ، جزء مُغلق يثوي أزمان وحيوات سلالاتي ؛ وجزء ثان به حياتي مذ ولدتُ حتى اللحظة التي أنا فيها ؛ أما الجزء الأخير المثير فهو الذي يختزنُ ما سيأتي من أزماني ، وأنا هنا ، في هذا المكان الذي اختاره الله لانطلاق النور والحياة· أنهيتُ عُمرتي ، وعدتُ إلى غرفتي ·استحممتُ وتناولتُ فطورا خفيفا من حليب بارد وتمر وخبز شعير لأرجع إلى حالات الذهول؛ أرى ببصري في مشهد لا يقبض عليه بالكلام ، كل الأزمان التي سبقت هذه اللحظة · وأنا أغادر مكة في اتجاه مدينة جدة للعودة إلى المغرب ، كانت السعادة تغمرني بالكامل ، وفي العمق البعيد هناك حزن صغير يقبع بدواخلي، لكوني لم أستطع إقناع اللجنة التنظيمية بتدبير إضافة ثلاثة أيام أخرى أطوف فيها دروب مكة وكل الأماكن التاريخية والدينية وأزور المدينةالمنورة · لكنني كنتُ أعود لأعزي النفس بأن الفرصة ستأتي مرة أخرى وربما بشكل أحسن بكثير · lll قال لي : يا شعيب يا ابن محمد ، عليك بالدقة والوضوح فأنتَ في أرض الحقيقة والأحرار لا تحتاج إلى الاحتمال · قلتُ له: أنا في حاجة إلى غار تستريح فيه روحي ·أمكث به ساعة أو دهرا كاملا أناجي ربي، أبوح له بذنوبي ··أنا العبدُ الخطَّاءُ في حق نفسي وأرضي وهويتي · أريدُ أن أكون في غاري عابدا مُطْلقا ، أُدَوِّنَ حياة أمتي وأحلامها متأملا في من نكون ··هل نحن نور الأنبياء أم رمادهم الساخن أم صوتهم الساكن في أكباد الأزل ؟ لَوْ تَمْنَحُنِي ، رَبِّي، فُرْصَةً أُخْرى ،وَأَنْتَ المَانِحُ بِلا حِسَابٍ ،لَطَلَبْتُ أَنْ أَحْيَا وَأَمُوتُ كَمَا كُنْتُ دَائِمًا فِي حياتي خلال كُلِّ العُصُورِ وَالأَزْمَانِ ·