مباشرة بعد تسلمه لمهامه وزيرا للخارجية كشف رمطان لعمامرة عن أولويات الدبلوماسية الجزائرية في المرحلة القادمة، فقد قال إنه سيعمل من أجل تحرير الدبلوماسيين الجزائريين المختطفين في شمال مالي، ومن المنتظر أن يقوم برحلة إفريقية قريبا تبدأ بزيارة مالي . كان واضحا أن اختيار لعمامرة لخلافة مدلسي على رأس الدبلوماسية الجزائرية فرضته التحديات الإقليمية التي باتت مفروضة على الجزائر، فالوزير الجديد دبلوماسي متمرس شغل منصب مفوض السلم والأمن للاتحاد الإفريقي، وهو ما جعله على اطلاع واسع بكل النزاعات الدائرة في القارة، لكنه أكثر من ذلك كان وسيطا في أكثر من نزاع في القارة بعد أن شغل منصب أمين عام وزارة الخارجية في الجزائر. ورغم أن السياسة الخارجية في الجزائر تبقى من صلاحيات رئيس الجمهورية، فإن بوتفليقة، وهو الدبلوماسي المتمرس، يكون قد اختار هذه المرة صاحب اختصاص ليعطيه هامشا واسعا من حرية التحرك للعمل على الملفات الحساسة التي تهم أمن الجزائر خاصة ما تعلق بالوضع المعقد في منطقة الساحل، وكذا المخاطر الأمنية التي تهدد الجزائر من جهة حدودها مع ليبيا وتونس أيضا، وقد جاء في التصريحات التي أدلى بها لعمامرة في مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الكندي أول أمس التأكيد على أن التهديد الإرهابي أصبح موجودا، والنظرة الإستراتيجية للدول الكبرى هي" أن الجزائر تكاد تكون الدولة المستقرة في منطقتنا وأنها تمثل عنصر استقرار ودعم العمل الدولي محاربة الإرهاب في هذه المنطقة"، ولم يفوت الوزير أول فرصة ليقول إن "الجزائر على أتمّ الاستعداد لتقديم الكثير في محيطها الجغرافي، وهي على استعداد للحصول على الدعم التقني وبالأجهزة المتطوّرة في مواجهة ظاهرة الإرهاب والجريمة المنظمة العبارة للقارات". هذه التصريحات تؤكد على أن الجزائر ستركز في المرحلة المقبلة على محيطها الإقليمي المباشر، سواء من خلال التصدي للمخاطر التي تهدد أمنها، أو من خلال لعب دورها كقوة إقليمية فاعلة في مواجهة الإرهاب وترسيخ الأمن والاستقرار في الساحل الإفريقي، ومن غير المتوقع أن تغير الجزائر المبادئ التي تحكم حركتها الإقليمية، فمنذ قرابة عقد باشرت الجزائر حملات دبلوماسية منظمة من أجل شرح المخاطر التي تنجر عن دفع الفدية للإرهابيين الذين اتخذوا من اختطاف الرعايا الغربيين في منطقة الساحل والصحراء الكبرى وسيلة لتمويل الأعمال الإرهابية بعد التضييق الذي فرضته عمليات مكافحة الإرهاب خلال عقد التسعينيات، وقد عبرت الجزائر عن استنكارها للجوء الدول الغربية، مثل ألمانيا، إلى دفع أموال طائلة بملايين الدولارات للجماعات الإرهابية من أجل تحرير الرهائن، وقد طرحت هذه المسألة بجدية على إثر اختطاف الرعايا الألمان في الصحراء سنة 2003 والذي انتهى بدفع فدية تحولت فيما بعد إلى مصدر أول لتمويل الجماعة السلفية للدعوة والقتال، وقد بينت إحدى العمليات التي نفذتها قوات الجيش الوطني الشعبي في الصحراء نوعية الأسلحة التي استطاعت أن تحصل عليها الجماعة بعد حصولها على تلك الفدية، وقد أكد إرهابيون في اعترافات جرت لاحقا بأن أموال الفدية كانت مصدرا أساسيا في تمويل العمل الإرهابي بعد أن وجدت هذه الجماعات نفسها منبوذة من قبل المجتمع. هذه المبادئ هي التي جعلت الجزائر ترفض التفاوض على أساس دفع الفدية لتحرير الدبلوماسيين الجزائريين الذين اختطفوا من مقر القنصلية الجزائرية بغاو شمال مالي قبل عام ونصف من الآن، وقد وجهت انتقادات لاذعة للدبلوماسية الجزائرية من قبل أحزاب المعارضة التي اتهمت الخارجية بالفشل في تسيير هذا الملف المعقد، كما تم انتقاد أداء الدبلوماسية الجزائرية بخصوص الأزمة المالية، غير أن الواقع الإقليمي لم يكن ليترك للجزائر هامشا واسعا للمناورة، فقد تدخلت فرنسا عسكريا في المنطقة، ولم يكن واردا ترك الجماعات الإرهابية تسيطر على كل التراب المالي بعد أن بدأت زحفها على وسط البلاد انطلاقا من مدن الشمال التي كانت تسيطر عليها. العلاقات الشخصية ستكون من ضمن الأوراق الرابحة التي يمكن أن يعتمد عليها لعمامرة لتحقيق أهداف الدبلوماسية الجزائرية، فقد سمحت له سنوات من العمل الدبلوماسي في إفريقيا بربط شبكة واسعة من العلاقات مع قادة الدول الإفريقية، وأكثر من ذلك مع بعض الفاعلين من دون مستوى الدولة، مثل الجماعات المعارضة التي كانت طرفا في مختلف النزاعات التي شهدتها القارة، وهذا يعني أن الدبلوماسية الجزائرية ستكون في موقع جيد للمساعدة على حل النزاعات الإفريقية، واستعادة بعض المواقع التي تكون الدبلوماسية الجزائرية قد خسرتها خلال السنوات الماضية بسبب انكفائها نحو الداخل لحل مشاكلها. تعزيز النفوذ الجزائري في إفريقيا هو المدخل الأساسي للحفاظ على دور القوة الإقليمية الفاعلة في المنطقة، وهذا الهدف يمر حتما عبر تحسين الموقع التفاوضي للجزائر مع القوى الكبرى، وإلى حد الآن هناك اعتراف صريح من قبل القوى الدولية الفاعلة بالدور المحوري للجزائر في ميدان مكافحة الإرهاب، ولعل إشارات لعمامرة إلى استعداد الجزائر للقيام بدورها في محيطها الجغرافي، وربط ذلك بالحصول على الدعم التقني بالأجهزة المتطورة يعكس بوضوح أحد أهم مطالب الجزائر في المرحلة القادمة، وهو التمكن من الوسائل التكنولوجية الملائمة لمكافحة الإرهاب، وهذا التصور يقوم على شقين، الأول هو تعزيز دور الجزائر كقوة استقرار في المنطقة من خلال التنسيق مع دول الجوار ومساعدتها، والثاني هو تعزيز أمن الجزائر من خلال سياسية أمنية وقائية في مجال مكافحة الإرهاب، ولعل الإجراءات التي تم اتخاذها مؤخرا من خلال نشر قوات على الحدود وإطلاق عمليات تمشيط واسعة تشير بوضوح إلى سياسة الانطلاق من مواقع متقدمة في مكافحة الإرهاب.