بعد حوالى أربعين سنة على رحيله، بدا جريئاً جداً وملفتاً، أن تتذكر الأوساط الثقافية الفرنسية العريقة، الروائي اللبناني توفيق يوسف عواد، فتبادر «aetes sud»، من كبريات دور النشر في باريس، لترجمة روايته الرائعة «الرغيف» إلى الفرنسية، وتصدرها قبل أسابيع قليلة، حملت مقدمتها شهادة رائعة عن أديب لبناني رائد كشف في «رغيفه» وكما لم يسبقه أديب عربي من قبل، وعموم الأرض العربية عن تحديات ومآسي تستمر حتى اليوم حاضرة حكايات وذكريات أليمة في بيوت اللبنانيين. طبعاً، سؤال بديهي: لماذا «الرغيف» مترجماًً إلى الفرنسية بين عناوين كثيرة أبدعها توفيق يوسف عواد، وفي جميعها تناول قضايا إنسانية من واقع بيئته ومجتمعه، صوّر أحداثها بواقعية وتجرد، وبحروف شكّلت حين صدورها، إنقلاباً جذرياً في المنهج الروائي العربي السائد، أكان تأليفاً أم ترجمة، ما أشر في حينها، وحسب كبار النقاد، إلى ولادة الرواية اللبنانية المرتبطة بناسها وهمومها وأحلاماً وتطلعاتها؟. أول ما يلفت في «الرغيف»، أن توفيق يوسف عواد روائي واقعي مرهف الأحاسيس واللغة، جعل من شخصياته الحية، المتألمة على الدوام، جسر عبور، أدبياً وإنسانياً، إلى مجتمع أفضل ومتطور. ثائر في روحه وفي تطلعاته، متمتعاً بإرادة حديدية وثقة مطلقة بذاته وقلمه. حين كان بعد طفلاً، شاهد بعين مجردة وروح حزينة كيف غزا الجوع بطون الأطفال والشيوخ، ذكوراً وإناثاً، في قريته المتواضعة، والظلم العثماني الذي تحكّم في حينها بالبلاد والعباد، ليس في لبنان فحسب، إنما في الأرض العربية قاطبة. وعندما بلغ سن الرشد استعاد تلك المشاهدات الفظيعة التي جسّدها روائياً في «الرغيف»، فكان بحروفه وأحاسيسه، شاهداً على فترة حاسمة من القرن العشرين حضر الجوع والظلم والموت بامتياز وتنوع في منطقة الشرق الأوسط. ولد توفيق يوسف عواد عام 1911، راقب وعاش وشعر وانتفض سنة بعد أخرى، ليدخل باكراً جداً، في مراهقته، في عداد شبان لبنانيين يتطلعون إلى حرية واستقلال بلادهم، ومع نضوج التجربة وبروحه النهضوية المنتفضة، أشر في كل ما كتبه، وخصوصاً في روايته الرائعة «طواحين بيروت» (1969) للتناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، ليؤكد أن حرباً لبنانية آتية لا محالة سوف تضرب اللبنانيين، آجلاً أم عاجلاً. وكما في «الرغيف» التي قضت على ثلث مواطني جبل لبنان، حذّر في «طواحين بيروت»، وهو بعد سفير لبنان في اليابان القادة والمسؤولين من حرب شرسة اندلعت في 1975، ومازالت تجتّر آلامها وفظائعها حتى اليوم. واللافت أيضاً أن توفيق يوسف عواد لا يكتفي بالسرد الروائي الواقعي والجريء، إنما يجدد في الشكل الروائي بتنظير للغة العربية وإدخالها الحيز الواقعي بعدما سجنت الرواية العربية ذاتها في المواضيع الرومنطيقية، وخصوصاً في «الحب والانتقام» خرج عواد في رواياته من عباءات تكرار المواضيع بلغة مستهلكة وأشكال تغري شباب ومراهقي تلك الفترة فتسرقهم من واقعهم الأليم إلى أحلام عبثية. كان الفعل بمعنى الإنجاز عشقه الروائي على ما يتضمنه من واقعية سوداء وأليمة. وكان في الوقت ذاته قارئاً نهماً، وخصوصاً للآداب العربية والفرنسية. ويذكر عنه أنه في عام 1925، وكان في الثامنة عشرة من عمره عندما ألقى محاضرة عن اللغة العربية والموانع التي تحول دون دخولها أو مشاركتها في الآداب العالمية. طالب بشدة ودافع بلهفة عن لغة عربية جديدة، مرنة ومطواعة، ليجعل من هذه اللغة الرائعة، شريكة فاعلة وأساسية في صنع الحضارات الحديثة. لم يكن راوياً مبدعاً يأخذ قراءه حتى الحرف الأخير من روايته، إنما منتفض على أدباء ولغويين يرفضون دخول الحداثة وبالتالي مشاركة العرب في أنواع أدبية حديثة ومتطورة. أوضح في هذه المحاضرة، أن اللغة العربية التي تشكل أرضنا وذواتنا وهويتنا، يجب تطويرها لمفردات جديدة ومطواعة بما تتطلبه الأجيال الجديدة وتتلاءم مع التطورات العلمية الهائلة التي يشهدها العالم. جعل التجديد اللغوي والأدبي عنوانه الدائم في كل ما كتبه لاحقاً من مقالات وروايات، مع التأكيد والإصرار أمام الكتّاب الجدد، بمن فيهم إعلاميون وكتّاب وشعراء.. كان عاشقاً للغة العربية، لكنه عشق متطور، واقعي وملازم، لتطور الحضارات الإنسانية، السريع والمتنامي، وعلى وقع هذه الانتفاضة، أنهى عام 1936 روايته الإنسانية «الصبي الأعرج» التي تحولت في فترة قياسية، إلى حديث الأدباء والنقاد والطلاب.. وعنها قال في مقابلة أدبية: «هناك علاقة واسعة وأكيدة بين انتفاضة اجتماعية أطالب فيها وبشدة ضد الظلم والتفاوت الاجتماعي بين أكثرية فقيرة وأقلية غنية، وبين ثورة أدبية لغوية تطرح التجديد والخروج بأدبياتنا، شعراً ورواية وقصة وصحافة إلى الآفاق العالمية». أضاف: «أجد قمة التجديد بتحول اللغة عن لباسها الرومنطيقي الحالم إلى لباس واقعي وصادق». وانتهى للقول: «ما لم تتجدد اللغة، فكل مسعى اقتصادي واجتماعي للإصلاح يصبح عبثياً. الحضارة الإنسانية تدين بنجاحها إلى حد كبير، إلى تطور لغاتها وارتباطها بناسها وبيئتها ومحيطها». وتبعاً لقناعاته، تابع توفيق يوسف عواد مساعيه لتجديد حقيقي في الرواية العربية، لغة وشكلاً ومضموناً، أصدر عدداً من العناوين، ومنها «طواحين بيروت» التي سبق ترجمتها إلى الإنكليزية والألمانية والصينية والإسبانية.. لكن «الرغيف» الصادرة أخيراً بالفرنسية، أكدت براعة مؤلفها في نقل الواقع إلى حروف، من خلال مآس عاشها اللبنانيون والعرب في الحرب الكونية الأولى، والتي حملت نتائجها ما تعاني منه اليوم منطقة الشرق الأوسط من رهانات وتحديات. وبهذه الواقعية، وما حملته حروفها من إبداع أدبي ولغوي، توجته الاونسكو عام 1975، في برنامجها السنوي لتكريم المبدعين «الأديب الأكثر التصاقاً بزمنه ومكانه»، داعية لترجمة كل أعماله إلى اللغات العالمية، لتكون رواياته شاهداً وشريكاً في صنع الحضارة الإنسانية المتجددة سنة بعد أخرى. Share 0 Tweet 0 Share 0 Share 0