بدت الأحرف تنقر كوّة الصومعة، وراحت تطوف في تجاعيد دماغه لتنهش ركام الذاكرة فلم يذعن لها، دارت بينهما حرب شعواء، وراحت الأحرف تدنو كفراشة صوب القبس فسرّ لذاته: "أين ستأخذني هذه الأحرف ". فجأة أصبحت فتاة لم تر العين أجمل منها، وقفت وراءه وأطبقت عينيه بيديها، كان يتوق أن تكتحل عيناه برؤية أحرف تتهادى كالأطيار وافرة الهديل في القباب يعانق قرع النواقيس، مع أصوات المآذن، نزولا عند رغبتها نذر نفسه لنقش الأحرف على الصحاف فاستغرق مدة من زمن وهو يحدث نفسه: "هل التراتيل نأت عن الدعاء، وقد أقفلت السماء أبوابها، وما عاد عزف الناي لها معنى الغناء"؟!. أطاع أوامرها وأقلع عن الجلوس أمام شاشة التلفاز، مل من صور قتل الأطفال، وغدت الأيام وافرة بالموسيقى الجنائزية توقع لحنا في قلوب إناس لم يعرفوا معنى الحياة، وقف أمام الكوة ومشبك الذاكرة معلق في العراء، ضرب الجدار بيده قائلا: - من أفتاهم أن يقتلوا العصافير. كان صبورا على الأذى وفي ظلمة روحه يهيجه الحداء، كان ينظر حوله ومن خلال كوته يرى أسراب النوارس تستجم في البحيرة، وعشرات الحقائب معلقة في العراء، ومئات من العصافير تعوم بالدماء، تعمد أن يفعل شيئا أمام حقائب المدعوين والمصورين حتى آخر ورقة من التوت. نظر إليهم بغضب ليضعهم في حقيقة أن الأرض آخذة بالجفاف، فلم يدر أن في آذانهم وقرا، فتراكمت الأحرف في مخيلته حتى غدت تنبؤاته كقط بري جاء المدينة في ساعات الأصيل، سمع صوت "منار" فنادى عليها: - تعالي لتقبلي حجارة البراءة الطاهرة. كانت منار ذكية وحصيفة، رفعت رأسها لتتبين مصدر الصوت، فقالت: - علام؟. - خيط الحياة مستمر. - لكن الفجيعة أليمة. - ورغم ذلك فبتلات الياسمين تستقبل ذرات الطلع. كان اللهب يضطرم من حولهما، والهواء مطعما برائحة الدم، ودموع الثكل تجففها النسمات، فغدت كل دمعة تشع بريقا، وستغدو عاصفة، فأخذت منار تتضرع للأمهات تسجد أمام أقدامهن، وهن ينشرن جنازات فلذات أكبادهن كفلاحة تنثر القمح في أرض طيبة، وجماعات من النحل تسعى لتجمع الرحيق قبل الإعصار، لكن الحريق كاد يلتهم كل شيء، فبدت النساء يتبارين في الولادات، وهن في لهفة انتظار أولادهن قبل الاقتحام، يؤلفن الأغاني قبل المهرجان: "المجد للمقاومة". قالت منار: - السؤال سيد الكلمات. ردّ صابر: - تجمعت الأحرف فأصبحت أفكار زغردت لها بنات الحقول. كانت جعب الأطفال مزدانة بحجارة قلعوها من رأس الجبل ليسهل عليهم صبغه بالدم، بعد أن لمستها أياديهم الطاهرة، حجارة كانت من صلصال، صرخت منار: - أنتم يا من اكتشفتم القارة العمياء ألا يعنيكم براءة الأطفال.. تعالوا لندخل معمدان الموت من أجل أن تحيا الطفولة.