سلمى الخضراء الجيوسي كان العصر الأموي (40/660-132/750) عصر تشكيل حدثت فيه تغييرات رئيسية في الأدب العربي، شعره ونثره. ففي هذا العصر احتلت قصص الحب في اللغة العربية، خاصة في الحجاز، مكانها البارز من الصف الأمامي.
مشيرةً إلى ظهور تيار عاطفي في الأدب جاء جوابا على القلق العميق الذي استولى على عرب الجاهلية بظهور دين جديد مسيطر على كل شيء، وعلى التغيرات المفاجئة والتناقضات التي أحدقت بالحياة العربية والصعوبة في التكيف مع المدنية الجديدة النامية. أضف إلى ذلك تجريد الحجاز من وضعها السابق كمركز للحياة السياسية، والقلق الذي أصاب أشرافها المحبطين الذين بقوا هناك. لقد حدث صراع سياسي رفع آمال البعض وأحبط الآخرين. كما كان هناك تغير اجتماعي كبير جاء به نمط الحياة الجديد المتمثل بالمدنية الناشئة وقدوم الكثرة من غير العرب إلى المدن التي أخذت تنمو، سواء منها القديمة والجديدة، بمن في هؤلاء الإماء والقيان. لقد كانت هناك مقاومة نفسية لنمط الحياة الجديدة التي كانت تهدّد الموروث والأعراف والعادات الراسخة التي أبدت مرونة أمام التغيير؛ وكانت هناك فرصة تغري بالهجرة إلى البقاع الأكثر خصوبة، بعيدا عن بيئة الصحراء الحبيبة، لكن القاحلة، التي استوطنها تاريخهم وأعرافهم قرونا لا تحصى. وبالرغم من التحسن الكبير الذي غيّر حظوظ المسلمين الجدد وفتح لهم آفاقا واسعة، فإن التغييرات التي فُرضت عليهم قد أربكتهم وأخافتهم وأشعرتهم بالحنين للحياة المفقودة، خاصة حياة البداوة. وكانت ثمة حاجة لدى الأدب للتغيير باعتباره فنا. فبعد كل هذا التحول الهائل، وما كان للغة القرآن وأسلوبه من أثر، برزت ضرورة ملحة للتغيير في مادة الموضوع، وفي لغة الأدب وأسلوبه. كان الأدب يحتاج إلى منافذ مختلفة تعكس العصر الضجِر الجديد. بسبب ذلك كان القلق العام الذي شمل المراكز المختلفة للعالم العربي المتمدد. كانت الحجاز أولى المراكز الجديدة للأدب في العصر الأموي، وهي مولد الإسلام ومهده الأول الذي فقد للتو قوته المركزية للأمويين في دمشق. وكان العراق المركز الثاني، وهو بؤرة الكفاح والضجر الأبدية؛ كذلك تبوأت دمشق، حيث موطن القوة، المركز الثالث. وكان لكل من هذه المراكز صفات أدبية مختلفة. فبينما كانت دمشق تشجع المديح بشكل خاص، فإن شعراء البصرة والكوفة، وكان أشهرهم الفرزدق (24/640-111/729) وجرير (33/653-113/727)، مالوا إلى الهجاء الطريف. أما بقية بلاد العرب، خاصة الحجاز، بلاد الأحلام المحبطة، فقد ركزت أكثر على أدب الحب، وكانت مركزا للموسيقى والغناء وقصص الحب. فإن كان للهجاء العنيف في العراق أثر من رومانسية مبتذلة اكتُسبت مبكرا جدا، فإن نوعا من الرومانسية أنقى وأكثر مباشرة قد أضاء الأدب العاطفي الثر، خاصة لدى العشاق العذريين في العصر الأموي. عزا الكثيرون من مؤرخي الأدب ظاهرة قصص الحبّ بصورة رئيسية إلى أسباب اجتماعية وسياسية: فالحجاز، حيث وُلدت أعظم ثورة روحية، ومن حيث جاءت أقوى اندفاعة إلى العالم قبل ما لا يزيد على بضعة عقود، أصبحت، في العهد الأموي، تعاني مواتا سياسيا بعد انتقال سدّة الحكم إلى دمشق، انتقالا أُريد منه تجريد الحجاز من الزخم السياسي ما أمكن. بيد أنها كانت فترة قلق عظيم للعرب جميعا، وهم من تغيرت حياتهم كلها على مدى جيل واحد فقط. ذلك أنّهم لم يستطيعوا على الفور هضم ما استولى عليهم بهذه السرعة من تغير جذري في كمية الثروة وفي نمط الحياة والآمال، فوجدوا أنفسهم وقد أحاطت بهم القلاقل السياسية، والحروب المدنية، والانقسامات الطائفية. فكان التنفيس عن النفوس المتشنجة مدفوعا بالحاجة إلى الهروب والتعبير الحسي عما يجيش في النفس. ولم يقتصر التعبير عن حالهم على التمرد الشخصي وحده، بل عُبِّر عنه أيضا بالشعر العاطفي الحسي في الحجاز، والشعر الهجائي الذي ترددت أصداؤه في الأسواق الأدبية الشهيرة في العراق، سوق المربد في البصرة والكُناسة في الكوفة. وهذان الجنسان إنما هما نوع من التنفيس، فالعاطفي الحسي والهجائي كلاهما لقيا طلبا شعبيا كبيرا. والكلام عن الحب، في الشعر والنثر على السواء، شكل صفات متناقضة للحب العذري والحب المتهتك، مؤسسا لنمط رائع من التراث العاطفي الذي لا يُنسى والذي انتقل للخلف وبقي حيا أبدا. هنا لا بد لنا من القول إن هذين النوعين من قصص الحب لم يكونا أمويين تماما؛ فالمسرح كان أعد من قبل في العصر الجاهلي بقصص مثل قصة "مداد وميّ" (راجع أدناه) المذكورة في كتاب التيجان. فقد كانت هذه شكلا مبكرا من قصص الحب العذري المأساوي الذي كان له أن ينتشر بقوة في العصر الأموي. إنها قصة حب لم يكتمل بين مداد، وهو شاب من أشراف مكة، وابنة عمه ميّ. وقد انتهت القصة بانتحار العاشقين عطشا. ذلك أنهما، إذ حطمهما اليأس والوجد، امتنعا عن الماء وماتا عطشا كل منهما وحده (وهو ما يُضفي الطبيعة المخالفة للإسلام في القصة). هناك قصة أخرى، هي أقرب للعصر الأموي بسبب علاقة الشاعر المرقِّش الأكبر بها في القرن السادس. كانت قصة حبه لابنة عمه، أسماء، التي انتهت إلى المصير ذاته في قصص الحب الشهيرة الأخرى في العصر الأموي، حكاية علاقة يائسة، إذ تتزوج المحبوبة من رجل آخر، ويصاب العاشق بالهزال بحثا عنها حتى يموت. ولم يبق لنا من شعر هذا الشاعر سوى ست قطع، لكن القصة نفسها سرد جميل معقد. لم تكن القصة عن حب المرقش لأسماء فحسب، بل عن الجشع والخيانة حين يرسله أبوها، وقد وعده بأن يزوجه إياها، ليبحث عن مَهر لها، ثم يزوجها من رجل غني؛ وعن القسوة والخداع حين تتركه الخادمة وزوجها اللذان رافقاه في بحثه عن أسماء ليموت وحيدا في أحد الكهوف؛ وعن إخلاص الأخ حين يكتشف الوضع فيُهرع لمساعدته، لكنه يصل متأخرا. إنها قصة معقدة تصلح لفلم حديث. ومن جانب آخرَ، هناك قصة من العصر الجاهلي أيضا، هي قصة الشاعر المرقِّش الأصغر التي تنتمي لعالم الفاحشة. كان هذا الشاعر على علاقة مكتومة بأميرة يمانية بنت أحد ملوك اليمن، وكان أيضا متعلقا بجاريتها، فكانت قصته أكثر فحشا من أيّ من قصص الفحش التي وصلتنا من العصر الأموي. وقد أحاط والد الأميرة ابنته بسياج من حرس لا يسمحون لرجل أن يدخل المكان. غير أن المرقِّش كان يُحمل لها كل ليلة على ظهر جاريتها. لكن أحد الحراس انتبه إلى أن آثار قدمي الجارية كانت تغوص عميقا في الرمل حين تدخل المضارب، ولم تكن كذلك حين تخرج، وبهذا اكتشفت الحقيقة. وهناك من يعتقد أن هذه هي فاطمة بنت المنذر، ولكن هل كانت حقا أميرة يمانية؟ كذلك هناك رواية أكثر فحشا أن المرقش كان يميل إلى الجارية، هند بنت عجلان، أكثر من سيدتها فاطمة. وكان له صديق يُشبهه تماما هو عمرو بن مالك، أدخله على فاطمة ليختلي هو بهند. لكن عمله انفضح، فعض على إصبعه حتى قطعه. وقد شبب في شعره بهند "أمن بنت عجلان الخيال المطرّح"، وكذلك طلب من فاطمة أن تصفح عنه "أفاطم إن الحب يعفو عن القلى". بالرغم من القيود المفروضة على العشق من قبل قوم كانوا حريصين على نسائهم حتى أن قصصا كثيرة، أغلبها مأساوي، حدثت خلال التاريخ العربي بسبب هذه القيود، فإن العشاق في العصور القديمة ما فتئوا يختارون مصيرهم بأنفسهم، ويتغزلون بمعشوقاتهم حتى تشي عواطفهم بما يعتريهم من شوق قد يبلغ حدّ الجنون، كما كان حال قيس بن الملوّح، المعروف بمجنون ليلى. ذلك أن قيسا، بعد أن زُوِّجت ليلى برجل آخر من قبيلة أخرى، هام على وجهه في الفيافي، باكيا عشقه بشعر جميل يحرك العاطفة. كان حبه، بكل ما أوقع فيه من عذاب، وصلا يشتهيه أبد الدهر. ها هو ذا مجنون ليلى يتمسك بأستار الكعبة متضرعا إلى ربه أن يزيد من حبه لليلى فلا يتزحزح عن قلبه. أما قصة قيس بن ذريح (ت 68/688) وحبه للبنى، زوجته الحبيبة التي لم تلد له ولدا، والتي أجبر على طلاقها بمكائد من لدن والديه وإصرارهما الشديد، فإنها تروي الوجد ذاته وتصور الحيرة عينها، والبحث الجامح عن المحبوبة، والعذاب الذي لا يني والذي شهدناه عند العاشقين الآخرين. والمذهل في هذه القصص ليس فقط ذلك الانتعاش الدائم في كل مرة يلقى العاشق معشوقته، بل حقيقة أنها تكشف لنا إخلاصا لا يحول لدى الرجل العاشق، مكذبة ما يعتبر من صفات الذكورة: التقلب وعدم الثبات في الحب. وقد خلد عدد من هذه القصص المثالية عبر الزمن لأن أبطالها كانوا شعراء مشهورين.(3) ولعل أشهرهم كان جميل بن معمر المعروف بجميل بثينة، الذي بقي على حبه لبثينة حتى وفاته في مصر عام 82/701. وقصة جميل هي القصة ذاتها عن الانفصال بالقوة وعن الإخلاص الدائم. كان جميل رجلا معروفا في الحجاز، فما من شك في أن قصته كانت صحيحة. وقد قال أجمل شعر الغزل وأرقه.(4)
ألا أيها النُّوّامُ، ويحكُمُ، هُبّوا! أُسائِلكُمْ: هل يقتلُ الرجلَ الحبّ؟
قصص الحب المأسوي التي تعكس الأوضاع المتطرفة كانت أيضا تلائم المزاج العام. إلا أن تراكم هذا الكم من قصص الحب المتشابهة تشابها كبيرا تشير إلى بروز نمط أدبي سائد كان يسيطر على اللحظة الأدبية في الحجاز لوقت ما، ثم اختفى. لكن النمط السائد ليس اتجاها. فهو يتشكل في الأدب عندما يتبنى عدد من الكُتّاب في فترة زمنية ما عملا متفردا للتعبير عن شيء مثير وملائم لمذاق سائد، فيدور دورته ثم يخبو حين تدهمه قوى التغيير، وغالبا ما تكون بسبب تعب جمالي. أما الاتجاه، مقابل ذلك، فلا يختفي تماما، بل يتبدد، معطيا الطريق تدريجيا لاتجاه جديد، غالبا ما يكون تصحيحيا، فيتعايش معه لزمن ما. وهذه الحركة الداخلية في الأعمال الإبداعية تبين لماذا نجد دائما في بعض العصور الأدبية القديم والجديد، والتقليدي والمبتكر معا. كذلك تعتبر القصص تمردا ضمنيا على الأعراف الموجودة، واتهاما للمحرمات الثقافية القاسية التي تشدد فيها الإسلام. لكن هذا التمرد لم يُستغلّ قط. فلم يكن هناك تحدٍّ لصاحب سلطة أبوية قاسي القلب أُنزل من سيادته الذكرية؛ كذلك بقيت عفة المرأة العربية إلى الأبد جوهر الأخلاق الرفيعة، وبرهان شرف الأسرة، وميثاق أخلاق لا يُنتهك مطلقا. أمّا الشوق إلى الاختيار في الحب، وإلى بلوغ قمة النشوة، فقد بقي قابعا في الروح العربية زمنا طويلا، متجاوزا الزمن الحضري الغني للإمبراطورية، بنزعته الجنسية الملونة المحرمة، ومحاورته الصريحة للشهوانية، ليعود إلى الظهور ثانية في فترات وأماكن مختلفة في الوطن العربي، ثم ليؤكد قوته بين الشعراء والروائيين العرب في النصف الأول من القرن العشرين.
قصص الحب المأسوية ..
كان الحب العذري الأموي، كما اصطلح على تسميته إشارة إلى قبيلة عذرة في الحجاز التي كانت تفخر بعدد العشاق فيها ممن أهلكهم العشق ("قوم إذا عشقوا ماتوا")، (كان هذا الحب) حربا يُهزم فيها العشاق دوما، وما مقاومتهم وثباتهم إلا رمز لروح مهزومة تجلدت بشهامة. أما التغير في العصر الأموي في الثروة ونمط الحياة واحتمالاتها، فلم يوقف الاتجاه القوي نحو الحب العفيف. ففي النظرة الأولى يحسب المرء أن لا فرق بين قصة وأخرى. فالرجال على العشق ثابتون، وفي الوجد غارقون، ولا عزاء لهم إذ هم متيمون؛ أما النساء فقد كنّ على الأغلب مستسلمات، يعشقن بصمت، وبمعاناتهن الصامتة، وإذعانهن الذي لا منعة له، يهيئن المسرح لملايين النساء في المستقبل العربي الطويل. أما الاختيار في الحب فمحرم على الطرفين. لم يكن للجلد في العشق، وما كان له قط، أن يشوبه الأمل في الوصال والسعادة. فعلى الأغلب أن ينتهي بغير نتيجة، وأحيانا بالجنون فالموت، كما كان حال مجنون ليلى. بيد أن على قصة العشق التي تطمح إلى الخلود أن تدور بحكم الظروف حول الحرمان والخسارة ومحاولة تجاوزهما أو تحديهما بالإصرار القوي على الثبات. فأفضل الأدب وأكثره التصاقا بالذاكرة لا يتخلق عادة من السعادة بكبت العاطفة ومنع الوصال الدائم.. من الممتع جدا أن نلاحظ الأوضاع المتناقضة في العصر الأموي. فبينما كان المسرح الشعبي الأقوى يحدث في دمشق حيث انتقلت سدة الحكم، وعلى التخوم الواسعة للأملاك العربية سريعة التمدد، فقد كان في الحجاز تركيز كبير على التجارب الخاصة جدا، حيث أشارت الرقابة الذاتية (self-absorption) في هذه القصص إلى تراجع عن المشاركة الشعبية، وإلى سماع للصوت الحميم الآتي من العشاق المحرومين، بدل الطاقة النشطة التي كانت تملأ آفاق المنطقة قبل ذلك ببضعة عقود. ويتجلى في هذه القصص جوهر العاشق، وهو موقف يعتبر اليوم علامة للرواية الحديثة. بيد أن علينا أن نتذكر في العصر الأموي، إلى جانب العشق العفيف والفاشل، ذلك النمط المغاير الآخر: بينما كان أولئك العشاق البؤساء، وأغلبهم من البدو، يبكون مصيرهم، كانت هناك، خاصة في مدن الحجاز المزدهرة يومئذ، مجموعةٌ من العشاق الآخرين ذاتُ ثروة محدثة ومندفعةٌ نحو فن الموسيقى والغناء وتعرف جيدا كيف تستمتع بالحياة. وكانت، بقيادة ذلك الشاعر ذي الروح المرحة، عمر بن أبي ربيعة (23/643-93/711)، لا تطيق في العشق صبرا ولا ثباتا ولا وجدا. وكانت الكثرة منهم شعراء، وقد نُسجت حول بعضهم أكثر القصص سحرا. ولقد كانت كلا التجربتين وليدة الدافع ذاته: الحاجة إلى الهروب. وسواء أكانت تلك القصص جميعا حقيقية تعود إلى أشخاص حقيقيين في التاريخ أم لا (بعضها، كقصة جميل بثينة، حقيقية قطعا)، فإن وجودها كقصص مطولة في عصر الشهوانية تبقى الاهتمام الرئيسي لهذا البحث. ولقد كانت تعكس ثقافة شكّلت تجربتهم الوجودية، ليست بكابتة ولا سامحة. بيد أن الشعبية الكبرى، على ما يبدو، كانت لتجربة العشاق الفاشلة والعفيفة الذين حملوا عشقهم المبرح مدى الحياة. وكما قلنا أعلاه، كان هناك فحش حتى في القرن الأول، ولكنه كان في الأغلب مستورا وهذا الجانب من العشق كان له أن يتطور مع الزمن وأن ينحرف جزء منه إلى الشذوذ الجنسي لدى العشاق في طول الإمبراطورية الإسلامية وعرضها، من قرطبة إلى بغداد.